قانون المرور بلغة استحسانية

 
 قد يأتي كاتب ما ، وقد أتى بالفعل لينتقد التشريعات المنبثقة من الشرع المقدّس التي استنبطها أحد مراجع الدين العظام ، برؤية استحسانية سطحية لا تمت إلى الروح العلمية أو الشرعية بصلة ، فبماذا عسى أن يقوم القلم لرد ذلك الاستحسان ؟ ، يمكن أن يتقبل الباحث رأياً اجتهادياً رصيناً يحاول أن يأخذ بمداخله الفكرية وبمبانيه العلمية ليتحاور معها حواراً قائماً على روح التلاقح العلمي ، فيكون الحوار نفسه ذا فائدة للقارئ الكريم ، إلا أن لغة الاستحسانات فيما يرتبط بالرؤى الشرعية يمكن لكل قلم أن يردها باستحسان خاص ، إلى أن نقف أمام ألف رأي ، لألف كاتب ، هي نتاج استحساناتهم.

كتب أحد الكتاب منتقداً توجّه الفقهاء إلى التنظير وإصدار الفتاوى في الأمور القانونية المختلفة التي يحتاجها الناس ، والتي هي الآن من اختصاص الدول ومن ضمنها قانوان المرور ، فأدّعى أن المفترض إيكال هذه المهمّة إلى الدولة لتكون المشرّع الوحيد ، ليتسالم عليه الناس ، وفي محاولة لخلط الأفكار بالأفكار ، بيّن حرصه على حياة الناس وعدم التلاعب فيها من خلال الالتزام بفتاوى الفقهاء ، وقد جاء بمثال كتاب (فقه المرور) لمؤلف المرجع المجدد السيد محمد الشيرازي (قدّس سره) من أن الإلتزام بقوانين المرور تكون على نحو الوجوب إذا سبّب ذلك على نفسه ضرراً بالغاً أو على الآخرين مطلقاً .. ويبدوا أن الكاتب فهم من ذلك أن هذا الحكم يعطي فسحة للناس بأن يتجاوزوا قوانين المرور التي تعرّض حياة الناس للخطر ، وهنا يكمن خلط الأفكار بالأفكار ، حيث أن الكاتب لم يلاحظ مسألتين:


الأولى : أن المسألة التي مثّل بها تتحدّث عن تحوّل أي الإلتزام مروري إلى مستوى الوجوب الشرعي الذي يحتّم شرعاً على الإنسان أن يمتثله ، ومعلوم أن الوجوب الشرعي لا يمكن أن يتخذ من أنظمة يتصالح عليها البعض ويستحسنها آخرون ، بل هي مستنبطة من الدليل الشرعي المشخّص في كتاب الله الكريم ، والسنة المطهّرة المتمثلة في الرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار.

الثانية : لم يلحظ الكاتب أن هنالك تشديداً كبيراً بخصوص تسبيب الضرر على الآخرين (مطلقاً) كما في نص الفتوى ، أي سواء كان ذلك الأذى بالغاً أو غير ذلك ، ولا يخفى أن القوانين المرورية إنما هي لتنظيم حركة السير ولتفادي الحوادث المؤذية للناس ، مما يعني إلزام المكلّف إلزاماً شرعياً إذا تسببت المخالفة أذى للآخرين.

علماً بأن كتاب (فقه المرور) يعد ضمن موسوعة فقهية استدلالية مكوّنة من أكثر من مائة وخمسين جزءاً ، من بينها ، فقه الحقوق ، والقانون ، والاجتماع ، والسياسة ، والبيئة وغيرها ، والإمام الشيرازي (قّدس سرّه) معروف عنه بأنه من المجددين في مجال الفقه الإسلامي ، وكتاب فقه المرور هو إحدى هذه الرؤى التي ينبغي أن يسترشد بها مشرّعوا القانون لكي لا تشطّ القوانين التي يشرّعونها وتنتقص من حقوق الناس ، اعتماداً على المبادئ الإسلامية العظيمة ، كالمساواة بين المواطنين ، واحترام دمائهم ، وأموالهم ، ومشاعرهم ، وعدم سلبهم بالباطل ومن دون وجه حق ، وإن مبرر الاستحسان الذي يطالبه به البعض أو يعمل به ، لا يبرر الظلم وسلب الحقوق ، وكما أن للدولة تشريعاتها فقد وضعت مقابلها عقوبات للمخالفين ، إن كان الكاتب يطالب الناس بأن يلتزموا بالقوانين المرورية ، فإن الرادع الوحيد الذي سيكون أمامهم وفقاً لهذه الرؤية هو الخوف من العقوبة ، إلا أن التشريع الإسلامي يعالج الجذر ، فيكلّف الإنسان بتكليف شرعي يحاسب عليه في الآخرة ، مضافاً للتداعيات الدنيوية كالضمان والعقوبة و ما أشبه ، فهذا أدعى للإلتزام و للمحافظة على أرواح الناس .

صحيفة الميثاق البحرينية / 4/7/2005