زوال المركزية من فعل الاجتهاد في الفكر الشيعي الديني

حسين أحمد بزبوز *

      عندما ظهرت التخصصات العصرية، و زالت الشمولية المعرفية، كان من الطبيعي أن ينادي علماؤنا الشيعة و مفكرونا للتخصص في الاجتهاد. و عندما ظهرت المؤسسات، و انتشر العمل المؤسسي، كان من الطبيعي أن ننادي لمأسسة الحوزات الدينية. و اليوم وقد غدا العالم يخطوا خطوات أكبر، و يستشرف آفاق أوسع، من الطبيعي أن نساير هذا التطور و التغيير.

       اليوم و بعد قراءة مقالة رائعة كتبها الأستاذ أسعد الوصيبعي، تحت عنوان 'أسواق الابتكار العربية الخالية'، قدحت في ذهني فكرة، تعطي تصور للتطوير المنشود للمؤسسات الدينية - إن صحت هذه التسمية-.

       طبعا قبل إلقاء الضوء على تلك الفكرة، أو ذلك التصور، لا بد من الولوج إلى بعض المسارات الفكرية، لإعطاء صورة أو تصور لطبيعة المسارات التطورية الحاصلة فوق أرض الواقع المعاصر. و من أجل هذا سأعمد لطرح عدة مشاهد أو شواهد، كفيلة ببيان المقصود من حديثنا هنا في هذا المقال.

  •  المشهد الأول:

       نقلا عن مقال الأستاذ أسعد الوصيبعي: (في كتابهما المشترك (wikinomics)، استعرض كل من دون تابسكوت وأنتوني ويليامز كيف أن المشاركة في العمل والإنتاج غيرت كل شيء. واستعرضا كيف قامت كثير من الشركات بتبني برامج المصادر المفتوحة، أو فتح أبوابها أمام الجماهير من علماء ومفكرين ومبرمجين، وغيرهم للمشاركة في وضع الخطط والحلول بدلا من الإنفاق على مراكز الأبحاث والتطوير.

 من تلك الأمثلة، ما قامت به شركة التنجيم عن الذهب (Goldcorp Inc.) في كندا بعد أن انبهرت بالكيفية التي تمكن بها نظام تشغيل مجاني قائم على تضافر الجهود من مختلف أنحاء العالم بمواجهة ملايين الدولارات التي تنفق في مراكز الأبحاث، وتبنت الشركة نفس الطريقة. فبدأت بنشر كل الخرائط الجيولوجية للأراضي التي تمسحها منذ عام 1948 إلى عام 1999. نشرتها علنا على الانترنت وطلبت من العلماء والباحثين مساعدتها في العثور على أمكان تواجد الذهب. وقد أعلنت الشركة عن جائزة قدرها أكثر من نصف مليون دولار لمن يرشدها إلى مكامن الذهب. وخلال أسابيع انتشر فيها الخبر، تلقت الشركة العديد من الاقتراحات ليس من جيولوجيين فحسب، بل من طلاب جامعات واستشاريين، وعلماء رياضيات، وعسكريين متقاعدين وغيرهم من أكثر من خمسين دولة. يقول ماكوين رئيس الشركة وصاحب الفكرة “لقد طبقنا الفيزياء، والرياضيات، وأنظمة الحاسب، وأنظمة الرسم والذكاء الاصطناعي، والكثير من الإمكانيات التي لم تخطر ببالنا من قبل ولم نرها في هذه الصناعة” ويتابع “حين رأيت النتائج كدت أسقط على الأرض، لقد استطاع المشاركون تحديد ما يقارب 110 موقعا، نصفها لم تحددها شركتنا من قبل كمكامن للذهب، وأكثر من 80% من المواقع قادتنا إلى كميات كبيرة من الذهب، منذ أن تم الإعلان عن هذه المسابقة، اكتشفنا ما يقارب 8 ملايين أونصة من الذهب، ووفرنا سنتين إلى ثلاث سنوات من البحث والاستكشاف”.) (1).

  •  المشهد الثاني:

      ما هي الويكيبيديا؟: (ويكيبيديا هي موسوعة حرة مجانية يحررها قرائها. هذا الموقع هو موقع ويكي، يعني ذلك أن أي شخص، من ضمنهم أنت، يستطيع تحرير وتعديل كل صفحات الموقع تقريبا.) (2).

  •  المشهد الثالث:

      مشهد الويكيبيديا العربية: (41,707 مقالات هذا هو إجمالي المقالات الموجودة في القسم العربي من موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية. الرقم ضئيل جداً والموسوعة فقيرة بالمقالات العربية، إذ إن القسم الإنجليزي يحتوي على أكثر من مليوني موضوع، والقسم الفرنسي يحتوي على أكثر من نصف مليون موضوع. انطلاقاً من هذا الواقع قرر «منتدى صوتك» إطلاق حملة لتحسين و إغناء الموسوعة بالمقالات والمواضيع المكتوبة باللغة العربية.) (3).

  •  المشهد الرابع:

      ما هي اليوتيوب؟: (اسم سطع في عالم الانترنت لتصبح بين عشية و ضحاها أكبر مستضيف لملفات الفيديو المنتجة على المستوى الشخصي في العالم.

  و تدخل في مصاف كبريات الشركات التقنية ذات الوجود المؤثر في عالم الانترنت على المستوى العالمي

 .. لقد بدأت YouTube كمقدم لخدمة مشاركة ملفات الفيديو الشخصية و امتدت اليوم لتصبح من كبريات مقدمي خدمات الفيديو الترفيهية في العالم ..

  •  البداية

 مهاجر من التيوان أتى إلى أمريكا لحياة أفضل وفعلا حقق أمنيته عندما فتح موقع الفيديو الأكبر عالميا يوتوب. بعد سنتين فقط أصبح مشهورا جدا. يوتوب كان يعتبر اختراع السنة, 'Invention of the year', وباع الموقع ب 1,65 مليار دولار.) (4).

  •  المشهد الخامس و الأخير:

      عودة إلى مقالة الأستاذ أسعد الوصيبعي: (يقول المؤلفان في كتاب wikinomics : إن شركة مثل شركة تصنيع السيارات الفخمة BMW أو شركة تصنيع الطائرات Boing، لا تصنعان أكثر من 25% من أجزاء السيارات أو الطائرات التي تحمل أسماءها. فشركة BMW تستعين بشركات أخرى في تصنيع كثير من أجزاء السيارة فيما تركز هي الجهود على التسويق والتصميم الهندسي للأجزاء الحساسة. وإذا عرضت الشركة صورة لخط إنتاج السيارات، فالاحتمال الأكبر أن هذا الخط تابع لشركة أخرى تتعاون مع BMW لتصنيع جزء من أجزاء السيارة.

إن الأمثلة لا تنطبق اليوم على مجال التقنية فحسب، بل تتعداها إلى مجالات مختلفة استطاع فيها تضافر الجهود إلى خلق عمالقة جدد وإسقاط كل ما بني في العهود الماضية.

 وربما يكون المثال الأبرز هو الموسوعة المفتوحة (wikipedia) في مقابل الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Britannica). فقد فاق حجم المواد المكتوبة في ويكيبيديا (بأكثر من 200 لغة) أكثر من عشرة أضعاف المواد في الموسوعة البريطانية. وفي الوقت الذي كتبت مواد ويكيبيديا بواسطة الجماهير العادية، إلا أن نسبة الخطأ فيها ( معدل 3.86 أخطاء في المادة) مقاربة لنسبة الخطأ في الموسوعة البريطانية (معدل 2.92 أخطاء في المادة). بالإضافة إلى الميزة الأبرز في موسوعة ويكيبيديا وهي أنها تصحح ذاتها على مر الزمن.) (5).

       هنا و بعد هذه الإطالة التي أراها ضرورية، لتتضح الرؤية، عبر بناء خلفية ذهنية قابلة لفهم محور الحديث، و مضمون المقال، و بعد تأسيس رؤية عصرية واعية للزمان و المكان، و خلق نوع من التقارب الفكري بين الكاتب و القاريء، و إيجاد نوع من المشاركة في المفردات الذهنية، يحق لي بعد هذا أن أقول:

 لقد تجاوزت الحوزات، أو المؤسسات الدينية، و رجال الدين، كل الدعوات السابقة الداعية إلى التطوير و مواكبة الزمن. فلم تلبي دعوات التخصص في الاجتهاد أو في الفروع الفقهية، التي أطلقها أمثال الشهيد المطهري (6)، و لم تلبي دعوات مأسسة الحوزات العلمية التي أطلقها أمثال السيد محمد الشيرازي (7)، و يبدوا أننا بعيدون كل البعد عن تفعيل فكرة كفكرة إزالة المركزية من فعل الاجتهاد في الفكر الشيعي الديني، عبر فتح الباب أما الجمهور الشيعي، من علماء و مفكرين و مثقفين و متخصصين و أصحاب رأي، للمشاركة في صنع القرار.

 طبعا لا يعني ما ذكرناه سابقا المطالبة بشطب دور رجل الدين، و لا المطالبة بإلغاء المدارس الدينية، أو الحوزات العلمية. بل المقصود الانفتاح على الجمهور، و إشراكه في عملية البحث و الاستدلال و إبداء الرأي، ووضع جميع الدراسات و البحوث الحوزوية أمام الجميع، و مطالبتهم بممارسة دور النقد، بإبداء الملاحظات. للاستفادة من عقول العلماء و المفكرين و المثقفين و المتخصصين، كل منهم حسب قدراته على العطاء و البحث، في السياسة أو الاقتصاد أو علم النفس أو علم الاجتماع ... ، و الاستفادة من الجمهور و العوام و دراسة ملاحظاتهم من خلال واقع التجارب العملية التي هم أعرف و أدرى بها، بحيث تكتمل هذه الأفكار و تختمر في النهاية في عقول لجنة متخصصة من علماء و أساطين الحوزة العلمية الواعين و الأكفاء و المتخصصين، العاملين وفق نظام معرفي تنظيمي يرقى لمستوى العصر، و يجاري مراكز الأبحاث العلمية المعاصرة في مستويات التنظيم و الأداء.

 طبعا هذا الكلام قد يبدوا مثاليا جدا، خصوصا عندما ندرك واقعنا الديني كما ندرك واقعنا السياسي أيضا في العالمين العربي و الإسلامي، من حيث التخلف الملحوظ، و البطء في اتخاذ و تنفيذ القرار، و البعد عن روح و وعي العصر.

 فالمؤسسات الدينية أو الحوزات، ليست بعيدة عن واقع الأمة و تأزماتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعرفية، فهي تعاني أيضا ما يعانيه العرب و المسلمون على كافة الأصعدة الأخرى، فهي لم تخطوا خطوات تذكر باتجاه تفعيل دعوة التخصص في فروع الفقه، و لم تتحرك حراك جيد على مستوى مأسسة الحوزات الدينية، فهل ننتظر منها القيام بدور أكبر يتمثل في الانتقال و لو خطوات يسيرة من نظام مركزية الاجتهاد في (الحوزات الدينية و المرجعيات)، باتجاه أي شكل آخر من أشكال اللامركزية، و الانفتاح على الجمهور، و نحن لازلنا نعاني أشد المعاناة حتى مع أبسط خطباء المنبر الحسيني، الرافضين فكرة النقد من قبل الجمهور، و المحتكرين لها ضمن فئتهم الخاصة، هذا إن صدق هذا الإدعاء فعلا، عمليا على أرض الواقع، بخصوص قبول الخطباء نقد بعضهم البعض.

 إن المستغرب أننا لا نريد أن نطلق أية أفكار تطويرية جديدة، خصوصا تلك التي تشرك الجمهور حتى في مجرد إبداء الرأي، بل حتى النخب المثقفة منهم، و المتخصصين في مختلف شؤون الحياة، و رجالات الفكر و القلم و الإبداع، فحتى هؤلاء نرفض دورهم أيضا.

 فلماذا لا يكون لنا ويكيبيديا شيعية مثلا، أقصد مواقع معلوماتية حوزوية نشرك من خلالها الجمهور في البحث و الإنتاج، أو أقلا التعليق على ما يبحثه العلماء، و ما يستنتجونه و يتوصلون إليه.

  و كي تكون الفكرة أبسط، لماذا لا نضع (العروة الوثقى) مثلا أو (الرسائل العملية) أو (الموسوعات الفقهية)، أو بحوث المجتهدين في الفقه، أو كلها مجتمعة، مبوبة و مفهرسة وفق نظام يسمح بإضافة الحواشي و التعليقات، و طرح الآراء و الملاحظات، و عمل الدراسات و الأبحاث، و إدراج المقالات، وفق نظام نمو شبيه بالويكيبيديا على سبيل المثال، متاح و مفتوح أمام مشاركات و إبداعات الجمهور العريض عبر هذا العالم الرحب الكبير.

 لكن ألسنا عربا و مسلمين؟!، فإذا كانت الويكيبيديا العربية فاشلة، و كانت نداءات التطوير في المؤسسات الدينية العربية و الإسلامية ميتة، فهل ننتظر المزيد من التطوير و التفعيل، أم يجب أن نعترف بالواقع، فمشكلتنا نحن العرب و المسلمون مشكلة عقول أكثر من أي شيء آخر، ففي الوقت الذي بات فيه التطور يعبر الحدود غير عابئ أو معترف بحدود و أنظمة السياسة أو الاقتصاد أو غيرها، لم نحرك ساكنا، ولم ننتج حتى ألعاب رقمية تعبر الحدود، و تطور ذاتها عبر الجمهور، كلعبة (club-penguin) (8) مثلا، فتكسب و لو جزءً يسيرا من النقود.

 إن هذا الوضع المتأزم لأبعد الحدود الذي نعيشه، لا يدفع الآخرين فقط لعدم احترامنا أو تقديرنا، بل إن استمراره على ما هو عليه، سيدفع حتما حتى أبناء جلدتنا في نهاية المطاف خصوصا اليافعين منهم للتخلي و التنازل عنا و عن أفكارنا و عن عاداتنا و ثقافتنا و تقاليدنا، و ربما ترمي تموجات الأزمة بالكثيرين في نهاية المطاف، في أحضان الطامعين و العابثين، المستعمرين لضعفنا و جهلنا. و عندها لن نستطيع القول إلا: 'على الإسلام و المسلمين و ثرواتهم السلام'.

(1) موقع دروب الإلكتروني - أسواق الابتكار العربية الخالية:
http://www.doroob.com/?p=21279
(2) نقلا عن موقع ويكيبيديا - ترحيب بالقادمين الجدد.
(3) جريدة الأخبار – (ارفع «صوتك» تنقذ «ويكيبيديا» العربية):
http://al-akhbar.com/ar/node/48159
(4) Syria-news - قصة يوتوب و مؤسسيها الثلاثة:
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=63142
(5) نفس المصدر الأول.
(6) دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقا لمذهب أهل البيت - الفقه الإسلامي وتحديات التجديد
عند الشهيد مرتضى مطهري – حيدر حب الله:
http://www.islamicfeqh.com/al-menhaj/Almen34/34000001.htm
(7) موقع مؤسسة النبأ الثقافية - ملامح نظرية المرجع الشيرازي في تطوير كربلاء المقدسة ومناهج الحوزة- كريم المحروس:
http://www.annabaa.org/mlf/anniversary/1427/015.htm
(8) club-penguin: عالم افتراضي متميز و معه شبكة اجتماعية، لشريحة الأطفال وصغار المراهقين من الأعمار بين 6 إلى 14 سنة. و كدليل على نجاحه فقد تم الإعلان مؤخرا عن استحواذ شركة 'ديزني' عليه وشرائها له في صفقة بقيمة 700 مليون دولار.