التنظير الديالكتيكي بين المحمود والمذموم

 ماذا نقصد بالتنظير وماذا يعني الديالكتيك وما هو قصته؟

سؤال يطرح نفسه عند النظر لعنوان الموضوع بل يُعدُّ مدخلاً لمناقشة مفردات هذه المفاهيم والتي تُعد غريبة نوعاً ما على بعض القراء الأعزاء, وإليك المقصود منها:

• التنظير: لا يُقصد بالتنظير هنا إنشاء أو ابتكار النظريات العلمية من كيميائية أو فيزيائية أو ما شابه ذلك, إنما يُقصد بالتنظير هنا ابتكار أو طرح رأي فكري أو مفهوم من المفاهيم الأخلاقية أو العقائدية أو الاجتماعية أو السياسية أو غير ذلك من المواضيع التي هي محل نقاش واهتمام أصحاب الرأي والطرح.

ولو أوضحنا الفكرة أكثر لقلنا هي عبارة عن المناظرة بين اثنين أو بين مجموعتين في فكرة أو مفهوم معين.

وعليه تكون المناظرة هي:«محاورة بين فريقين حول موضوع، لكل منهما وجهة نظر فيه تخالف وجهة نظر الفريق الآخر, فهو يحاول إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه, مع رغبته الصادقة بظهور الحق والاعتراف به لذا ظهوره» .

الديالكتيك:

كلمه يونانية تعني لغوياً فن الحوار والمناقشة, وخصوصاً بواسطة السؤال والجواب, وقد استعملها برمنيذس الإيلي للدلالة على نوع الحجج التي تقوم على افتراض ماذا عسى أن يحدث لو أن قضية معطاة على أنها صحيحة قد أُنكرت, ويقرر أرسطو وهو يضع الديالكتيك في مقابل البرهان, ويقول: إن التفكير يكون ديالكتيكاً إذا كان يستند إلى ظنون يقرّ بها عامة ً، والحجج الديالكتيكية هي تلك التي تستند إلى مبادئ مناسبة لكل موضوع لا إلى الآراء التي يقول به الذي يجيب، وهي تستند إلى مقدمات مقرّ بها عامة.

إذن يكون الديالكتيك عند أرسطو شكلاً برهانيا للمعرفة وهو«مظهر فلسفة» وليس معرفة يقينية ولا فلسفية, ولهذا فهي في نظره نوع من الجدل وليس من العلم وهو احتمال ليس يقين وهو استقراء وليس برهاناً, ولهذا نرى أرسطو يذهب أحياناً إلى نعت الديالكتيك بأنه معرفة احتمالية ظنية. 

مراحل استخدام الديالكتيك:

للجدل الديالكتيكي ماضٍ عريق في تاريخ الفلسفة وفي تاريخ الأديان والمذاهب, نشير إليه بشكل موجز على النحو التالي:

1- استخدمت كلمة الجدل لأول مرة في الفلسفة من قبل زينون تلميذ برمنيذس. وكان برمنيذس ينكر وجود الكثرة والتغيير في عالم الوجود أساساً، وبما أن هذا الاعتقاد يتنافى مع البديهيات الحسية, فقد أصبح موضع سخرية واستهزاء من قبل الناس، وانطلاقاً من رغبة زينون في الدفاع عن أستاذه, فقد اتخذ الجدل كأسلوب لنقض آراء الناس القائلة بوجود الكثرة والتغيير, وهكذا فقد كان الجدل يمثل عند زينون وسيلة لنقض آراء الطرف المقابل وإثبات آرائه عن طريق برهان الخُلف.

2- استخدام السوفسطائيين الجدل في التغلب في المحاكم القضائية واستحصال الأموال من الموكلين.

3- استخدام سقراط الجدل كأسلوب لنقض التعاريف الجزئية والسير باتجاه وضع كلي لمختلف المسائل، واستخدمه أفلاطون أيضاً وإن كانت له عنده معان ٍأخرى.

4- نظر أرسطو إلى الجدل باعتباره استدلالاً يقوم على أساس المشهودات والمسلمات, أي الآراء المتسالم عليها, وإثبات قضية ما عن طريق المفروضات, ولم يكن له كثير من الاعتبار عنده.

5- استخدم الجدل في القرون الوسطى بمعنى المنطق والأساليب المنطقية لإثبات القضايا الفلسفية.

6- ذهب فيخته وتبعه هيغل ثم ماركس إلى القول بأن الجدل أو الديالكتيك هو عبارة عن ظاهرة تتألف من ثلاث مراحل هي: الفكرة, والنقيضة, والجميعة, وهم يعتقدون أن كل ما هو موجود في العالم هو بمثابة فكرة, وهذه الفكرة تولّد فكرة مناقضة أو نقيضة لها, ومن تفاعل الفكرتين تنشأ فكرة جديدة تؤلف بينهما وهي ما تسمى بالجميعة, وهكذا عموماً ما يحصل عادة في من مجادلات ومناظرات في العالم كله.

الرأي والرأي الآخر:

المطلع على فكر أهل البيت  يجد كثيراً من التأكيدات على الاستماع إلى آراء الآخرين من أجل التوصل إلى الرأي الناجع والفكر الصحيح, وفي الوقت نفسه نجدهم يحذّروا بشدة من مغبة الاستبداد بالرأي وعدم الأخذ بالرأي الآخر وإليك جملة من أقوال الإمام علي  في هذا المضمار:

يصف الإمام علي  من يعتدُّ ويستبدُّ برأيه ويتجنب الإصغاء لأراء الآخرين بعد الأهلية إلى التنظير بل إن رأيه لا يؤخذ باستبداده وانفراده برأيه حيث يقول:«لا رأي لمن انفرد برأيه».

بل اعتبر الإمام علي  أن من يستبد برأيه يؤدي به إلى المزالق الفكرية الهابطة به إلى الهاوية قائلاً:«المستبد برأيه موقوف على مداحض "مزالق" الزلل».

ومن ضمن توجيهاته  التي ساقها في وصف الجمود العقلي والاستبداد الفكري قال:

«المستبد متهور في الخطأ والغلط».
«الاستبداد برأيك يزلك ويُهَوِّرُكَ في المهاوي».
«من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل».
«من استبدَّ برأيه هلك».

والأمر المهم بل الجدير بالاهتمام-فيما يخص التنظير والمناظرة- هو أنه ليس مطلق التنظير والمناظرات وتضارب الأفكار والآراء مفيداً أو مؤثراً في القضاء على الخلافات الفكرية والوصول إلى نتيجة مقنعة ومفيدة إلى الطرف الآخر ما دام لا تُراعى الشروط اللازمة للتنظير والصفات التي يجب أن يتحلى بها المناظر والأسلوب المؤثر في سير الحوار في المناظرة, والحقيقة إن السبب والسر الكامن وراء إخفاق كثير من الحوارات سواء على صعيد المجالس المنتشرة في مجتمعنا أو على الصعيد العالمي هو عدم مراعاة تلك الشروط والصفات وما نراه من إخفاقات في المؤتمرات والقمم وبرامج الفضائيات الحوارية دليلاً على ذلك.

التنظير الديالكتيكي في مجتمعنا:

تنتشر في مجالس مجتمعنا هذه الظاهرة والتي تعتبر حسنة ومحمودة حيناً وسيئة ومذمومة حيناً آخر،بعض المجالس تراها منظمة وهادئة في مناظراتها ونقاش جلسائها،يخرج منها المرء بفائدة تعود على رفع مستواه الفكري من خلال إثراء معلوماته الثقافية ورفع مستواه السلوكي حين يتعود على احترام الرأي الآخر والصبر على الاستماع وضبط النفس وطرح الفكرة بأسلوب مهذب ورزين.

أما بعض المجالس مع شديد الأسف فهي أشبه بمصارعة الدّيكة من كثرة الضجيج والصراخ الذي تسمعه عن بعد وأنت مقبل عليهم، على الرغم أن أكثر الحاضرين من حملة الشهادات الأكاديمية العالية وتتعجب من أسلوب نقاشهم وطرحهم للأفكار أو الردّ على الطرف الآخر بشكل هجومي منفّر لا يقبله الذوق السليم،و خاصة إذا كان الرأي مخالف لرأيهم الويل لك ثم الويل، وتخرج من مجلسهم ليس بعدم الفائدة فقط بل مصدّع الرأس مستاء النفس لا تنوي العودة أبداً.

يذكر فضيلة الشيخ حسن طراد أنه سمع من أستاذه الجليل المغفور له السيد إسماعيل الصدر رحمه الله أن أحد العلماء الأفاضل جاء إلى النجف من الخارج فحضر درس المرحوم السيد الخوئي رضوان الله عليه فأورد على كلام السيد إشكالاً علمياً يتعلق بالموضوع الذي كان يبحث فيه السيد فبادر السيد بالاعتراف بالضيف المستشكل موافقاً على إشكاله ومستسلماً لاعتراضه من دون أي مناقشة!
فلفت ذلك نظر أحد العلماء الفضلاء من تلامذة السيد فقال مستغرباً: كيف توافق على إشكال هذا الشخص بهذه السرعة وبلا مناقشة على غير عادتك مع تلامذتك حيث تناقش إشكالاتهم بدقة؟! فقال السيد الخوئي رضوان الله عليه: أنا كنت غافلاً عن هذا الإشكال وقد نبهني عليه الرجل وليس من الصحيح الإصرار على الخطأ بعد الالتفات إليه.

ويذكر فضيلة الشيخ حسن طراد أيضاً من أخلاقية السيد الخوئي رضوان الله عليه: إن أحد الأشخاص أخبره أن تلميذه الفذّ يوم ذاك سماحة الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر يُشكل على آرائه الأصولية والفقهية ويأتي عليها في دروسه معترضاً بمناقشات علمية كما هي طريقة الفقهاء منذ قديم الزمان حيث الحرية العلمية وانفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية, وقد فوجئ هذا المخبر بجواب هذا المرجع العظيم سماحة السيد الخوئي رضوان الله عليه حينما قال: إن ذلك مدعاة السرور عندي, لأنه يدل على وصول تلميذي إلى درجة عالية من الفضيلة العلمية, كي يتمكن أن يناقش آرائي ويورد عليها إشكالاته العلمية.

نعم هذا هو فقيه آل البيت الذي جسد بسلوكه وأفعاله أخلاقهم العالية ، لا يستنكف من أخذ رأي شخص لا يعرفه،لأنه ينظر إلى ما قيل لا إلى من قال، ولا ضير عنده عندما يشكل عليه أحد تلاميذه وهو زعيم الحوزة في النجف وجهبذ من جهابذة العلماء الذي انتشرت مرجعيته في الآفاق وتربع على المرجعية لعقود طويلة،تراه يُسَرُّ كثيراً عندما يشكل عليه أحدهم ولا يأخذ برأيه ويرى رأياً آخر.

فهلا اقتبسنا من نور أخلاق هذه الشخصية العظيمة شيئاً من النور يُنير لنا ليل دربنا المظلم،ويزيح عن أبصارنا غشاوة الظلام.

شروط المناظرة:

هناك شروط وآداب معينة للمناظرة والتي يجب أن يلتزم بها المناظر محافظة على سلامة المناظرة وتحقيقاً للغرض منها وقد وضع علماء المنطق والفلسفة من أمثال أرسطو طاليس وابن سيناء وغيرهم من العلماء المهتمين بهذا الفن آداب وشروط وأركان للمناظرة ومن ضمن تلك الشروط ما يلي:

1- أن يتجنب المناظر مجادلة ذي هيبة يخشاه, لئلا يؤثر ذلك عليه, فيضعفه عن القيام بحجته كما ينبغي.

2- ألاّ يظن المناظر خصمه حقيراً ضعيفاً قليل الشأن, فذلك يقلل من اهتمامه, فيُمكِّن خصمه الضعيف منه.

3- ألاّ يظن بأنَّ خصمه أقوى منه بكثير, حتى لا يتخاذل ويضعف عن تقديم حجته على الوجه المطلوب.

4- ألاّ يكون في حالة قلق نفسي واضطراب, أو في حاجة تفسد عليه مزاجه الفكري والنفسي, كأن يكون جائعاً, أو ظامئاً, أو حانقاً, أو حاقباً, أو نحو ذلك.

5- أن يتقابل المتناظران في المجلس, ويبصر أحدهما الآخر إن أمكن, ويكونا متماثلين أو متقاربين علماً ومقداراً.

6- ألاّ يكون المناظر متسرعاً يقصد إسكات خصمه في زمن يسير, لأن ذلك يفسد عليه رويته الفكرية, ويبعده عن منهج المنطق السديد, والتفكير في الوصول إلى الحق.

7- أن يقصد كل من المتناظرين في المساهمة في إظهار الحق ولو على يد خصمه.

8- أن يتجنب كل منهما الهزء والسخرية, وكل ما يشعر في احتقار المناظر وازدرائه لصاحبه, أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم, كالتبسم والضحك والغمز والهمز واللمز.

9- أن يحترز المناظر عن الاختصار المخل في الكلام, وعن إطالة الكلام بلا فائدة ترجى من ذلك.

10- أن يتجنب المناظر الألفاظ الغريبة, والألفاظ المجملة التي تحمل عدة معان, من غير ترجيح أحدها الذي هو المراد.

11- أن يأتي كل من المتناظرين بالكلام الملائم للموضوع, فلا يخرج عمَّا هما بصدده.

12- ألاَّ يعترض أحدهما على كلام خصمه قبل أن يفهم مراده تماماً.

13- أن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه, ولا يقطع عليه كلامه قبل أن يتمَّه.

14- أن يقبل كل منهما الحق الذي هداه إليه مناظره, أو يعترف بأن قوة دليله تقدم ترجيحاً لوجهة نظره, أو لمذهبه, حتى يكتشف شيء آخر يضعف دليله, ويجعله غير صالح للترجيح.

أمّا الإصرار على الرفض فمكابرة ممنوعة, وأما المراوغة فهي تهرب وانسحاب من مجلس المناظرة, ومتى وجد المناظر هذه المراوغة من خصمه فمن الخير له أن يقطع المناظرة ويلزم خصمه بالهروب والانسحاب، وليحذر من أن يستدرجه إلى موضوع آخر, ثم آخر, وهكذا, فتتحول المناظرة إلى ما يشبه المصارعة الحرة التي ليس لها قيود ولا ضوابط، وهذا جدال محظور.

أركان المناظرة:

للمناظرة ركنان أساسيان هما:

• الركن الأول: موضوع تجري حوله المناظرة.
• الركن الثاني: فريقان أو شخصان يتحاوران حول موضوع المناظرة, إحداهما مدع ٍ أو ناقل خبر والآخر معترض عليه.

شروط المناظرة:

تشترط في المناظرة أربعة شروط:

• الشرط الأول: أن يكون المتناظران على معرفة بما يحتاج إليه من قوانين المناظرة وقواعدها, حول الموضوع الذي يريدان المناظرة فيه.

• الشرط الثاني: أن يكون المتناظران على معرفة بالموضوع الذي يتنازعان فيه, حتى يتكلم كل منهما ضمن الوظيفة المأذون له بها في قواعد المناظرة وضوابطها, فإذا تكلم لم يخبط خبط عشواء ولم يناقش في البديهيات بغير علم وإذا أُلزم بالحق التزم به دون مكابرة.

• الشرط الثالث: أن يكون الموضوع مما يجوز أن تجري فيه المناظرة ضمن قواعد هذا الفن وضوابطه.

• الشرط الرابع: أن يجري المتناظران مناظرتهما على عرف واحد فإذا كان الكلام المناظر جارياً مثلاً على عرف الفقهاء فليس للطرف الآخر أن يعترض عليه استناداً إلى عرف النحاة, أو الوضع اللغوي أو عرف الفلاسفة, أو نحو ذلك.

هذا وأسأل الله أن نكون جميعاً من الذين يرفضون التعصب وينبذونه ويحقون الحق ويحققونه ويستمعون للقول الحسن ويتبعونه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين،،