(37)

بعض الكلمات كنوز

أ . بدر الشبيب *

جاء في تاج العروس للزبيدي: "الكَنْزُ: المالُ المَدفون تحت الأرض، هذا هو الأصل، ثم تُجُوِّزَ فيه". ثم قال: قال شَمِرٌ (أي اللغوي المعروف شَمِر بن حمْدويه الهروي، المتوفى 255 ه): وتُسَمِّي العرَبُ كلَّ كّثيرٍ مَجموعٍ يُتَنافَسُ فيه: كَنْزاً.

وقال الراغب في المفردات: الْكَنْزُ: جعل المال بعضه على بعض وحفظه. وأصله من كَنَزْتُ التمرَ في الوعاء. وزمن الْكِنَاز: وقت ما يُكْنَزُ فيه التمر. وناقة كِنَازٌ مُكْتَنِزَةُ اللحم. 

فالكنز في عُرف الناس مال عظيم يدّخرونه للانتفاع به في مستقبل الأيام. وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). 

ومن خلال تتبع الآيات الشريفة التي وردت فيها هذه المفردة بصيغتي المفرد أو الجمع، نجد أن للكنز بهذا المعنى مكانة عظيمة في نفوس الكثير من الناس إلا من رحم ربي. يقول تعالى: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى‏ إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ). فهؤلاء لعظم هذا الأمر في صدورهم، كانوا يطلبون أن ينزل عليه من السماء كنز من ذهب وفضة كي يصدقوا برسالته. ويقول تعالى عمّا أوتي قارون: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). وقد أخبر القرآن عن موقف بعض قومه المتعلقين بالحياة الدنيا وزبرجها: (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏). كما أخبر القرآن أيضا عن إخراج فرعون وقومه مما كانوا فيه من حياة مترفة مرفهة، كانت الكنوز أحد أدواتها: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ).

لكن ما أردنا الوقوف عنده هو نوع آخر من الكنوز، لا يلتفت إليه، ولا يدرك قيمته إلا أصحاب البصائر النافذة الذين يرون ما لا يراه الغافلون. ونعني به كنوز الكلمات التي تشكل مفاتيح لخزائن الحكمة ومنارات في درب الحياة ترشد إلى خير سبيل.

فقد يمر البعض على قوله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فلا يتساءل عن ماهية هذا الكنز. ولكنّ شخصا ذا بصيرة وفطنة من أصحاب الإمام الصادق اسمه صفوان الجمّال توقف عند هذه الآية وطرح سؤاله على الإمام ، الذي أجابه فاتحا أبواب الكنز بقوله: أَمَا إِنَّه مَا كَانَ ذَهَباً ولَا فِضَّةً وإِنَّمَا كَانَ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: لَا إِلَه إِلَّا أَنَا. مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَضْحَكْ سِنُّه. ومَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ لَمْ يَفْرَحْ قَلْبُه. ومَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّه. هذه الكلمات الوحيانية النورانية التي تتضمن المعارف الكبرى، الكنز المدّخَر للغلامين اليتيمين من أبيهما الذي كان صالحا، فاعتنى الباري جل وعلا بهذا الكنز، وحفظه لهما، ثم استخرجاه بعين لطفه ورعايته. فما أثمن هذا الكنز الموروث. 
                                            
يقول الآلوسي في تفسيره (روح المعاني): وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم، وروي ذلك أيضا عن ابن جبير. انتهى.

إن هذه الآية بمضمونها العظيم تجعلنا نتفكر فيما نتركه لأبنائنا من كنوز، وهذا لا يعني بالطبع إهمال ما يصلح شؤونهم الحياتية المادية، ولكن ينبغي التركيز بشكل أعمق على ما ينفعهم في دار القرار.

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام