الأصالة والحداثة في فكر الامام الشيرازي (قدس سره)

من السهولة بمكان أن تستحضر محوراً وتحوم حوله محرراً ومقرراً، إذا كان من تتحدث عنه شخصية ذات بعد واحد أو أبعاد قليلة، خاصة إذا كانت الصبغة العامة لتلك الشخصية صبغة فردية بأن كان مشروعاً لا يتعدى مساحة ذاته، أما إذا كان رجلاً متعدد الأبعاد وصبغته ذات أفق يتعدى حدود الذات ليستوعب المساحة الأوسع للأمة، فإن تكوين المحور الأبرز بالنسبة إليه يتعسر شيئاً ما، ما بالك إذا كان محور الحديث يعني بمن يصدق عليه بكل جدارة عنوان "رجل تاريخ"، كالإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي "قده"، فإن استلال بعد محوري من خلال التأمل في تجليات مسيرته المتكاثرة الأبعاد والمحاور يزداد تعسراً وصعوبة، لأن المطلوب إبراز محور كان له أبلغ الأثر في مسيرته، محور يؤثر في تفكيره وفي مواقفه وفي ثباته على خط واحد وفي إبداعه وما إلى ذلك، والتوصل إلى كل ذلك من خلال الاستقراء التحليلي لتفاصيل مسيرة رجل تاريخي يفتقر إلى شيء من المؤونة.

إنني أجد نفسي وأنا أتأمل مقتطفات هذه المسيرة واقفاً بحق أمام رجل تاريخي قلما تجود بأمثاله الأزمنة، وقد دفعني ذلك للتفتيش في ثنايا مسيرته للوقوف على بعض مميزاتها الحقيقية وأسرارها الجوهرية.. وهذا أقل شيء يستحقه، فرجل التاريخ يفرض على العاقل نفسه لينشغل عقله بالتحليل والتدبر وجمع الخيوط في خضم مسيرة شائكة يسطرها ذلك الرجل.

رجولة تاريخية في زمن السكون:

في ستة عشر آية قرآنية يتحدث الباري جل وعلا في سورة مؤمن "غافر" على لسان رجل عاش في غابر الزمان -وهو حزقيل مؤمن آل فرعون-، لينقل صرخته الدينية إلينا، الصرخة التي صدح بها في زمان كثر ناسه وقل رجاله، في زمان لم يتخط أحد حد المألوف، الصرخة التي جعلت من صائحها رجلاً قادراً على الخروج عن المألوف الخاطئ مع كثرة مريديه وانعدام رافضيه -لولا صرخة آسية بنت مزاحم التي ماثلته في موقفه لتصبح امرأة تاريخية- (كن في الناس ولا تكن معهم).

خرج عن المألوف الخاطئ ونادى بالحق مع ما يحيط به من ظروف قاسية، فجعله الله سبحانه وتعالى مثلاً للإنسانية حين تحدث عنه في سورتين من قرآنه العظيم، في سورة القصص التي ظهر فيها إنسانياً مناصراً للحق وأهله كما قال تعالى: ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين، وفي سورة مؤمن التي برز فيها كانسان نهضوي يدفع مجتمعه نحو الهداية والقيم الدينية الأصيلة، حيث قال على لسانه الباري جل وعلا ﴿وقال الذي آمن يا قوم أني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب... وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد.. وبهذا أصبح رجلاً تاريخياً، بمعنيين ينطوي عليهما هذا العنوان، التميز على مرحلته التاريخية وبروزه كاسم له نوعيته الخاصة بين معاصريه، وتساميه كاسم وفكر على زمانه ومكانه لتصبح تجربته أرثاً إنسانياً تهتدي بها الأجيال على مر التاريخ.
هكذا تكون الرجولة التاريخية.. وفي سياقها لمع فقيدنا الراحل، فبالعديد من فعالياته ومواقفه المتميزة فرض نفسه على التاريخ كواحد من ألمع رواد النهضة الإسلامية وقادة مسيرتها ومؤسسي فكرها المتعدد الأبعاد، فقد أصبح رجلاً تاريخياً بالمعنيين المذكورين: التميز في عصره والتسامي عليه، ومرجع ذلك أمور عدة:
 في لحظة من لحظات السكون السياسي والثقافي الذي كانت تعيشه الحالة الإسلامية، وقف الإمام الشيرازي وأعلن صيحته بمواجهة الواقع الخاطئ في الأمة، بما يشمل الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، فقد استشعر قول الله تعالى: ﴿يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ونهض جاهداً بمختلف مشاريعه لفك الأغلال السياسية والثقافية والاجتماعية التي تكبل عقول ونشاطات الأمة، ومعالجة الآصار والأمراض النفسية التي تمنع الأمة من الانطلاق والتغير.. فقد كانت الساحة في حالة من السكون والتراخي حين تقدم الإمام الراحل بمشاريعه النهضوية عبر قلمه ونشاطاته ومؤسساته ورؤاه التعبوية، ولهذا لم تستوعب في اللحظة الأولى، ولكن الأيام كانت كفيلة بتحويلها إلى فكر عام ينهل منه القاصي والداني وتتربى عليه العديد من الأجيال على مدار السنين.

 تقدم الأمام الراحل من خلال عطاءاته الفكرية بالعديد من النظريات المتميزة، ولا مجازفة أن تعرّف بالنظريات الشيرازية، فقد عرفت به وعرف بها، وكانت من أوليات أفكاره التي نادى بها منذ اللحظة الأولى لانطلاقته، وبقي ينادي بها حتى وافاه الأجل المحتوم، وإني أتذكر بهذه المناسبة سؤالاً وجهته إليه يوماً عن نظرياته الأم وإلى متى سيبقى ثابتاً عليها، فأجابني قائلاً: حتى الموت.. وكان من روائع تلك النظريات ما طرحه حول منهجية اللاعنف في العمل الإسلامي، وحول مسلكية الشورى في الإدارة السياسية للمجتمع الإسلامي، إضافة لما غطاه على صفحات كتبه -بالذات موسوعته الفقهية الشهيرة- من نظريات إبداعية في السياسة والاقتصاد والحقوق والاجتماع والإدارة والعقائد وما أشبه.. فهذه النظريات جعلت منه نوعية متميزة في الساحة الفكرية والاجتماعية وسجلت له حضوراً مميزاً في الوسط الثقافي على مستوى الساحة الإسلامية، وقد ألمح إلى ذلك إبراهيم يزدي في تأبينه للإمام الراحل عندما أكد بأن المثقفين الإيرانيين كانوا باستمرار يلاحقون كتاباته وأفكاره ويتأثرون بها، كما أن هذه النظريات ستجعله سامياً على لحظته التي عاشها ليبقى بفعل أفكاره شاخصاً أمام الجميع متعالياً على الزمان والمكان كما هو شأن الرواد الكبار للنهضة الحديثة.

           تمخض عن نشاطاته وفعالياته التي امتدت على مساحة زمنية قاربت النصف قرن مدرسة فكرية واجتماعية لها معالمها الخاصة وكفاءاتها المتميزة كمّاً وكيفاً.. فلكثرة إنتاجاته على المستوى البشري من الفقهاء والقيادات والطلائع، وعلى المستوى الفكري من الموسوعات والكتب، وعلى المستوى الاجتماعي من المؤسسات والمشاريع، تولّدت مدرسة فكرية واجتماعية، وهذه المدرسة ستكون الامتداد الطبيعي لرمزية الإمام الشيرازي وفكره، ما سيجعله قابلاً للتمدد على مستوى الأزمنة والأمكنة المتعددة كما كان ذلك تماماً في حياته.
 فكل ذلك جعل من هذه الشخصية العملاقة التي ملأت عصرها نشاطاً وفاعلية، رجلاً تاريخياً يتجاوز تأثيره حدود المكان والزمان، بمفاد ما ورد عن الإمام علي : "هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة".. ذلك يجعلنا نقف متأملين فيما تجلى عن هذه الشخصية من معان، إذ أن في بعضها يكمن سر تألقه.

نموذج للتوفيقية الرشيدة:

لربما ينظر بعض المعاصرين -كما قد يستشعر ذلك من بعض كتابات الدكتور محمد جابر الأنصاري أو بعض من كتب عنهم- إلى أن التوفيقية بين الأوجه الفكرية منهج تلفيقي لا علمي، لأنه يعمد إلى الجمع بين الأضداد والمتناقضات، وذلك يدل على عدم وضوح في الرؤية، بل قد ينبئ عن تردد نفسي وعدم شجاعة في إعلان الموقف الفكري الصريح.. ولكن هذا الادعاء على إطلاقه غير تام، فالتوفيقية في بعض أوجهها قد تكون نموذجاً لمثل هذه المحاذير، ولكنها في وجوه أخرى تعد من أعمق المواقف الفكرية وأكثرها علمية، وحينئذ ينظر إلى التشبث بالوجه الأقدم على أنه نوع من التحجر والسلبية، والانتقال المطلق إلى ضده على أنه تبعية وضعف.
فما ظهر عند بعض الاتجاهات الموغلة في القدم من رفض مطلق لكل أوجه الحداثة، لا يمكن النظر إليه على أنه شجاعة علمية، بل هو إلى اللاعلمية أقرب، وأظن أن ما وصف به الشيخ محمد عبده اتباع هذا المنهج من أبناء الأزهر في عهده قريب من الصحة، فقد أعتبرهم "أضيق عطنا -أي أفقاً- وأحرج صدراً من المقلدين! فهم وإن أنكروا كثيراً من البدع، ونحّوا عن الدين كثيراً مما أضيف إليه وليس منه، إلا أنهم يرون وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد والتقيد به دون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدينة أحباء".
كما أن الانتقال المفرط إلى الحديث المقرون بالرفض المطلق للقديم بمجرد الانفتاح على بعض ما يوصف بالحداثة، لا يمكن اعتباره منهجاً شجاعاً خاصة إذا كانت تلك الحداثة تشكو من الكثير من عوامل الضعف، وذلك من قبيل ما ظهر في كتابات سلامة موسى مثلاً، الذي قال في كتابه " اليوم والغد" بمجرد أن انفتح على المجتمعات الأوروبية: "وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، لأنها تقوم على أصل كاذب، فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا.. ونحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان.. وحكومة ديمقراطية برلمانية، كما هي في أوربا، وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد أو المأمون، أوتوقراطية دينية.. إنني كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي: يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بأوربا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوربا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها، وهذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي، سراً وجهراً، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب".
أمام هذين الضغطين عاش الإمام الراحل، ولكنه خرج بتوفيقية رائعة، فكانت الأصالة القوة التي يستمد منها مبادئه وقيمه، ويهذب بواسطتها الحداثة التي عاصرها، في حين كانت الحداثة المنشط الفعلي لأصالته، فمن خلال الأصالة نظر إلى الحداثة، ومن خلال الحداثة فعّل الأصالة.. وذلك إنما يدل على الثقة العالية بالذات الفكرية، فالأصالة في نظره عبارة عن القيم الدينية المقدسة التي وضعها خالق العقل، والتي تستند إلى تاريخ عريق ورموز شامخة، وهي ليست من الضعف بمكان بحيث تذوب أمام أبسط مواجهة مع الحديث، بل هي قيم متينة تنزل بشجاعة أمام كل الحالات المتطورة والأفكار المستجدة وتبقى ثابتة، وهي قادرة على استيعاب كل ما تأتي به الحداثة، فهي قيم تتجاوز حدود الزمان والمكان.. وأما الحداثة فيمكن تغطيتها بهذه القيم كي تصبح حداثة دينية، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون للحداثة أثر على الأصالة، لأنها قد تفتح آفاقاً جديدة فتتمدد الأصالة من خلالها وتنفك بعض ألغازها.. وكل ذلك ظهر من خلال كتابات الإمام الراحل، لدرجة أن فقهه -الذي تتشكل فيه الأصالة بعمقها- تألق فيه الجانب الحداثي بشكل واضح، باعتبار أنه استوعب الكثير من المستحدثات الفكرية وصاغها بما يتناسب وأصالته، فحرر سياسة إسلامية من خلال "فقه السياسة"، واقتصاد إسلامي من خلال "فقه الاقتصاد"، ومجتمع إسلامي من خلال "فقه الاجتماع"، وقانون إسلامي من خلال "فقه القانون"... وهكذا.. وقد ألقى هذا المنهج بظلاله حتى على تفكيره العملي، ففي مشروعه التغييري ونشاطه الاجتماعي الذي يهتم بتعميق الأصالة الدينية وتجذير روح الإيمان بين أبناء الأمة وتحكيم الإسلام في الحياة السياسية والاجتماعية، كان للجانب الحداثي حضوره الواضح، من خلال التأكيد على الجنبة المؤسساتية في العمل، والاستفادة من الوسائل المعاصرة في التبليغ كوكالات الأنباء والفضائيات وشبكات الإنترنت المتعددة اللغات والصحف والمجلات العالمية وما أشبه التي طالما كان يدفع وبقوة المقربين منه لتأسيسها.
 وهذه هي توفيقيته فيما بين الأصالة والحداثة، وقد أكسبته -هذه التوفيقية- قدرة على الاستجابة لمتطلبات العصر الكثيرة، وواقعية في البحث الأكاديمي.

وإنما أؤكد على هذه التوفيقية من بين سائر مكونات فكره وشخصيته "رحمة الله عليه"، لأن لكل من هذين القطبين -الأصالة والحداثة- ضغطه، ويمكن أن يستفرد بالمتعامل معه ويحجبه عن رؤية ما عداه، إلا أن فقيدنا الكبير خاض عبابهما ووفق بينهما بجدارة.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن توفيقية كهذه تفتقر إلى قدرة هائلة من الدقة والمتانة العقلية، فالتمييز بين موافقات ومختلفات القطبين، والقدرة على التوليف بينهما من غير تشويه للأصالة ولا إضرار بالحداثة، ينبئ عن قوة في الفكر والنظر، وموسوعية في المعرفة.. 


وبالتالي أصبحت هذه التوفيقية مبدأ من أهم مبادئ المدرسة الفكرية التي أرسى دعائمها الإمام الشيرازي، وسراً من أسرار تكوينه الشخصي والاجتماعي.. وبالطبع هي توفيقية لها خصوصياتها الكثيرة التي يمكن أن تتجلى عند النظر والمراجعة التطبيقية، وهذا ما يدعونا للتأمل فيها بشكل أوسع، وبحثها بطريقة شمولية تطبيقية تستوعب فقهه وفكره واستراتيجياتهه.