بوح عند شاطئ النور


ناغيت رؤياكِ حين الحب أثقلني، وهمت شوقا لمعراج السماوات.. ورحت ألثم فيكِ النور يا نجما تعالى وصفه في خاطر السبحات.. فلاهوتك القدسي يشرق في المدى، وهجا مهيبا ويترجم الآيات.. قبلت أعتاب الجدار بما حوى.. نفسا تعطر من شذى الجنات.. أحرمت في ميقات روحك علني أحظى بخمر طاهر النفحات.. أحرمت للثغر الزكي وعطره.. فحار زهري من ندى الهمسات..

هي فاطم.. الفرض والفردوس والفجر العظيم.. هي فاطم.. الأنس والإعجاز والأمل الكريم.. هي فاطم.. الطور والطوفان والطيف الرحيم.. هي فاطم.. الميزان والمعراج والملك القديم.. هي فاطم وقد حارت في وصفها الكلمات..

هبيني أيا زهراء من فيض البهاء فطيني فار من حسن السماء.. هبيني جمالا من دوحة العرش لأرقى.. هبيني نظرة الإلهام وقبلة.. بها أُروى.. هبيني مغزل الهدي الذي أنطق الوحي ببوح وسكون.. هبيني من رحاك الصبر والإيمان.. ومن شهد الجلال أيا مولاتي فاسقيني..

سيدتي فاطمة الزهراء هي مثال للمرأة المسلمة التي يريدها الله، يفوح عبيرها في ربيع الأمة الإسلامية.. لم تكن مجرد امرأة عادية.. بل كانت قطب رحى الكون وسيدة نساء العالمين .. فالله يرضى لرضاها،  ويغضب لغضبها. لقد جسدت الإسلام بكل مبادئه وقيمه لتتربع على عرشه كخير قدوة.. وأسوة.

وقد ارتأيت أن أشير إلى ومضات من حياتها .. مازجت فيها بين متطلبات التربية ومسؤولية الأمة.. وهكذا لابد للمرأة اليوم أن تستلهم من القديسة البتول فاطمة الزهراء معاني التربية لبناء أجيال رسالية جديرة لأن تناصر الإمام المهدي عجل الله فرجه، وتحمل مشاعل الحق ورايات الجهاد لتقارع الظلم والاستبداد، لتكمل به مسيرة فاطمة بنت محمد.

1. طوق الياسمين

تجلت بين جدران بيت فاطمة آيات القدس والإيمان.. فكان لها منهجا تربويا فريدا.. وكان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم أقدس ثمار لأقدس شجرة كانت النبوة جذرها الصلب والإمامة فرعها الممتد إلى العرش العظيم.

 وكان من كرامات فاطمة أن أشرفت على تربيتهم، فغرست فيهم مكارم الأخلاق وخصال الخير والفضيلة، وأرضعتهم بلبن الهداية والرشاد، ولقنتهم مفردات العلم والزهد والورع، فحملوا مشعل الحق في وجه الباطل، وكانوا ولا يزالون للبشرية جمعاء نماذج للكمال والشرف والفضيلة.

فعن الحسن المجتبى أنه قال (رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار).

وكما يروى أن بلالا أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبي (ما حبسك؟؟ فقال: مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي، فقلت لها: إن شئت كفيتك الرحى وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحى، فقالت: أنا أرفق بابني منك. فذاك حبسني. قال : رحمتها رحمك الله).

صورة مثالية لمجتمع الفضيلة كما ينشد الفلاسفة والمصلحون، ريحانة رسول الله على سفينة التعب وتحمل المعاناة من أجل إدارة وتنظيم بيتها، وبلال المؤذن يستأذنها لينجز لها بعض أعمالها، بفضل الإسلام أينعت ثمرة الحياة المثالية بأغصانها المتفرعة.

فهي الرائدة في صبرها... والقدوة في تواضعها... والأسوة في جل أخلاقها...

2. حركة تصحيحية

الظلم، الجهل، العصبية، مفردات تعبر في جوهرها عن مجتمع الجاهلية، لذلك كان لا بد من تدخل السماء لإنقاذ الأرض ومن عليها.. فبعث الله رسوله الأمين محمد ليبث روح الوحي.. ويحيي ما تبقى من الإنسانية..

ومن منزل مبعوث السماء.. ترعرعت فاطمة الزهراء كريحان طاهر، ارتشفت من معين العلم والحكمة، والصبر والإيمان، والسماحة والطهر.. وارتوت من ينابيع الجنة.. فأصبحت أنموذجا آسرا للشخصية الإيمانية المثالية، والرحمة المهداة على قلب النبي الأمين .

كانت رفيقة الرسول في رسالته.. لم تكن أبدا بمنأى عن التغيرات السياسية التي تطرأ على الأمة الإسلامية.. بل كان لها دور مؤثر في صياغتها.. أحد سفهاء القوم يلطخ وجه رسول الله بالتراب، فيعود إلى بيته صابرا محتسبا، وتنظر إليه فاطمة فيستبد بها الحزن، وتبكي لجرأة هؤلاء الطغاة على رسول الرحمة، فتهرع تواسي أباها العظيم كملاك يمسح عن جبينه ذرات الألم.. وتنثر الدفء على وجنتيه.. فيطمئن لها قلبه.. ويأنس.

وفي كل موطن وموقف لا تفتأ تدافع عن دين السماء وقيم الرسالة.. فبعد استشهاد النبي الأعظم شكلت مع زوجها أمير المؤمنين حزب الإيمان لتبدأ رحلة أخرى في التصدي للمنافقين والجاحدين والمنكرين.. كانت قبس من فكر الرسول الأعظم ، ونظرة من عطفه، وقوله وفعله.. بل إسلام مجسد ومصباح هدى وسبيل نجاة.

ولعل خير دليل على ذلك قيامها بالحركة التصحيحية الأولى والتي هدفت من خلالها إرساء العدل والدفاع عن المظلومين وضرورة فضح الظالمين. هذه الحركة النهضوية قامت بها هي نفسها روحي فداها وأولادها وأتباعها، تمكنت من خلالها أن تبين طريق الحق لمن أراد إتباعه، رغم ما تبع ذلك من آلام ظلمها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها واستشهادها وإخفاء قبرها. لقد انحصر فيها أرث النبوة.. وتحققت فيها قيم النبوة، وارتبطت بها صفات النبوة.

فليكن واقعنا مستلهما من القديسة البتول فاطمة الزهراء ، نهجه العفاف والاستقامة، ومبدأه الفضيلة والخير، وقيمه الرحمة والتضحية.. ليكن واقعنا رساليا.. كواقع فاطمة يمتزج  بين العبادة والحجاب، والتقوى والجهاد.ليكن واقعنا إنسانيا.. لا تتأجج فيه نيران الغضب، والحقد والحسد. لنكن كما أرادتنا فاطمة سلام الله عليها.. وحسب.

فالسلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة، ونحن لك أولياء مصدقون، ولكل ما أتى به أبوك وأتى به وصيه مسلمون، ونحن نسألك اللهم إذ كنا مصدقين لهم، أن تلحقنا بتصديقنا بالدرجة العالية، لنبشر أنفسنا بأنا قد طهرنا بولايتهم .

والسلام عليك يوم ولدت.. ويوم استشهدت ويوم تبعثين حية..