(31)

والشاكرون قليلُ

أ . بدر الشبيب *

قد يصاب الإنسان بالإحباط عندما لا يقابَل إحسانه بالشكر والعرفان، وقد يقوده الجحود والنكران إلى التخلي التام أو الجزئي عن السير في درب العطاء، فينكفئ على ذاته. مثل هذا قد يحدث، بل حدث لكثيرين. فكل منا يتذكر شخصيات كانت متوهجة في مجالات البذل والعمل التطوعي في زمن ما، ثم خفَتَ ضوؤها، وانحسر ألقُها، وكان من أسباب ذلك، بل ربما على رأس الأسباب، عدمُ وجدانها التقدير الكافي لجهودها وتفانيها وإخلاصها.

لكن لو فكر الإنسان في الأمر عميقا، سيجد أنه لم ينصف نفسه. فمهما بلغ إحسان المرء وإفضاله، فلن يكون شيئا ذا قيمة أبدا أمام إنعام الله وإحسانه على خلقه الذي يقابله أكثر الناس بالكفران، كما قال تعالى: (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). لقد تحدث القرآن في عدة آيات عن قلة شكر الناس لربهم، وعن قلة الشاكرين منهم. فعن الأول يقول تعالى مؤكدا على نعمة عظيمة أنعمها على الإنسان، حيث هيّأ الأرض له أحسن تهيئة لتناسب حياته، وأمده بأسباب التمكين التي تجعله قادرا على التصرف فيها، فكانت النتيجة الشكر القليل: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). وفي ثلاث آيات من ثلاث سور هي المؤمنون والسجدة والملك يذكّر الله الإنسان بما منحه من أدوات الحس والعقل التي يمكنه أن يستثمرها في طريق اكتشاف نفسه والعالم من حوله، لأنها أساس أدوات المعرفة، ولكن تُختتم الآيات الثلاث بنفس النتيجة السابقة، يقول تعالى في سورة المؤمنون: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

وعن الثاني، أعني قلة الشاكرين، فقد بيّن القرآن ذلك خير بيان في عدة مواضع. يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)، ويقول: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). هذه الحقيقة كان يدركها إبليس إذ قال: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)، إذ تحقق ظنه على أرض الواقع كما قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). فأولئك الذين اتبعوه كانوا على معرفة بنعمة الله تعالى، ولكنهم أبوا إلا الإنكار والكفر: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

إذا عرفت هاتين الحقيقتين من قلة شكر العباد لربهم وقلة الشاكرين، فإن أفضل طريق لمواصلة درب العطاء وعدم التوقف في محطة من محطاته أن تتعلم من الشاكرين الله بحق، الذين قال في شأنهم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). فهؤلاء يبذلون ما يبذلون عن نية خالصة لا يشوبها شيء، يبتغون بذلك رضوان الله تعالى، ويحققون بأفعالهم شكره على ما أنعم به عليهم، ولا ينتظرون من أحد من خلقه شيئا. فكانت مكافأتهم العظيمة منه تعالى، وهو الشاكر الشكور: (وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً)  (ِإِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، كانت مكافأتهم ما ذكره تعالى بقوله: (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً . وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً . مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً . وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

فليتواصل عطاؤك متخلقا بأخلاق الله الذي لا يمنع عطاءه حتى عن الكافرين به، الجاحدين لرسالاته: (كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام