رجب الأصب إستراحة إيمانية

 

قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ابراهيم:5

بعد مشوار طويل مزدحم بالنشاط الإجتماعي والفكري، لابد للإنسان أن يستريح قليلاً ليُهيِّأَ قلبه من جديد عبر التزوّد من بحر الإيمان..  فمسيرة الإنسان لا تكون متوازنة سواء في حياته الإجتماعية أو الفكرية، إلا إذا كان مستقراً من الجهة النفسية، وطول المسيرة يضفي على الإنسان الكثير من المشاكل النفسية، وما لا يحصى من الجهد والعناء، من شأنها تلويث مسيرته أو إضعافها فيما لو استمر، ولهذا لابد من التخلص منها وتزويد القلب بزخم جديد، كيما تكون حركته أسلم وأقوى، ولا يقوم بهذه المهمة إلا الطاقة الإيمانية، فإنها تقوم بمهمتين أساسيتين، الأولى: تطهير القلب من الشوائب العالقة بسبب الغفلة والأخطاء، والثانية: تزويده بشحنات هائلة تضاعف من قوته وتماسكه، وهذا ما أشارت إليه الآيات من قوله تعالى:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرعد:28

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الأعراف:96

فالإيمان يجعل القلب مطمئناً تملؤه السكينة والهدوء بسبب ما يقوم به من رفع للشوائب التي تعكر صفوه، ويزوده بالطاقة المنتجة التي تجعله قادراً على كسب البركة الإلهية المتاحة من السماء والأرض.

ولهذا لابد له من وقفة يستريح فيها لترويض قلبه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمؤمن وقفات أساسية للإستراحة الإيمانية، من بينها شهر رجب الأصب، الذي ماسمي كذلك إلا للرحمة العظيمة التي تُصَب فيه، فقد ورد عن الرسول المصطفى محمد أنه قال:(رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار، فإنه غفور رحيم، ويسمى الرجب الأصب لأن الرحمة على أمتي تُصب صبّاً فيه، فأكثروا من قول: أستغفر الله وأسأله التوبة)[1].

إن شهر رجب شهر عظيم تفيض فيه الرحمة الدنيوية والأخروية على العباد الصالحين، وبالتالي ينبغي لنا أن نفرِّغ أنفسنا لنيل أكبر قدر نستطيع من تلك الرحمة  العظيمة، عبر الإهتمام بالصيام والقيام والذكر والصدقة، فإن الثواب في ذلك أكبر من أن يُحصى، ومن يتغافل أو يتكاسل يفوته ثواب عظيم لا يستطيع الواصفون وصفه.

إنظر إلى هذه الرواية مثلاً، فقد روى الشيخ الصدوق عن محمد بن أحمد السناني قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن علي بن سالم عن أبيه  قال : دخلت على الصادق جعفر بن محمد في رجب وقد بقيت أيام فلما نظر إلى قال لي يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئا قلت لا والله يا بن رسول الله قال لي: لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه إلا الله عز وجل إن هذا الشهر قد فضله الله وعظم حرمته واوجب للصائمين فيه كرامته قال : قلت له يا بن رسول الله فان صمت مما بقى شيئا هل أنال فوزا ببعض ثواب الصائمين فيه ؟ فقال يا سالم : من صام يوما من آخر هذا الشهر كان ذلك أمانا له من شدة سكرات الموت وأمانا له من هول المطلع وعذاب القبر ومن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جواز على الصراط ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر أمن يوم الفزع الاكبر من أهواله وشدائده واعطى براءة من النار)[2].

فإذا كان هذا ثواب من فاته أكثر أيام هذا الشهر العظيم، ولم يدرك إلا أواخره، فما بالك بمن أدرك الشهر كله، ولهذا قال الإمام له:(لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه إلا الله جل وعلا ).

فعلينا أن نجد السير في سبيل الحصول على أكبر قدر ممكن من الثواب، ولا نتوانى في ذلك مهما كانت الظروف، ومن عاكسته الظروف فعليه أن يتبع بعض السبل المأثورة التي قد تكسب الإنسان شيئاً من ذلك الثواب العظيم، ففي مجلس لرسول الله  مع جمع من الأصحاب، تحدث عن بعض فضائل رجب، فسأله بعض بخصوص من لم يستطع تأدية شئ لعذر قائلاً:(يانبي الله فمن عجز عن صيام رجب لضعف أو لعلة كانت به أو امرة غير طاهرة يصنع ماذا ؟ لينال ما وصفت قال : يتصدق في كل يوم برغيف على المساكين والذي نفسي بيده إنه إذا تصدق بهذه الصدقة فينال ما وصفت واكثر ، انه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يقدروا قدر ثوابه من أهل السموات والأرضين ما بلغوا عشر ما يصيب في الجنان من الفضائل والدرجات، قيل يا رسول الله :فمن لم يقدر على هذه الصدقة يصنع ماذا ؟ لينال ما وصفت قال : فيسبح الله عز جل كل يوم من رجب إلى تمام ثلاثين يوما بهذا التسبيح مأة مرة :سبحان الاله الجليل سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان الأعز الأكرم سبحان من لبس العز وهو له أهل)[3]. 

إن رحمة كهذه لا يستهان بها بحال، ونحن بعد هذه الزحمة والمشاق التي مررنا بها طوال العام، من المفترض أن نختلس بعضاً من الزمن في هذا الشهر، ونخلو فيه لأنفسنا، لنستفيد من هذه الرحمة العظيمة، التي تكسبنا صفاء على مستوى القلب، وتزودنا بشحنات من الطاقة الإيمانية التي تعيننا على مواصلة الدرب بأسلوب متوازن وبدافعية كاملة..

ينبغي لنا بصفتنا مؤمنين أن نهتم بذلك كثيراً، فليس من المحتوم أن نشهده في عام آخر، عسى أن نكون ممن وصفتهم الروايات بالرجبيين، ففي الوسائل بإسناده إلى الشيخ الصدوق، قال:(حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي السمرقندي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود العياشي عن أبيه قال : حدثنا الحسين بن إشكيب عن محمد بن علي الكوفي عن أبي جميلة المفضل بن صالح عن أبي رمحة الحضرمي قال : سمعت جعفر بن محمد بن علي يقول : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش أين الرجبيون فيقوم اناس يضئ وجوههم لأهل الجمع على رؤسهم تيجان الملك مكللة بالدر والياقوت مع كل واحد منهم الف ملك عن يمينه والف ملك عن يساره يقولون هنيئا لك كرامة الله عز وجل يا عبد الله ، فيأتي النداء من عند الله جل جلاله : عبادي وأمائي وعزتي وجلالي لاكر من مثواكم ولا جزلن عطاكم ( عطاياكم ) ولاوتينكم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين أنكم تطوعتم بالصوم لي في شهر عظمت حرمته وأوجبة حقه ملائكتي أدخلوا عبادي وامائي الجنة ثم قال جعفر بن محمد عليه السلام : هذا لمن صام من رجب شيئا ولو يوما واحدا في (من) أوله أو وسطه أو آخره)[4]. 

[1] مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص188.
[2] فضائل الأشهر الثلاثة، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، ص18.
[3] نفس المصدر، ص30.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، ج7 ص355.