الدرس الأول | اتق الله وأحسن

العلامة الحبيب : أهل الفضائل ؛ تأملات في خطبة المتقين (193)

شبكة مزن الثقافية
العلامة الحبيب :  أهل الفضائل ؛  تأملات في خطبة المتقين (193)
العلامة الحبيب : أهل الفضائل ؛ تأملات في خطبة المتقين (193)

رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ: عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ ﴿يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ   ثُمَّ قَالَ:  ﴿أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ.

• تمهيد

قبل أن ندخل في تفاصيل هذه الخطبة العظيمة والمعروفة بخطبة همام أو صفات المتقين علينا أن نقف على بعض المقدمات:

أولا: رويت هذه الخطبة بأسانيد مختلفة وطرق شتى، منها ما ذكره سليم بن قيس عن أبان بن أبي عياش، ومنها ما ذكره الشيخ الصدوق في أماليه مسندا إلى الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين ، وأيضا ابن شعبة الحراني في تحف العقول والشريف الرضي في نهج البلاغة والعلامة المجلسي في بحار الأنوار.

قال السيّد جعفر علم الهدی: وعلى كلّ حال، فالذي يلتفت إلى تعدّد طرق الخطبة ومضمونها، وبلاغة متنها، وفصاحتها يحصل له العلم القطعي بصدورها من أمير المؤمنين ، وإن كان مجرّد ذكر السيّد الرّضي لها في "نهج البلاغة" يكفي في الاطمئنان بصدورها، ولا حاجة إلى شاهد آخر؛ لأنّ السيّد الرّضي كان في منتهى الورع والوثاقة والعدالة وخبرته في كلام أمير المؤمنين لا يمكن أن تنكر. (١)

ثانيا: هذه الرواية رويت بمستهل جاء على ذكر الشيعة وصفاتهم وآخر من دونه. فالأول ما روي بالإسناد عن أبي المفضل عن جعفر بن محمد العلوي عن أحمد بن محمد الوايشي عن عاصم بن حميد وعن أبي المفضل عن محمد بن علي البندار عن الحسن بن علي بن بزيع عن مالك بن إبراهيم عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن رجل من قومه يعني يحيى ابن أم الطويل أنه أخبره عن نوف البكالي قال:

عُرِضَتْ لِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَاجَةٌ فَاسْتَتْبَعْتُ إِلَيْهِ جُنْدَبَ بْنَ زُهَيْرٍ وَ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ وَ ابْنَ أُخْتِهِ هَمَّامَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ خُثَيْمٍ وَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْبَرَانِسِ فَأَقْبَلْنَا مُعْتَمِدِينَ لِقَاءَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع فَأَلْفَيْنَاهُ حِينَ خَرَجَ يَؤُمُّ الْمَسْجِدَ فَأَفْضَى وَ نَحْنُ مَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مُبَدَّنِينَ قَدْ أَفَاضُوا فِي الأُحْدُوثَاتِ تَفَكُّهاً وَبَعْضُهُمْ يُلْهِي بَعْضاً فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَسْرَعُوا إِلَيْهِ قِيَاماً فَسَلَّمُوا فَرَدَّ التَّحِيَّةَ ثُمَّ قَالَ ﴿مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: أُنَاسٌ مِنْ شِيعَتِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ﴿فَقَالَ لَهُمْ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: ﴿يَا هَؤُلاءِ مَا لِي لا أَرَى فِيكُمْ سِمَةَ شِيعَتِنَا وَحِلْيَةَ أَحِبَّتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ؟! فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ حَيَاءً. قَالَ نَوْفٌ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ جُنْدَبٌ وَالرَّبِيعُ فَقَالا: مَا سِمَةُ شِيعَتِكُمْ وَصِفَتُهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَتَثَاقَلَ عَنْ جَوَابِهِمَا وَقَالَ: ﴿اتَّقِيَا اللَّهَ أَيُّهَا الرَّجُلَانِ وَأَحْسِنَا فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. فَقَالَ هَمَّامُ بْنُ عُبَادَةَ وَكَانَ عَابِداً مُجْتَهِداً أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَكْرَمَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَخَصَّكُمْ وَحَبَاكُمْ وَفَضَّلَكُمْ تَفْضِيلًا إِلا أَنْبَأْتَنَا بِصِفَةِ شِيعَتِكُمْ. فَقَالَ ﴿لا تُقْسِمْ فَسَأُنَبِّئُكُمْ جَمِيعاً وَأَخَذَ بِيَدِ هَمَّامٍ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَبَّحَ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَزَهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا وَجَلَسَ وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا وَحَفَّ الْقَوْمُ بِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ قَالَ ﴿أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ خَلَقَ خَلْقَهُ فَأَلْزَمَهُمْ عِبَادَتَهُ وَكَلَّفَهُمْ طَاعَتَهُ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ... إلى أن قال ﴿ أَلا مَنْ سَأَلَ عَنْ شِيعَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ أَذْهبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ فِي كِتَابِهِ مَعَ نَبِيِّهِ تَطْهِيراً فَهُمُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ الْعَامِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَهْلُ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُع‏ .... (٢)

وواضح أن الإمام أراد أن يبين أن الشيعي هو ذلك الإنسان الملتزم بالتقوى والمتصف بصفات المتقين.

والثاني ما روي في نهج البلاغة وغيره من دون هذا المستهل، ولعل الراوي أو الشريف الرضي قام بحذفه مراعاة للاختصار.

ثالثا: قيل إن همام المذكور في هذه الخطبة هو همام بن عبادة بن خيثم كما ورد في رواية نوف البكالي، وكان الربيع بن خيثم عمّه من الزّهاد الثمانية. (٣)

 وقال ابن أبي الحديد: همام المذكور في هذه الخطبة هو: همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة. وكان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين وأوليائه، وكان ناسكا عابدا. (٤)

وقال الشّيخ محمد تقي الشّوشتري (التُّسْتَري) (1320هـ- 1415هـ): همّام المذكور في هذه الخطبة على ما ذكره الشّراح وإن لم أر له ذكرا في كتب الرّجال هو: همّام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمرو بن جابر و كان من شيعة علىّ وأوليائه وكان ناسكا عابدا. (٥)

• سؤال همام

قال همام لأمير المؤمنين : ﴿يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ.


الرواية تقول إن أمير المؤمنين تثاقل عن جوابه ثم أجابه بجواب مجمل فقال له أمير المؤمنين ﴿يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.

ومن الواضح البين أن تثاقل الإمام ليس من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة بل من باب تأخيره إلى وقت الحاجة بمعنى أن الإمام كان يعرف أن وقت السؤال ليس وقت حاجة السائل همام وإنما في وقت آخر فتأخيره إلى وقت الحاجة ليس بقبيح.

وربما يقال إن هذا التثاقل إنما هو من باب التشويق فلكي يشتاق السائل أكثر وتتهيأ نفسه بشكل جيد جاء التثاقل من أمير المؤمنين.

ثم اكتفى الإمام بجواب مجمل ولكنه جامع لكل صفات المتقين ﴿اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ .

وهذا الجواب المختصر فيه بيان لدعامتين؛ التقوى والإحسان.

فالتقوى تمنح صاحبها الحذر وتقيه من الوقوع في المكاره والمنكرات وتمنعه من الانزلاق نحو المحرمات وتبعده عن كل ما يضر بإنسانيته.
ودورها لا يقتصر على كبح جماح النفس عن السير في طريق الشر بل تدفعها نحو طريق الخير والحق.

والإحسان هو انفتاح نحو فعل الخيرات فتجد المحسن يقف إلى جانب كل مظلوم ومحروم ويطعم كل فقير ويكسو كل عريان ويعفوا عمن ظلمه ويصل من قطعه وهكذا نجد الإحسان يثير في الإنسان (المحسن والمحسن إليه) المشاعر الخيرة والأحاسيس الطيبة مما يدفع به للإكثار من عمل الخير والابتعاد عن نوازع الشر التي تقوده نحو الانحراف والتيه والضلال.

• المتقون هم أهل الفضائل

فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ قَالَ:  من المعلوم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وممتنع. ومن المؤكد أن الواجب لذاته غني عن كل أحد لأنه الكمال المطلق فهو الخالق الرازق المحيي المميت المعطي المانع، وعباده يحتاجون إليه في كل شيء.

وما ربما يتوهمه بعض الجهلة من أن الحاجة هي مبعث الأمر بالعبادة باطل البتة. لأن المنتفع من الأمر بالعبادة إنما هو العبد الملتزم بأمر مولاه وعليه سيجني من الطاعة والانقياد للمولى النجاة والفوز في الدارين.

وهنا يقرر الإمام هذه الحقيقة بقوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ.

أما نحن فإننا نحتاج إلى الغير في كل أمورنا وكل قضايانا ومسائلنا، ولعل الواحد منا قد يزعم أنه مستغني عن الله أو عن الأنبياء أو عن الأئمة أو عن الناس الأقربين أو الأبعدين ولكنه سرعان ما يكتشف عجزه وحاجته إلى غيره.

ولكي يسير الإنسان في الاتجاه السليم عليه أن يتوجه إلى ربه لأنه الخالق الرازق المدبر وعليه أن يعرف أن معاش الإنسان ومكانته في الدنيا لا تستجلب من العباد لأنها من رب العباد.

فالله جل اسمه الغني القادر الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية وهو الخالق الرازق المدبر هو من يقسم المعايش بين البشر ويضعهم في مواضعهم.

قال تعالى ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ. سورة الزخرف، آية 32.

وقال أمير المؤمنين ﴿فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

ثم فرع أمير المؤمنين بقوله ﴿فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ.

الفضائل جمع فضيلة، والفَضِيلة: ضدُّ النَّقِيصة، أو هي: الدَّرَجة الرفيعة في الفَضْل. ويمكن القول إنها كل أمر حسن ومنها الارتقاء إلى الدرجة العالية والمقام السامي في الدين أو الخلق أو السلوك العلمي أو العملي.

لذا ينبغي على السائر في طريق التقوى والمتصف بصفات المتقين أن يبحث عن كل فضيلة فيتصف بها، فالتفوق العلمي فضيلة وهو أمر حسن وعليه ينبغي أن يكون المتقي متفوقا، والعدل والاجتهاد وصلاة الجماعة وصلة الرحم وخدمة المؤمنين وبناء الذات وغيرها كثير. فهي أمور حسنة وتعد من الفضائل التي ينبغي للمتقي أن يتصف بها.

 

لتحميل وتصفح الدروس اليومية طوال الشهر الفضل عبر رابط المكتبة

(١) شبكة رافد نت
(٢) بحار الأنوار ج 65 ص 192.
(٣) راجع المصدر السابق.
(٤) شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ج 10 ص 134.
(٥) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة ج 12 ص 415.