رؤية قرآنية (1)

كيف ننمي ثقافة الإنجاز في مجتمعاتنا؟

الشيخ عباس السعيد

ترسيخ قيم الإنجاز في الوعي الاجتماعي، وتحويلها إلى ثقافة اجتماعية قادرة على إثارة الطاقات والمواهب الإنسانية الكامنة وتحريكها في مواقع البناء والعمل الصالح، يعد قاعدة انطلاق لأي رؤية استراتيجية تستهدف تحقيق التغيير الحضاري في أي محيط اجتماعي من تغيير بناه وجذوره الثقافية السلبية التي تكبله وتصيبه بالشلل التام، واستبدالها ببنى ثقافية إيجابية تحفز قدراته، وتستثير إمكاناته، وتبعثه نحو الحركة والانطلاق ومواكبة الحياة في حركتها المتسارعة في إبداعها العلمي والعملي.  

بات واضحاً لكل متابع للساحة المحلية ما يشهده المجتمع العوامي في الآونة الأخيرة في مؤسساته وأطره الرسمية أو الاجتماعية أو في إطاره الفردي من الشعور المتنامي بأهمية الإنجاز والرغبة العارمة في إبراز طاقاته ومواهبه وتوجيهها في خط البناء والعمل الصالح وتحقيق التطلعات والإنجازات في كافة الميادين والحقول، حتى أصبح الإنجاز بالنسبة إليه خبزه ورغيفه اليومي وهوائه الذي يتنفسه كل صباح.

 وقد جاءت هذه السلسلة من المقالات لاستجلاء الرؤية القرآنية للإنجاز مما يتصل به في قيمته وأهميته وقيمه وآفاقه ومحفزاته وغير ذلك من العناوين، لنتمكن من تحويله من ظاهرة بارزة إلى ثقافة راسخة  تمتد مع المجتمع زمانياً بصرف النظر عما يمر به في ظرفه الخارجي بكل سياقاته الاجتماعية والنفسية.  

إن الإنجاز كهدف وفعل إنساني إنما يكتسب قيمته الدينية ويكون مستحقاً للجزاء الأخروي في تلك الموارد التي يلتقي فيها مع قيم الخير مقترناً بالنية الصالحة الخالصة لله سبحانه ليندرج في مفهوم العمل الصالح الذي أخذ فيه صلاح الفعل في نفسه مع صلاح نية فاعله، فيكون مستجمعاً للحسن الفعلي والفاعلي.  

 ولقد بين لنا ربنا سبحانه في آيات الذكر الحكيم أن الفلسفة من خلقنا وإيجادنا التي ينبغي أن نجعلها ماثلة شاخصة بين أيدينا هي في امتحاننا في ما آتانا من العقل والإرادة وسائر القوى الإنسانية لنتنافس في استثمارها في تعمير الأرض بالصالحات, قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا).[1]

قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) بيانٌ لكم أيها الناس مهما تنوعت أفكاركم وإمكاناتكم وطاقاتكم الذاتية، بأن الغاية من خلقكم والتي ينبغي أن تنعكس على قلوبكم وضمائركم ووعيكم هي امتحانكم في عقولكم وإرادتكم لتتسابقوا في إنجاز أحسن الأعمال الصالحة وأكملها وأفضلها ذاتاً وأثراً؛ فيكون معيار التفاضل بينكم تفاضلكم في أعمالكم، فيما تمتلك تلك الأعمال من جهات الحسن في ذاتها ودوافعها ونتائجها وآثارها، وبقدر ما تنعكس على حياتكم تقًى وهدًى وخيراً، ليدفعكم ذلك للاستمرار في التكامل وارتقاء القمم، فلا ترتقون إلى قمةٍ إلا وأنتم تتطلعون إلى بلوغ قمةٍ أعلى منها. 

والمتحصل مما ذكرناه أن قيمة الإنجاز وفق الرؤية القرآنية تكمن فيما يمتلكه من حسن في ذاته ودوافعه ونتائجه، أي أن قيمته بالعرض لا بالذات، فهي تتوقف على ما يعرض عليه من العناوين والجهات التي تدرجه ضمن عنوان العمل الصالح. 

وإذا أحطت بما قررناه يظهر لك أن ما يشهده مجتمعنا من إنجازات فردية أو اجتماعية، بقدر ما تلتقي بقيم الخير وتنعكس على الحياة  تقًى وهدًى وصلاحاً ونفعاً بقدر ما تستحق من القيمة الذاتية، وتكون داخلة في عنوان العمل الصالح، بصرف النظر عن عنوانها أو صورتها أو إطارها الخارجي. 

ومما يلتقي به الإنجاز من قيم الخير قيمة الإحسان، وذلك في بعض مصاديقه لا مطلقاً،  لأن الإحسان هو الإتيان بالعمل على أفضل وجه ممكن، فهو ينطبق على الإنجاز في الموارد الذي يكون فيها إنجاز الأعمال في أعلى مراتب الحُسن وأفضلها ذاتاً وأثراً.

 ولقد نبهت الآيات القرآنية إلى أهمية إنجاز الصالحات على أفضل وجهٍ وصورةٍ ممكنة من خلال الالفات إلى ما يترتب عليها من الآثار والنتائج مما ينعكس على حياة المجتمعات هدايةً وصلاحاً وخيراً، فيما تجري فيه سنن الله وقوانينه المنظومة على العلاقة بين الأسباب ومسبباتها والأعمال وآثارها: قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)[2].

قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ) تنبيهٌ لكم أيها المخاطبين بأنكم إن تطلعتم إلى ارتقاء القمم، فمضيتم بكل قوتكم إلى أهدافكم الخيرة وطموحاتكم النبيلة، فيما يملأ حياتكم ووجودكم علماً وصلاحاً وخيراً، إلى أن ختمتم جهودكم بإنجاز أحسن الصالحات وأكملها ذاتاً وأثراً، وأكثرها خيراً للإنسانية في وجودها وكمالها، فذلك لكم، فيما ينتهي إليه إحسانكم من الآثار والنتائج التي تعود عليكم بالصلاح والخير والتقدم في كل مفاصل حياتكم.    

وهكذا نحن في مجتمعاتنا إذا أخذنا بقيم الإنجاز، وتسلحنا بالعلم النافع، والفكر الخلاّق، والطموح الرفيع، والصبر الراسخ، والهمة العالية، والعمل الصالح، والإحسان الجميل، ومشاورة الرجال ومشاركتها في عقولها، والتعاون على المبرات، والتسابق في الخيرات، ومضينا بكل قوتنا إلى مواقع البناء وتحفيز ما لدينا من طاقات ومواهب إنسانية في إنجاز الصالحات، فإن ذلك سينعكس على مجتمعنا وعلى الأجيال القادمة  خيراً وصلاحاً وضياءً، وستكون نتائجه عظيمة وثمرته وفيرة.

 

[1] سورة الملك: 2
[2] الإسراء: 7