كانت الدنيا لنا منقادة يا زينب ،،

عقيلة آل حريز *

محال أن تركن حياتك للموت .. للغياب .. للإنزواء .. أن ترحل بعيدا عنا .. أن تصبح كغيمة مثقلة بالمطر تسافر سريعا وتتركنا عطشى تتصفحنا الشمس الحارقة بلا رحمة .. تعرف أنك قادر على أن تصنع لنفسك أجنحة تحلق بها في سماء متسعة رحبة تحتضنك .. أن تمتد كسهل واسع يفترش الحياة على امتدادها .. أن تتصلب كجبل شامخ لا تطاله العيون من هيبته .. أن تعتلي عرش أباك وجدك فكلنا معك لن نركنك للدعة كما فعل الناكثون ..

 كم أود لو تفقأ عين الكلمات .. تتصدى للفعل بمنعه .. أن تنهي كل هذا الذي تعرف أنه ينتظرك من وجع .. أن تغير وجهتك وأن نحتفظ بك ... أن لا تتركنا في صخب المسافات تأكلنا الحيرة برحيلك .. لا أود أن أزف بهجتي بك بعد رحيل والدنا نحو الموت فتننطفئ من ذكراه شمعة نفيسة تقتاتها ليالينا لتنير سماء العتمة ، فوجودك يسند حطامنا في الدنيا ..

لا تترك الأسئلة تحاصرني - أخي - بلا إجابة .. يلزمني وقت لأفهم معنى الصمت القادم .. لأترجم تسرب الأشياء من بيننا دون مبررات مقبولة يدركها العقل .. أن أفهم تقلبها وتواريها بعد توهج النور وسطوعه في الوجوه .. أن أفهم الشرود الملتحف بقلوب جوفاء لا تفقه سوى أحرف الكلمات دون فهم لمعانيها .. أوتكون الأمة مسحوبة بواقع مهزوم نحو الإنكسار يستعملها بسذاجة أصحاب السلطة المعوجة الراسخون في الغي .. فتتوه عن معالجة الحقائق وتضيع أصول الحقيقة ! .. قبح لها إن فعلت ..

 آه ....

بدأت الحكايات تصدق ، كل القصص التي تلاها جدنا تحققت ، رحيله ، ثم أمنا غاضبة ووالدنا يهوي بالشهادة في سجوده يكتم آهاته بحسرات تتوالى وينكت بها الأرض يستودعها سره .. وها أنت تخبرني عنك فاجعة أخرى .. قل لي بربك ، كيف لي أن أحتملها ..

آه أخي ، تزاحمني الدنيا فترتفع في القلب كثبان من ضيق تعلو وتهبط ، حتى تتجمع بداخلي في منعطف يحملني على البكاء، وفي أقصى إنحداره تترجم  بعض الكلمات نفسها فأعيد صياغتها بطريقة جمع الحقائق لعلي أستوعبها .. فلا أحسن ..

 كيف لهما أن يتآمرا عليك ، كيف يمكن أن يتسلقا أنفاسك الزكية في فضاءات الظلام .. كيف لهما أن يزحفا لهالتك الساطعة يدسان لها سماً رعافاً ثم ينسحبان خلسة ، يقهقهان باثمهما وينتظران بعدها هطول المطر !.. أي غيمة يمكن أن تسقيهما والسماء كلها غاضبة عليهما ، كيف يمكن أن يبرما أمرهما بليل فيمكران بك في وضوح النهار بلا حياء ... أيتجاسران ويفعلان هذا !.. تبا لهما وتعساً ...

.

.

بدت كل الأشياء التي قالتها تتقاطر في تفاصيل مربكة تتحسس بواقي أنفاسه وتحاصره بالحزن ، الحزن الذي كتمته نفسه طويلا منذ رحيل والده والضمائر العفنة تتطحلب متجذرة بامتداد سريع نحو السلطة فتكسح النفوس والعقول معاً .. لكنه الآن يحدثها عن كل شيء ويهوي بفكره معها حيناً ويلتمس العذر لهواجسها .. هو يعرف أنها بوصلة للبقاء من بعده ، ووديعة بقيت من والديه .. وحقيقة ناطقة ستكمل ذات الخطى التي سنينهجها وأخيه .. عليها أن تعرف كل شيء وتعيه كنهاية مفروضة سيميل بها الدرب ليتلقفها بقدر يقرع بهما طريق الشهادة .. الشهادة التي ستترجمها هي للجاهلين بها وستحكي عن تفاصيلها كما ستفعل حين تسير لملحمة أخرى تقودها بقوة منطقها ..

 بسط لها قلبه وأفرغ حقائقه .. بالأمس يا زينب كنا أقرب للقلب، كانت الدنيا تنقاد لنا بمن فيها ، كان رخاؤها متسع رغم الشقوة .. وحديثها متصل رغم الجفوة .. كنا نمتد كشجرة فارعة في جنان الخلد، جدك أصل الشجرة وأمك فرعها ، وأباك لقاحها ، ونحن الثمرة ، ومحبينا أوراقها النظرة  ..

لا أعرف كم قطعنا من وقت لننتهي لحكايات تتقصف بعمرها مثقلة بفداحة الجرم الذي نصير إليه .. فتتسربل بوشاح الخديعة والحقد .. حين تكون العيون التي تحيطنا حاقدة ستسرق البهجة المطرزة من الداخل وتتسلق بإثمها حدائق الفرح فتباعد أجزائه لتحمله على التصحر ..

صدقيني، لا هو ولا هــي "معاوية وجعدة" وحتى يزيد ومن كان على شاكلتهم , يفهمون بأن السدود العالية ستنخفض من حــــولهم ذات وقت قريب وستتكسر أحجارها الضخمة حين يداهمها المد الغادر, لتجرفهم السيول الغاضبة بعيداً وتعري حقائقهم وتتركهم في بحيرة الوحل والطين اللزج .. كلما نهضوا كلما أركسهم الذل فيها . لكن أمراً واحداً يا زينب هو ما نجابه الشر به ، إنه نور اليقين .. النور الذي حرموه ومن كان يشابههم .

 صدقيني زينب ، كلنا سنمضي في فلك متصل، فلك يكمله كل منا ، أنا وأنت وأخانا سيفعل ، سنصيغ الأمر صياغة إلهية تثبت تأرجح الزمان والمكان بأهله ، وسنوازي بأرواحنا الصبح في ضوئه الساطع ، فنخرج الحكمة من ضمير الأشياء الميتة حين نكمل أدوارنا ونوصلها بحلقة واحدة ابتدأها جدنا محمد صلى الله عليه وآله   ..

                                                                                                  عقيلة آل حريز

                                                                                        وفاة الإمام الحسن عليه السلام 

كاتبة وقاصة (سعودية )