المجتمعات والـتقـليد

      الباحث الاجتماعي و المتتبع لقضية المجتمعات و انتقالها من مرحلة حضارية إلى أخرى و المتابع لتأثرها بالمجتمعات و الحضارات الأخرى يلاحظ بكل بساطة أن الضعيف و المغلوب على أمره يتأثر بالقوي و يقلده بل يجعله أسوة وقدوة يقتدي به في حياته ، ويحاول نقل تجاربه وإنجازاته على كافة المستويات من تربوية وتعليمية وثقافية واقتصادية وتكنولوجية وغير ذلك وسواء أكانت تلائم المجتمع المغلوب و المتأثر أو كانت دخيلة وغريبة وخاصة في مجال السلوك الاجتماعي و الأعراف والتقاليد .

   b  ظاهرة قديمة جديدة :

     ومسألة التقليد والاتباع للحضارات القوية ، مسألة شغلت أذهان الباحثين الاجتماعيين قديماً وحديثاً ، واستأثرت باهتمامهم .
       فعلى سبيل المثال، نجد الفيلسوف الاجتماعي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يخصص فصلاً يبحث فيه عن مسالة التبعية و المحاكاة و التقليد فيقول بأن:( المغلوب مولع أبداً بالإقتداء بالغالب في شعاره و زيّه و نحلته و ساير أحواله و عوا يده )  ، وبعبارة معاصرة مبسَّطة أنَّ المغلوب حضارياً و المهزوم ثقافياً متعطش في عقله الباطن و منطقة اللاشعور - حسب تعبير فرويد – لمحاكاة و تقليد المنتصر و المتقدم حضارياً فيحاول أن يقتدي به في زيّه و ملابسه فيستورد هذه البضاعة أو يحاول تصنيعها بالتقليد ، و هذا واضح جداً في قصَّة الشعر و ربطة العنق و اختيار نوع السيارة و الأجهزة الأتوماتيكية بل وحتى في نوع ماكينة الحلاقة و الصابون و المواد الغذائية و السلع و الحاجات الكمالية يحاول المهزوم نفسياً الذي يعاني من عقدة الحضارة و مركّب النّقص أن يعوِّض عن شعوره بالنقص و الدونية بمحاكاة القوي في نمط تفكيره و نظرته إلى الحياة و تقديره للأمور فيختار نحلته وأيدلوجيته ومذهبه الفكري ، وهذا ما عانى منه الشرق الأوسط في مطلع القرن العشرين حيث وفدت التيارات الفكرية و غزت العالم الإسلامي ، فظهرت على الساحة الفكرية التيارات الفكرية الغربية لإنسان الحضارة الأوربية فعادت مقولات من قبيل المادية التاريخية و الماركسية و الشيوعية و الاشتراكية وكذا الحركية الرأسمالية و العلمانية و الليبرالية و الوجودية، فلسفات متداولة في ثقافة إنسان العالم الثالث لو صح التعبير .

   b  فلسفة المحاكاة في نظر ابن خلدون:

      إذن فمسألة تقليد الضعيف للقوي من المسائل المسلَّمة في علم الاجتماع لدى فلاسفة الاجتماع و التاريخ و تطورات المجتمع و هذا ما قرره ابن خلدون في مقدمته بكل وضوح بل حاول أن يفلسف هذه الظاهرة الاجتماعية بقوله:( و السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها و انقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلبٍ طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك و اتصل لها صار اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به و ذلك هو الإقتداء.......) 

       فلذلك – يقول ابن خلدون: ( ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه (سيارته في هذا العصر ) و سلاحه ( كما تفعل دول العالم الثالث فتستورد أسلحة الدول المتقدمة ) في اتخاذها و أشكالها بل وفي ساير أحواله....... فانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيُّ الحامية و حبذا السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا الشبه و الإقتداء حظ كبير من عوا يدهم و أحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران و المصانع و البيوت...)

   b خيارات ثلاثة أمام المجتمع:

     وإنما نقلنا كلام ابن خلدون على طوله في هذه المقالة لنؤكد ما كنا قد أسسنا عليه في مستهل هذه المقالة و لكي يعرف القارئ المحترم أن ما تعانيه مجتمعاتنا من تبعية ثقافية و أيدلوجية فكرية و موضات و عبودية للغرب القوي ليس شيئاً جديداً في تاريخ الإنسانية المعذبة، وإنما هي سنن اجتماعية تتحكم في مصير المجتمعات، يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه  :( إن كل مجتمع مهزوم نفسياً و حضارياً تكون أمامه ثلاثة خيارات و احتمالات تقرر مصيره :

1-( فإمَّا أن يندمج في حضارة أخرى و يلحق بركب الحضارة المتقدمة ) ، وهذا ما نلاحظه في النموذج التركي الذي يحذو حذو الغرب الأوروبي و يحاول أن يلحقه في كل شيء !
2-( وإمَّا أن يُبتلى بغزو عسكري من الخارج )  ، هذا ما نلاحظه بوضوح في النموذج العراقي حيث ابتلى الشعب العراقي بغزو عسكري و احتلال مباشر من قبل القوة العظمى في العالم حالياً ، وما زال الشعب العراقي يعاني و يرزح تحت نير الاستعمار و الاحتلال الأمريكي ، وهكذا فعلاً صدقت نبوة مفكرنا الكبير السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه وكان تحليله لعناصر المجتمع منسجماً مع معطيات الواقع التاريخي و السياسي  .
3-( وإما تظهر حركة إصلاحية ثورية للمستضعفين تحاول إعادة الإسلام للحياة )  و هذا ما استطاع الإمام روح الله الخميني رضوان الله عليه تحقيقه حينما حاول شاه إيران أن يذوب في الحضارة الغربية وينهمر في بوتقة الفكر الاستعماري.

   b جيل التدين و الأصالة و المحافظة :

    وحقيقة التفاعل الحضاري و ظاهرة التأثر الثقافي بين المجتمعات نراها بكل وضوح في مجتمع القطيف، فقد كانت هذه المدينة العريقة تتفاعل و تتأثر ثقافياً و علمياً بالحضارات العلمية المتقدمة، و بعبارة أكثر صراحة كانت القطيف تُسمى في فترة من فترات التاريخ الحديث نسبياً – وبتحديد قبل نصف قرن من هذا الزمان – بالنجف الصغرى لكثرة العلماء الربانيين و الفقهاء المجتهدين بل وجود مجموعة من مراجع التقليد فضلاً عن جمهرة كبيرة من فضلاء أهل العلم و الدين و خطباء المنابر البارعين مما جعل المجتمع عموماً مجتمعاً متديناً محافظاً هذا و إن لم تكن هناك فضائيات و وسائل إعلام متنوعة و كمبيوتر سوى الكتاب و المنبر على الأكثر، لكن كانت الحالة الثقافية و الظواهر الاجتماعية يغلب عليها المحافظة و التمسك بالقيم و الأخلاق و المحافظة على ثقافة الشعائر الدينية و أن لم يكن هناك وعي ديني سياسي و رشد اجتماعي.

   b جيل الصحوة:

        ومع انتصار الحركة و الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الراحل السيد روح الله الخميني رضوان الله عليه تأثر المجتمع تأثراً كبيراً وتفاعل مع هذا الحدث الإسلامي الكبير و سادت موجة عارمة من الوعي الديني و الحماس للعمل الإسلامي و الخدمة الاجتماعية التطوعية، وكان مؤشر الحالة الدينية في تزايد مستمر بالرغم من كل الضغوطات و الظروف الأمنية الصعبة و انتشار حالة من الخوف و القلق و الرعب في الوسط الاجتماعي، ولكن بالرغم من كل شيء كان الوعي و الحماس الديني بمثابة مناعة ذاتية للفرد و المجتمع من التميع و الإغراء و الانحراف الخلقي و الذوبان في التيارات المنحرفة أيدلوجياً و أخلاقياً، وكانت هناك حركة اجتماعية تقاوم الفساد الأخلاقي وتعمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و نشر الوعي و الثقافة الإسلامية تقودها الطليعة المؤمنة من أبناء جيل الصحوة الإسلامية التي كانت تحمل الوعي و البصيرة و تملك إرادة الإصلاح و التغيير.

   b جيل الحب و الفضائيات و الإنترنت:

        بعد جيل الصحوة و الحماس الثوري و التوجه الروحي و الالتزام جاء جيل تسوده الميوعة و التحلل و التأثر بالثقافة و الإعلام الغربي الموجه لغسيل الأدمغة للجيل الناشئ، يقول أحد الخطباء: إن السيد محسن الحكيم (ره ) الذي توفي بتاريخ 27 ربيع الأول 1390هـ أي قبل 35سنة من هذا التاريخ أن السيد محسن الحكيم كان المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في وقته حتى عُرف بهذا اللقب، و أنه كان معجباً بحجاب الفتاة القطيفية و كان يرتاح كثيراً لعفة و حشمة المرأة القطيفية وحجابها الزينبي، و لكن ولله الحمد إن السيد رحمه الله لم يدرك حالة الحجاب وموضات العباءة في القطيف هذه الأيام وإلاَّ تغيرت نظرته 180 درجة للفتاة و المرأة في القطيف، وصدق المتنبي حين قال:

      نعيبُ زماننا و العيب فينا       وما لزماننا عيب ٌ سوانا

     وهكذا ظهرت موجة التنافس الشريف على الموضات و قصات الشعر كقصة جيش المر نز الأمريكي وقصة الأسد و والكوبرا و التيس و لربما الثور والحمار من يدري ؟! ويأتيك بالأنباء من لم تزوّدِ ..... وإن عشت أراك الدهرُ عجباً، وجاءتنا المسلسلات المكسيكية المدبلجة وغيرها و صارت مرتعاً خصباً للتقليد و المحاكاة و التبعية في ارتداء ملابس الممثلات و..... و.....و حتى وصل الأمر إلى درجة أن فتيات المدارس يسخرن و يعبن على من لا تكون لها عشيـق ( بوي فرند ) على غرار العشيق في تلك المسلسلات المدبلجة، ولعل من نافلة القول بأن بيع وتوزيع و إهداء صورالممثلين و الممثلات تُعتبر من الأمور الروتينية و العادية جداً، وهكذا انتشرت – للأسف الشديد- حالة من الفوضى في العلاقات غير المشروعة بين الجنسين بل والجنس المماثل أيضاً وحالات الشذوذ الجنسي كل ذلك باسم مواكبة العصر و التطور الحضاري وباسم الحب و الانفتاح و الانبطاح و الانشكاح...و....و.....و الخ.

       وهكذا بدأ الجيل الجديد من المراهقين و المراهقات بالسير التنازلي في مسألة الالتزام و التدين ومن سيئ إلى أسوأ إلاَّ ما رحم ربي، أضف إلى ذلك دور الحركة الصهيونية و الماسونية العالمية في تنفيذ المخططات الشيطانية للإجهاز على أمل المستقبل وهو الجيل الناشئ، ناهيك عن شيوع الفراغ الروحي و الخواء الفكري، و لسنا بحاجة في هذا المقام إلى الخوض و الحديث في نظرية (المؤامرة ) و توجيه أصابع الاتهام إلى الاستعمار، ويكفي أن تعلم في نهاية المطاف أن بعض مواقع الإنترنت مثلاً قد أصبحت عند البعض مرتعاً خصباً للرذيلة و الفساد و عند التيار المتدين المحسوب على الإسلام مجالاً خصباً لتبادل المهاترات و السب و الشتم بين السنة السلفيين والمتعصبين ويأتي الرد من قبل الأخ الشيعي أو بالأحرى المحب لأهل البيت وكأنه نسي أو تناسى قول أمير المؤمنين الإمام علي حيث يوصي الأجيال دائماً و أبداً بقوله: ( إني أكره لكم أن تكونوا سبابين....)

    لكن لا يعني ذلك أن ننظر إلى أبناء الجيل الجديد بعين سوداوية و نظارة سوداء، بل طرح المشكلة و إثارة القضية من أجل التوصل إلى حلول ناجعة لمعالجة مشاكل الإنسانية المعذبة ولكي يتخذ أصحاب الوعي و الضمائر الحية الموقف المناسب و المرن ويكونوا على درجة من الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع و التاريخ فـ (كلكم راعٍ وكل مسؤول عن رعيته ) ونختم حديثنا بمناجاة أمير المؤمنين و الأئمة الطاهرين أزكى لنفوسنا و أطيب لقلوبنا بعد أن أضناهُ مشاهد الفسق و الحديث عنه.

( إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا مُعلَّقةً بعز قدسك إلهي وجعلني ممن ناديتهُ فأجابك ولاحظتهُ فصعق لجلالك فناجيته سراً وعمل لك جهراًً إلهي لم أسلط على حسن ظني قنوط الأياس ولا أنقطع رجائي من جميل كرمك إلهي إن كانت الخطايا قد أسقطتني لديك فاصفح عني بحسن توكلي عليك إلهي إن حطتني الذنوب من مكارم لطفك فقد نبهني اليقين إلى كرم عطفك ..... )