تعلّم القراءة و التفسير في رمضان - الإمام الشيرازيالراحل .

شبكة مزن الثقافية
الامام الراحل اعلى الله مقامه


لا نغالي ان قلنا ان أكثر المسلمين وحتى العرب منهم لا يعرفون قراءة القرآن، ولا يعرفون معاني ألفاظه.

فاللازم ان تشكل في أيام شهر رمضان الميمون ولياليه في طول بلاد الإسلام وعرضها، وفي البلاد التي يتواجد فيها المسلمون من غير بلاد الإسلام هيئات تعليم القرآن، هيئات ليست خاصة بالرجال بل تعمم النساء والفتيان وحتى الاطفال، ومهمة هذه الهيئات تكون:

1 ـ تعليم الناس القراءة الحسنة، حتى يستطيع المسلم ان يقرأ كتاب الله بسهولة وعذوبة.

2 ـ تعليم معاني الفاظ القرآن، فكلما مرّت كلمة بحاجة إلى توضيح يقوم المعلم بتوضيحها، وهكذا تتم العملية كل يوم وكل ليلة حتى نهاية شهر رمضان.

3 ـ تفسير القرآن الكريم بما يناسب واقع الناس أي ربط القرآن الحكيم بالحياة ويجعله منهاجاً للناس في شؤونهم المختلفة. وتخصيص كل ليلة أو كل يوم من أيام الشهر المبارك لبيان معنى جزء من اجزاء القرآن.

4 ـ وبالاضافة إلى هذه المهام لابدّ لهذه الهيئات ان تقوم بأعمال اجتماعية مختلفة كمساعدة المحتاجين وطباعة الكتب الدينية والتوعوية والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من الأعمال الضرورية.

ان تقدم الغرب مرهون بانفلاته من سطوة الكنيسة حيث كانت تحتكر كل شيء لنفسها، و تسيطر على عقول الناس وافكارهم بمجموعة من الأوهام، وعندما تخلّص من هذه الأوهام تقدّم اشواطاً إلى الامام. وبعض الذين درسوا في الغرب من ابناء المسلمين ولاحظوا تقدم الغرب وعرفوا ان تقدمه هو بسبب تركه للانجيل، عاد هؤلاء المسلمون إلى بلادهم وهم يحملون فكرة التخلص من القرآن الكريم، وساعد هؤلاء تبعية الحكام للغرب وجهلهم بأحكام الاسلام، وأخذت هذه النغمة تنتشر بين الشباب المتغربين، وقد تجاهلوا الفارق الكبير الموجود بين القرآن الذي حفظه الله تعالى من الدسّ والتحريف وبين الانجيل المحرّف، وعلى فرض انه لم يكن محرّفاً فقد نزل لفترة من الزمن فهو لا يصلح لكل زمان كما هو القرآن.

وقد أثّرت هذه الدعاية المضللة في عقول البعض الذين تركوا القرآن وراء ظهورهم فتأخروا.. وتراجعوا.. وانهارت حضارتهم ومدنيتهم.

من هنا كان لزاماً على المسلمين ان يعودوا لكتابهم المقدّس في هذا الشهر المبارك و ان يحيطوا به من كل جانب ويتمسكوا به في كل بعدٍ من أبعاده في قرائته وحفظ آياته، وفي التجويد وتعلّم معاني ألفاظه وتفسيره تعليماً وتعلّماً وتأويلاً وعملاً واتباعاً، فالقرآن كالنور إذا أطفأه الإنسان عمّ الظلام، وإذا أشعله عمّ الضياء كل الأرجاء.

لابدّ من تعبئة كل الطاقات المتاحة لأجل اقامة الهيئات بعدد المساجد، بل اقامتها في البيوت ايضاً حتى يتحوّل جوّ هذا الشهر المبارك إلى جوٍ قرآني، فلا تسمع الاّ صوت تلاوة القرآن، ولا تقرأ الاّ في علوم القرآن، وعندما يمتلأ الجو بالقرآن تستعد النفوس إلى تطبيقه والأخذ به كبرنامج للحياة الرغيدة.

هكذا فعل رسول الله، في بداية الدعوة الاسلامية، فقد كان يجعلهم في جو القرآن، وبعد ذلك يدعوهم إلى التمسك به والعمل بهداه.

وشهر رمضان هو مناسبة لخلق هذا الجو الايماني الصادق والذي سيكون مقدمة لتطبيق القرآن الكريم.

والسبيل الأفضل لذلك كما قلنا هو اقامة الهيئات الكثيرة في المساجد والبيوت بل كل أربعة أو خمسة اشخاص يشتركون في تكوين هيئة قرآنية. وهكذا سنقف امام زحف الثقافاة الغربية والتيارات المنحرفة، وسيمكننا ذلك من العودة إلى تطبيق القرآن
 
القرآن الكريم منهج للحياة
 
القرآن الحكيم كتاب للحياة ومصدر للنور ودستور للسلام، فعن الحياة يقول سبحانه: (إذا دعاكُم لِمَا يُحييكُم...)، وعن النور يقول تعالى: (واتَّبعوا النّور الذي اُنزِلَ معه)(3)، وعن السلام يقول جل ذكره: (يهدي به الله مَن اتّبعَ رضوان سُبُلَ السَّلامِ...)، وهكذا كان القرآن الكريم في بدو الاسلام، فهو الذي وضع المسلمين على طريق الحياة الرغيدة الشريفة من خلال حثّه على العمل و الانتاج، وعبر تحفيزه الناس على التعاون ومساعدة الغير، ومن خلال ما وضع امام المسلم من مناهج اقتصادية واجتماعية نتيجتها هي الحياة الكريمة التي ترفرف اجنحتها بالسعادة و الرخاء. وكذلك القرآن الكريم أرشد الناس إلى طريق الحياة السليمة من خلال الضوء الذي يسلّطه في طريقهم ليهتدوا في الظلمات إلى مواطن الخير فيتمسكوا بها، والى مواطن الشرّ فيتجنبوها. وعرّفهم القرن الحكيم سُبل السلام في الدنيا قبل الآخرة، ويوم كان المسلمون يفهمون القرآن وتعاليمه ويتمسكون به ويأخذون بمنهجه كان لهم الخير والصلاح.

اما عندما تركوا القرآن جهلاً من بعضهم بآياته وعناداً منهم لِمنهجه انهالت عليهم المشكلات من كل حدبٍ وصوب.

عندما ترك المسلمون العمل بمضمون؛ آية الامّة: (وانَّ هذه أُمّتُكُم أُمّةً واحدةً).

وآية الاخوة: (إنّما المؤمنونَ إخوةٌ).

وآية الحرية: (وَيَضعُ عنهم اصرَهم والاغلالَ التي كانت عليهم).

وآية النعم: (خلق لكم ما في الأرض جميعا).

وآية النكاح: (وانكحوا الايامى منكُم والصالحينَ من عبادِكم وإماءِكُم).

وآية التعاون على فعل الخير: (وَتَعاوَنوا على البرِّ والتقوى ولا تَعاونوا على الاثمِ والعُدوان).

وآية المسؤولية: (كُلُّ امرئٍ بما كسبَ رهين).

وآية الحكومة: (لتحكُم بينَ الناسِ بِما أراكَ اللهُ).

وآية تجنّب الظلم: (لا تُظلِمُونَ وَلا تُظلَمُون).

وآية تجنّب الخمر والميسر: (إنَّما الخمرُ والميسِرُ... رِجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتنبوه).

عندما ترك المسلمون العمل بهذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم انطفأت شعلة الحياة في نفوسهم واصبحوا كما قال تعالى: (لا يموتُ فِيها ولا يَحيى) فلا هم بميتين ولاهم بأحياء. أي انهم في حالة احتضار دائم، وهناك اممٌ كثيرة في التاريخ عاشت هذه الحالة العصيبة لردح من الزمن.

هذا في مجال الحياة اما في مجال النور الذي يسطع من آيات القرآن ليبعث على الهداية و الصلاح؛ فقد أصبح الأمر عكسياً، فالظلام هو الذي عمّهم والموت هو الذي شملهم. فقد وصفهم القرآن بقوله (يُخرِجونَهم من النور إلى الظلمات …)، بعد ان أخرجهم القرآن من الظلمات إلى النور.

اما عن السلام الذي هو امنية الإنسان فقد تبدّلت وتحوّلت حياتهم إلى ضنك في ضنك: (وَمنْ أعرضَ عن ذكري فانَّ له معيشةً ضنكا...).

هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة والشرف والكرامة وإذا أردنا ان يرفرف السلام فوق رؤوسنا، فلابدّ ان نعود إلى كتاب الله، وبالأخص في هذا الشهر المبارك، لابدّ ان نقرّر العودة إلى القرآن عندما نجلس بين يدي الرحمن ونقرأ آياته.

علينا ان لا نكتفي بالقراءة فقط ـ بالرغم ما لقراءة القرآن من ثواب وأجر لايعادله شيء ـ فإنّ القراءة وحدها (كرامٍ بلا وتر) كما ورد في الحديث الشريف.

اما عندما يكون عمل الإنسان مناقضاً لما يقرأه من الآيات:

يقرأ آية الاخوة: (إنّما المؤمنونَ اخوةٌ...) وهو يعمل على تفريق صف المسلمين.

يقرأ آية الحرية: (وَيَضعُ عنهم اصرَهم والاغلالَ التي كانت عليهم) وهو يعمل على تركيز الاستبداد وهكذا وهلم جرا..

فانه سينطبق علينا قول رسول الله (ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه).

وقد قال تعالى: (قُل هو للَّذينَ آمَنوا هُدىً وشفاءٌ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى).

والقرآن مثله مثل كل ما أنعم الله على الإنسان من خيرات، فإذا لم يستفد منها بل عمل على العكس منها كانت عليه نقمة أرأيت كيف يتحوّل النفط الذي اسداه الله نعمة للإنسان إلى بلاء على الانسان، يحرقه ويدمّر حياته عندما يحاول ان يعبث به ولا يحسن استخدامه.

فمن الضروري ان نجدد عهدنا بالقرآن العملي بعد القرآن العلمي، لعلّ الله يخلصنا من هذه الهوة السحيفة التي سقطنا فيها يوم تركنا القرآن كمنهج للحياة.
 
الآيات المنسية
 
نظرة واحدة إلى واقع المسلمين تكشف لنا عن الخلل الكبير الذي يُعاني منه المسلمون في حياتهم السياسية و الاجتماعية والاقتصادية، ويعود السبب الأكبر إلى تجزئة القرآن الكريم في التطبيق، فهناك آيات أخذ بها المسلمون وآيات اخرى تركوها وراء ظهورهم، وسوف يسألون عن ذلك، قال تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين ــ الذين جعلوا القرآن عِضِين ــ فَوَرَبَّك لَنَسئلنَّهم أجمعين ــ عمّا كانوا يعملون).

وأي سؤال صعب سيكون امام اولئك الذين أخذوا جزءً من القرآن وتركوا جزءً آخر؟

فماذا أعدّوا من الأجوبة لو سئلوا عن آياتٍ تركوها وراءهم. ومن هذه الآيات:

أ ـ آية الشورى: (والذين استجابُوا لِربّهم وأقاموا الصلاَة وَ أمرهُم شُورَى بينَهُم وَ ممَّا رزقناهم يُنفقون)(22).

فقد جعل الله الشورى بين الصلاة و الانفاق، والصلاة هي ركن العبادة وعمود الدين، وهي السبيل لبناء الشخصية الإسلامية. اما الانفاق فهو السبيل لتقدم المجتمع واقامة نظام اقتصادي اساسه العدل.

وبين الواجبين ـ واجب الصلاة وواجب الانفاق ـ هناك واجب ثالث هو الشورى.

والشورى قاعدة في نظام الحكم وفي النظام الاجتماعي، وبدونه لا يقوم للمجتمع قائمة.

والشورى حلقةٌ بين حلقتين لا يُبنى المجتمع الإسلامي الاّ بهما؛ وللمجتمع ثلاثة أبعاد، بعدٌ روحي يتحقق من خلال العبادة، وبعدٌ سياسي يتحقق من خلال الشورى، وبعدٌ اجتماعي يتحقق من خلال الانفاق.

ب ـ ومن الآيات المنسية آية الحرية: (وَ يضَعُ عَنهم إصرَهم والاغلال التي كانت عليهم)(23)، الحرية في كل شيء الاّ المحرمات، ومن مصاديق الحرية: حرية تكوين الاحزاب، واقامة المؤسسات الدستورية، وسنّ القوانين المتناسبة مع اهداف المجتمع الإسلامي. وحرية التجارة وحرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وصناعة وعمارة وطبع ونشر، واستفادة من المباحات أرضاً كانت أو غيرها...

كذلك الحريات الشخصية التي لا تتعارض مع الاحكام الشرعية كحرية السفر والاقامة والعمل، وقد فصّلنا ذلك في بعض كتبنا

ج ـ ومن الآيات المنسية آية السعي: (وأن ليس للانسانِ الاّ ما سعى ــ وَأنَّ سعيَهُ سوفَ يُرى)(25).

فلابد ان يكون اهتمام كل إنسان بالانتاج؛ الفلاح في مزرعته يفكر بالانتاج في الجانبين الكم والكيف والعامل في مصنعه يفكر بالنتاج في الكم والكيف. وهكذا كل إنسان يعيش في المجتمع الإسلامي رائده الأول هو الانتاج، وعندما يزداد الانتاج ينتعش المجتمع، وعندما يتحسن الانتاج يحصل الاكتفاء الذاتي، و الحصيلة هي التقدم في كل المناحي وعدم الاحتياج إلى الأجانب.

د ـ ومن الآيات المنسية آية الأُمة الواحدة: (إنَّ هذهِ أُمّتُكُم أُمّةً واحدةً)(26) حيث لا حدود جغرافية بين بلاد المسلمين.

هـ ـ ومن الآيات المنسية آية عدم الضريبة الاّ الأربع ـ وهي الخمس والزكاة والجزية والخراج، حيث قال سبحانه: (فَلَكُم رؤوسُ أموالِكم لا تَظلِمونَ وَلا تُظلَمونَ).

و ـ ومن الآيات المنسية آية (خَلقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً) حيث تفيد ان: (الأرض لله ولمن عمّرها) وتفيد: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له).

وبسبب تناسي هذه الآيات تراجع المجتمع بدل ان يتقدم، وانفضّ بعض المسلمين عن الإسلام ولم يرغب غير المسلمين في دخول الإسلام.

فسادَ الاستبداد عندما ترك الــمســـلمون الشورى، وشلّ المجتمع عندما ترك المسلمون العمل بالحريات المتاحة لهم، وانخفضت انتاجية المجتمع عندما ترك المسلمون السعي، وتشتت المسلمون تمزقوا عندما قطعت بلادهم، واضحوا في ضنك عندما تركوا قانون (لكم)

وشهر رمضان هو شهر القرآن.. القرآن كلّه، وليس جزءً من القرآن، فلابدّ من العودة إلى تلك الآيات المنسية، ولابدّ من العمل، وادراك خطورة تركها وراء الظهور.
 
التفقّه
 
لابدّ من دراسة الفقه، دراسة تشمل صنوف الناس، فان للفقه عرضاً عريضاً، حتى ان المظنون (في الفقه) يحتوي على نصف مليون مسألة شرعية، ومن الواضح ان المسائل أكثر من ذلك.

نضرب مثالاً على ذلك: ان أحد الأصحاب سأل الامام الصادق عن مسائل الحج أربعين عاماً ولم تنته هذه المسائل.

فسأل الامام في تعجب: اني اسألك عن مسائل الحج مدة أربعين عاماً و انت تجيبني.

فأجابه الامام: (بيت حجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد تفنى مسائله في أربعين عاماً).

ولا عجب من ذلك فان سعة الحياة، وسعة ما خلق الله من البشر ومن الاحياء، وسعة ما في هذا الوجود من تنوع، هو السبب وراء هذه المسائل الكثيرة.

وكثرة التفريعات في التشريع هو من مصلحة الإنسان حيث سيكون محاطاً بالاحكام ولن يكون متحيراً من أمره عندما يُبتلى بمسألة شرعية. فلابدّ لكل مسلم ان يطّلع على أحكام دينه. ولما لم يكن بمقدوره الاحاطة بجميع الاحكام فيكفي ان يتعلم المسلم المسائل التي يُبتلى بها في حياته العملية وسبيله في ذلك هو حضور الهيئات التي تقام في هذا الشهر الكريم، والتي تقدّم بالاضافة إلى تعليم القرآن تعليم المسائل الشرعية.

كما يجب على الخطباء والوعاظ وأئمة المساجد ان ينتهزوا فرصة شهر رمضان المبارك وإقبال الناس نحو المساجد إلى شرح الاحكام الشرعية بقدر المستطاع، فأكثر الخلل الذي نشاهده في المجتمعات الإسلامية منشأه عدم التزام المسلمين بالأحكام الشرعية، فلابدّ من سدّ الفُرج الناشئة من هذا الخلل.

وشهر رمضان هو المناسبة الجيدة لتعميم هذه القضية وجعلها مسألة ملحة عند عامة الناس، وجعلها مسؤولية أئمة المساجد والخطباء والمبلّغين الذين عليهم ان يخصصوا وقتاً معيناً في برنامجهم خلال هذا الشهر المبارك لتعليم الاحكام الشرعية.

وبهذه الوسيلة ستعمّ دراسة الفقه وتصبح من الامور المألوفة في المجتمع كتعلم قراءة القرآن وما أشبه.
 
تطبيق الاحكام

 
ثلاثون يوماً كافية لتدريب المسلم على التقيّد بالاحكام الشرعية، فإذا ما قرر الإنسان المسلم ان يجبر نفسه على الالتزام بما يُملي عليه دينه فيعمل الواجبات وينبذ المحرمات كان تدريباً حسناً؛ وشهر رمضان هو أفضل مناسبة لهذا التدريب حتى يخرج الإنسان المسلم من هذه الجولة وقد اعتاد على التقيّد بالاحكام الإسلامية.

فمن البرامج التي يستطيع المسلم القيام بها في شهر رمضان اداء ما عليه من الصلاة الفائتة ـ لمعصية أو لغير معصية كالنوم والغفلة ـ.

كذلك يقوم باداء بقية الواجبات المطلوبة منه، فإذا كان عليه صوم قضاء يبني على قضاء صيامه الفائت بعد شهر رمضان، فان البناء على اتيان الواجبات لازم، وان يبني على اتيانه بالحج الواجب عليه، وإذا كان عليه دين فيجب ان يسرع في دفعه على عجل، وإذا كان عليه خمس أو حق شرعي من الحقوق عليه ان يسرع في اعادتها إلى اصحابها المستحقين.

وفي مجال ترك المحرمات يجب على المسلم ان يدرّب نفسه في شهر رمضان على ترك المعاصي، فإذا كان مدمناً على الخمور ـ لا سمح الله ـ عليه ان يقرر التخلص من هذه العادة الذميمة.

وإذا كان مُرابياً، عليه ان يطهّر امواله من مال الحرام و ان يطهّر نفسه من أكل الحرام ثم يقرر ان يترك الربا، ويستثمر أمواله في الخير، وإذا كان مقامراً، عليه ان يعود إلى رشده في هذا الشهر الكريــــم و ان يترك هذا العمل تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، حتى لا يبقى عليه واجب لم يقم به، أو إذا ظلّ يعمل بالمحرمات ولم ينته منها فان صومه لا ينفعه ولا يقبل منه ـ وان كان مسقطاً للتكليف ـ على ما قررته الآيات والروايات، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (انّما يَتَقبَّلُ اللهُ مِن المتَّقين)

ومن الوهم ان يعـــتـــقــد الإنسان انهُ سيدخل الجنة ببعض الواجبات وانه سينال غفران الله على كثرة عصيانه لله تعالى، فالعاصي سينال عقاب عصيانه.

ومن الغرور ان يعتقد الإنسان بأنه من أهل الجنة وهو يرتكب المنكرات، وقد قال تعالى : (فلا تغُرَّنكم الحياةُ الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغرور).

صحيح ان الله قادر على كل شيء وانه قد يغفر له نتيجة عمل واحد قام به في الدنيا كمساعدة إنسان محتاج، لكن لا يمكن الاعتماد على ذلك وترك الأحكام الشرعية.

فمثل هذا الإنسان مثل ذلك الرجل الذي يذهب إلى ميدان السباع على أمل ان يجد هناك من يستطيع ان يدفع عنه أذى هذه السباع.

فعلى الإنسان المسلم ان يكمل نفسه كما أراده الله سبحانه و ان لا يبقّي على نفس أية نقيصة من عبادة أو دين أو معاملة، فالجنة للمؤمنين الذين اقترن ايمانهم بالعمل الصالح وبالاخلاص ولم يتركوا واجباً ولم يصرّوا على ارتكاب المعاصي.
 
التمسك بالاخلاق الفاضلة
 
كما ان المسلم يُلزم نفسه خلال شهر رمضان المبارك بالتقيّد بالاحكام الشرعية، يُلزم نفسه أيضاً بالتقيّد بالاخلاق الفاضلة، فالصوم ليس عن الأكل والشرب بل عن كل ما يخدش شخصية الصائم، من كلمة نابية يطلقها على صديق له أو على زوجته أو من فعل نابٍ يرتكبه بحق قريب له أو بحق المجتمع على العموم.

ان شهر رمضان فرصة للتدريب على الاخلاق الحميدة ونبذ الرذائل، والمراد بالاخلاق أعمّ من الاخلاق الواجبة كالصدق والامانة والوفاء بالعهد وما أشبه ذلك، أو الاخلاق المستحبة كإطعام المساكين والسلام على الناس والبُشر في وجوههم.

ولا يخفى ان هناك فرقاً بين الوعد والعهد. فالعهد يتم من جانبين، وهو عقدٌ من العقود قال سبحانه: (وَاوفوا بِالعهدِ إنَّ العهدَ كانَ مسؤولا). اما الوعد فهو من الايقاع وان كان ـ أحياناً ـ يطلق أحدهما على الآخر.

ومن الخطأ ان يكفر سيء الخُلق بأنه يستطيع في أيّة لحظة ان يُحسّن أخلاقه إذا اراد ذلك!!

فمن شبّ على شيء شاب عليه، فان الاخلاق السيئة التي تتكرر عدة مرات تتحول على عادة وتتأصل في النفس فيصبح من الصعب جداً قلعها الاّ بعد جهدٍ ورياضة نفسية عالية.

والاسلوب الأمثل للتخلص من الصفات الذميمة والاخلاق السيئة ما يلي:

1 ـ التذكر الدائم بنتائج الاخلاق الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون صاحب الاخلاق انساناً محترماً ناجحاً في المجتمع، محبوباً لدى الناس، وفي الآخرة يكون مصيره الجنة حيث الخلود والراحة الأبدية، اما صاحب الاخلاق السيئة فيكون على العكس ينفر منه الناس ويبتعدون عنه، ويفشل في كل خطوة يخطوها داخل المجتمع، وفي الآخرة يكون مصيره نار جهنم حيث العذاب الأبدي.

2 ـ مطالعة قصص ذوي الاخلاق الحميدة الذين نجحوا في الحياة بسبب اخلاقهم، ومطالعة من هم على العكس ممّن أخفقوا في حياتهم بسبب أخلاقهم السيئة.

3 ـ الايحاء الدائم بانه يريد ان يكون انساناً خلوقاً وانه يريد نبذ الاخلاق السيئة.

فللايحاء دورٌ كبير في ربط الإنسان المسلم بالاخلاق الفاضلة والقيم النبيلة.

4 ـ معايشة ذوي الاخلاق الحميدة وعدم التقرّب من ذوي الاخلاق السيئة.

وقد قال الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه                فـــكل قــــرين بالمــقارن يقتدي

وقال آخر:

فــالنفس آخـــذةٌ ممـــا تمــــرُّ بـــه                نتناً من النتن أو طيباً من الطيب

وخلاصة القول: ان العمل على تحسين الاخلاق هو نوع من الجهاد، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه عند عودته من غزوة تبوك: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس)(40).

وفي حديث آخر: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)، وغير ذلك من الروايات والأحاديث.

ونقطة أخيرة أوصي بها الاخوة الكرام وهي ان يطالعوا كتب الاخلاق من امثال (جامع السعادات) وكتاب (مكارم الاخلاق) لأن هذه الكتب تصنع جواً مناسباً فتسهل للإنسان المسلم عملية تغيير سلوكه وخلاقه إلى الأحسن.
 
دراسة التاريخ
 
الإنسان ماضٍ وحاضر ومستقبل.

ولا حاضر بدون الماضي ولا مستقبل بدون الحاضر.

والتاريخ هو الماضي، وهو الوعاء الذي يخزن تجارب الامم والدول. من هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ باعتباره دراسة لتجارب الامم و الشعوب.

والحياة ليست بتلك السعة التي يستطيع الإنسان فيها ان يكرر التجارب الفاشلة.

والعمر ليس بذلك العمر المديد بحيث يكون بمقدور الإنسان ان يعيد تجارب الماضين.

من هنا كان لابدّ من الاقتداء بالآخرين الصالحين وأخذ العِبر من تجاربهم والاستفادة من نتائج أعمالهم.

وفي شهر رمضان يحسن بالإنسان المسلم ان يدرس التاريخ ليطّلع على حياة الاُمم والحضارات ويتفهم حياة العظماء والمصلحين الذين جاءوا إلى هذه الدنيا.

في شهر رمضان يتعطش المرء لدراسة السيرة النبوية ليعرف تاريخ المسلمين الأوائل، وكيف استطاعت الفئة القليلة من المسلمين ان تصنع امّة مترامية الأطراف.

ان تأثير الفكرة التي صدع بها الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كتأثير الحجر عندما يُرمى في وسط الماء، فانه يأخذ بالتموّج ويستمر هذا التموّج بقدر حجم الحجر، وشدة الرمية.

لقد استمرت الفكرة التي طرحها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تتموّج وظلّت تبعث الموج بعد الموج على مدار الزمن، ومع كل موج كانت أجيال جديدة تدخل الاسلام وهي تتحول إلى واسطة لنقل الفضيلة والقيم الإسلامية إلى الأجيال الآتية.

وظلت هذا الحالة هي السائدة ـ إلى حدّ ما ـ حتى قبل قرن من الزمن حيث توقفت نتيجة الغزو الاستعماري ـ عسكرياً وفكرياً ـ للبلاد الإسلامية، لتقوم مكانه زعامات موالية للغرب على البلاد الإسلامية وانتشار الافكار المغلوطة والهدامة، اضافة إلى فهم الإسلام بالمقلوب.

وإذا ما تمعنّا في أسلوب انتشار الإسلام سنلاحظ بالتأكيد انه لم ينتشر بالقوة والاستعمار والاستغلال، بل بالارشاد و الاقناع و التأثر بالفكرة والسلوك و(ادعُ إلى سبيل ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة) و(كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم).

فالفكرة هي القادرة على بعث الموج وليس السيف.

وهذه فكرة هامة نستنتجها من قراءة التاريخ خصوصاً في أيام شهر رمضان، وإذا ما أردنا العودة إلى قوة الإسلام ومنعته، لابدّ وان نأخذ بأسباب القوة.

وإذا أردنا ان نخرج من دائرة الانحسار وننطلق في الميادين العمل المنتج لابدّ وان نبدأ من حيث بدأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد بدأ بالفكرة وليس بالسيف.

وهذا هو الطريق الذي يجب ان يسلكه المسلمون، فعليهم ان يوحدوا صفوفهم وينظّموا طاقاتهم وينبذوا العنف ويحملوا الفكر الذي حمله رسول الإسلام(ص ) إلى العالم وينشروه بالحكمة والموعظة الحسنة.

وبذلك ستتغيّر المعادلة، سيدخل الناس في دين الله افواجاً بعد ان خرجوا منه، وما ذلك على الله بعزيز.

قال أمير المؤمنين ما مضمونه: (ان المسلمين يتركون العمل بالقرآن فيتركهم الله ثم يرجعون إلى القرآن فيرجع الله إليهم بعطفه ولطفه).