هل ألغت دول الخليج اهتمامها بالتراث !بعد إغلاق مركز التراث الشعبي بالدوحة

يتميز التراث الشعبي في منطقة الخليج العربي بعراقته وأصالته خاصة قبل فترة ظهور النفط حيث تقوم تلك الأصالة والعراقة على بناء راسخ من التعاليم الدينية والقيم الإنسانية السامية والتقاليد الراسخة وقد ظل هذا التراث حيا بين الناس يشكل جزءا من حياتهم الثقافية والاجتماعية.
      وبظهور النفط في المنطقة اتسع محيط الانفتاح على العالم من كل الجهات وبكل الوسائل وقد احدث هذا الانفتاح والطفرة الاقتصادية تغييرات واسعة في مجتمعات وبلدان المنطقة شملت مختلف اوجه الحياة من اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها وقد كان التراث واحدا من تلك الوجوه التي زحف إليها هذا التأثير، وكان لا بد من خطوات سريعة تكفل الحماية والحفاظ على عناصره خاصة وان هناك عوامل أخرى غير النفط ساعدت على تسارع هذه التغيرات وكانت الخطوة الجادة في هذا الطريق من دول مجلس التعاون الخليجي تكمن في  تأسيس مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ن في مطلع العام 1982 كمؤسسة إقليمية خليجية مشتركة تنفيذا لقرار المؤتمر السادس لوزراء الإعلام بدول الخليج العربية الذي عقد في مسقط بسلطنة عمان خلال شهر مارس 1981 واشهر مؤسسة إقليمية تتمتع بالشخصية القانونية المستقلة في ديسمبر 1983، اتخذ من مدينة الدوحة مقرا له واصبح أحد مؤسسات مجلس التعاون المستقلة ، في العام 1991 بعد حرب الخليج وتحرير الكويت من الغزو العراقي عليها حيث تم استبعاد العراق من كل المؤسسات المشتركة.

ولا أبالغ إذا قلت بان المركز وخلال هذه الفترة حقق الكثير من المنجزات فيما يتعلق بجمع التاريخ الشفاهي لدول المنطقة ولعل الأرشيف الكبير من الأبحاث والدراسات التي قام بها على مستوى رقعة دول المنطقة ، رغم تراجع أعمال المركز نتيجة تراجع الدول المؤسسة له عن تسديد نسبتها في الموازنة السنوية للمركز والتي لا تتجاوز الستة ملايين ريال قطري موزعة على دول المجلس حسب الأنصبة في موازناتها حيث تدفع كل من قطر والإمارات والكويت والسعودية النسبة الأكبر وهي تعادل 19 % أما سلطنة عمان والبحرين فنسبتها 2,50 % ، مما تسبب في تراجع  الأعمال البحثية الميدانية بشكل كبير مما عجل باتخاذ القرار الصعب على كل المهتمين بجمع مادة التراث الشعبي ليس في منطقة الخليج فحسب  بل في جميع الدول العربية والعالم لأن المركز كان السبيل الوحيد لهم على الرغم من إقليميته الخليجية إلا انه كان ومن خلال مطبوعته المميزة مجلة المأثورات الشعبية وهي الفصلية العربية التي ساهمت في تلاقي جميع العرب من خلال التراث ولعل تجهيز منتخب لأحدى فرق الناشئين في إحدى الدول الخليجية تفوق موازنة المركز بكثير ومن خلا ل متابعاتنا الصحفية نجد أن لاعبا خليجيا يحصل على مبالغ كبيرة من اجل التوقيع لفريق خليجي، لم يصل حتى إلى المربع كما يطلق عليه في عالم الدوري المحلي في دول المنطقة، في حين أن دول المجلس الست لم تتمكن من أن تدفع موازنة مركز التراث الشعبي وهو مركز بحثي يوثق للأجيال القادمة التي باتت لا تعرف عن القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية أي شيء لأننا في عالم متغير ويهتم بالعولمة وغيرها من المتغيرات التي حدثت في المنطقة، دون أن يعرف مثل هذه القيم ، ومن هنا تكمن أهمية وجود مركز بحثي يهتم بجمع التاريخ الشفهي لهذه المنطقة، التي ينظر إليها على أنها دول أنابيب بترول فقط ليس لها تاريخ أو حضارة، بل أن الخليج ليس كما يعتقد البعض على انه خيمة وجمل وصحراء هذه الصورة النمطية التي تشكلت في أذهان الجميع، لأننا لم نعرف كيف نهتم بطرح ثقافتنا المحلية لنصل إلى الجميع بالرغم من أننا نملك كل المقومات المادية والبشرية لنغير الصورة المعكوسة عن المنطقة، فكان مركز التراث الشعبي خطوة كبيرة لمنطقة الخليج لكي تجمع تراثها الشعبي ليكون الصورة الواقعية عما كان علية المجتمع قبل هذا التغير الذي حدث قبل وبعد ظهور النفط في حياه الإنسان في المنطقة .
    
     لقد كان قرار الوزراء المسؤولين عن الثقافة في دول المجلس بإغلاق مركز التراث الشعبي كأن هنالك توجها خليجيا للتخلص من المؤسسات الخليجية المشتركة مثل جهاز تلفزيون الخليج ومؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك ومنظمة الخليج للاستشارات الصناعية، حيث يرى القائمون بدول المجلس بان هذه المؤسسات عديمة الجدوى والفائدة وبالتالي فان التراجع عن الدعم المادي لهذه المؤسسات ساهم في تراجع إنتاجها .

     بحكم علاقتي بالمركز كموظف ظل صامدا منذ تأسيسه وحتى آخر يوم فيه واليوم لابد أن نسأل أنفسنا.. ما هو حجم الخسارة عند إغلاق مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون ؟ والخسارة هنا ليست مادية.. الخسارة هنا كبيرة الحجم لأنها تتعلق بالإنسان وبالمجتمع إنها  ليست نقودا حتى نعوضها، ولا بنايات حتى نعيد بناءها، إن خسارة مركز أو مجلة أو اتحاد أو جمعية أو نقابة تتعلق بالثقافة بشكل عام، تعني خسارة المجتمع بالكامل لرافد من روافده الضرورية لبنائه وديمومته وصحته.
    
      حينما اتخذ القرار بإغلاق المركز، فان مجلته المأثورات الشعبية والتي تصدر منذ العام 1986 و المتخصصة بدراسات التراث الشعبي لدول الخليج العربية وربطه بالتراث العربي والعالمي وبعيدا عن المجلات الإقليمية التي تصدر هنا وهناك فقد كانت همزة الوصل بين الخليج والمحيط ، سوف تتوقف كما توقف نشاط المركز على مستوى رقعة البحث في المنطقة.

      هذه المجلة التي تعتبر مرجعا علميا لكل باحث وطالب ودارس بل وحتى المتتبع من عامة الناس، بل وهذه المجلة أحيت العديد من عناصر تراثنا التي نسيها الجيل الجديد ، وماذا نقول عن تلك الدراسات المتخصصة والمتعمقة في تراث الخليج، ابتداء من صلالة بسلطنة عمان حتى فيلكة في الكويت، والتي صدرت بكتب ضخمة لا يمكن لأي بيت أن يستغني عنها، لأنها تشكل رافدا حيويا لثقافة الخليج وأساسا راسخا للمبدعين.

     وكيف لنا أيضا أن نستغني عن الأنشطة المختلفة لمركز التراث الشعبي والتي تصب جميعها في حماية وتنشيط تراثنا  الخليجي ؟!

     إن الأمم والشعوب تتفاخر بتراثها، وتبذل الجهد والمال للحفاظ عليه، وقد جاء إنشاء المركز انطلاقا من هذه الغاية والقناعة، وفي وقت كان تراثنا يتعرض للضياع بكل معنى الكلمة ولو لا الجهود المخلصة للمركز لتلاشت الكثير من كنوزنا التراثية في كل جانب من جوانب الحياة.
     ولا زلت اذكر تلك الأهمية الكبيرة للمركز أبان الغزو العراقي للكويت ، عندما تعرضت منشأتها الثقافية والتراثية والمتحفية والفنية، فان المركز وفر كل المعلومات الخاصة بالتراث الشعبي الكويتي، بالكلمة والصورة والصوت، حين كانت الحاجة إليها، فأثبتت أهميته وجدواه وخطورة رسالته حتى في احلك الظروف.
    
     بصراحة نقول أن جزءا من المبالغ التي تدفع من قبل وزارات الإعلام بدول المجلس لصحافة الاستجداء، ولتجار الكلمة والمواقف الملتوية وللمنافقين في المدح والإطناب لهذه الدولة أو تلك ، كان كفيلا بأن يحل أزمة مركز التراث الذي تختلط كل مادة فيه بدمائنا، لأنها تحمل سيرة وحياه، ومسيرة الأجداد والأباء الحضارية ، كواحد مهتم بالتراث الشعبي كنت أتطلع إلى أن يستمر المركز  سنوات طويلة لأهمية هذا  التراث لدول المنطقة وحاجتها إلى الجمع والتدوين والتوثيق لجوانب التراث ، وقد كنت قبل ذلك من  اقل المتشائمين بإغلاق المركز في يوم من الأيام .

     إن المتابع للعلاقات الخليجية الخليجية سوف يرى السبب في هذا التراجع بمثل هذه المقومات التي تضمن الاستمرارية لها، فبروز أي مشكلة في إحدى الدول ينعكس على الخطط والمشاريع والهيئات والمنظمات الخليجية التي يفترض أن لا تكون لها علاقة مباشرة بمثل هذه الخلافات، التي من الطبيعي أن تبرز وتتواجد على السطح وسرعان ما يتم احتوائها بعد حبة خشم " ما عادات الخليج عند السلام على الصديق أو الضيف " فان هذه الحبة تنهي الكثير من الخلافات التي تظهر هنا أو هناك في دول الخليج، ولكن يظل السؤال المطروح إلى متى سوف نظل نحن شعوب هذه المنطقة نعتمد على حب الخشوم ولبس البشوت ، علاقاتنا يجب أن تكون أقوى من أي تأثير، لذلك يرى الكثير من شعوب المنطقة هشاشة في دور الأمانة العامة لمجلس التعاون وقدرتها على معالجة الأمور عندما يتعلق الأمر بهدم صرح من صروح الثقافة مثلا في دول المجلس، ولا أبالغ إذا قلت بأن الأمانة العامة لمجلس التعاون لم يكن لها دور في المحافظة على مثل هذه المؤسسات الخليجية المشتركة والتي تقع تحت لوائها أو على الأقل اسمها، فأي أمل ينتظرنا نحن شعوب هذه المنطقة والى أين نسير والى أي مدى سوف نصل فيما وصلت إلية دول العالم، وتذكرت هنا حادثة من الجميل أن اذكرها هنا عند تأسيس المركز كان الشاعر علي عبد الله خليفة صاحب فكرة إنشاء المركز يخاطب المراكز والمؤسسات التراثية في العالم من اجل مد الجسور معها والاستفادة من خبراتها في مجال جمع التراث الشعبي، فقد كانت الردود تصلنا منهم يطرحون علينا هذا السؤال هل المركز سوف ينشئ أم انه موجود وتحتاجون لخبرتنا في هذا المجال لان الهند مثلا لديها مركز للتراث الشعبي قبل اكثر من 100 سنه ، نعم الآن في هذه الفترة فكرت هذه الدول في تأسيس مركز للتراث الشعبي وكانت فكرة صائبة للغاية كنا نأمل أن تستمر هذه الفكرة الصائبة لدى السادة الوزراء المسؤولين عن الثقافة، لكن المشكلة تكمن في دول المنطقة ، إن هذه المؤسسات الخليجية الإقليمية المشتركة أقيمت خلال ليالي حمراء في أحد الفنادق ذات الخمسة نجوم في إحدى عواصم الدول الخليجية دون دراسة جدوى فعلية لأهميتها والضمان لإستمراريتها، فمقولة - طال عمرك -  هذا ينفع وهذا لا ينفع من يقرر النفع من عدمه، موظف شؤون مالية ليست له علاقة بأهمية الجمع الميداني والتوثيق لحياه المجتمع الخليجي لإنسان ما قبل النفط، فكل ما يهتم به هذا الموظف هو الموازنة السنوية وكيف يمكن تقليصها كل عام حتى باتت المؤسسات الخليجية مفرغة من محتواها الفعلي وباتت فقط مجرد واجهات للدلالة على خليجنا واحد وشعبنا واحد مجرد أغنية نسمعها نحن شعوب المنطقة في اجتماعات قادة دول مجلس التعاون الخليجي السنوية.

     إننا في دولة قطر خسرنا قبل سنوات مجلة الدوحة الثقافية والأمة الإسلامية والصقر الرياضية، وكنت في العام الذي أغلقت فيه مجلة الدوحة في العام 1986 ادرس في المعهد العالي للفنون الشعبية بجمهورية مصر العربية وكنا في رحلة عمل ميداني لمنطقة الوادي الجديد، ولأنها تتشابه مع الخليج في القيم الاجتماعية كنا نلبس الثوب الخليجي والغترة وعندما ركبنا سيارة البيك آب " نصف نقل " سألني من بقربي " من فين " فقلت له من الدوحة " فما كان منه إلا أن تغير حاله وأحسست بخطورة الموقف وسألته فيه حاجة قال لي أنت على رأسي أنا من المتابعين لمجلة الدوحة وتصلني كلما وصل البريد من القاهرة حيث اشترك فيها بعدد شهري وقدم لي الدعوة للذهاب معه إلى البيت للاحتفاء بي كواحد من الدوحة، فكتبت حينها مقالا أقول فيه لو أغلقت سفارة لكانت الدوحة سفيرنا في هذه المنطقة، ذهبت الدوحة ولم نتمكن من عودتها حتى الآن .
من سيعيد مركز التراث الخليجي بعد إغلاقه ، اشك في ذلك لان البناء مرة أخرى صعب للغاية!!