الجرأة الوقحة
( بعد ما يربو على نصف قرن، صدرت خلاله مؤلفاتي عن كبريات دور النشر الفرنسية، أجد نفسي مضطرا اليوم لأن أصدر هذا الكتاب على نفقتي الخاصة، ذلك لأنني منذ عام 1982 أقدمت على انتهاك حرمة أحد المقدسات: ألا وهو انتقاد السياسة الإسرائيلية، وهي الحرمة التي سيحميها من الآن فصاعدا قانون جيسو – فابيو الجائر الصادر في 13 يوليو/ تموز 1990 )
هذا النص لروجيه جارودي، الكاتب الفرنسي المسلم، يكشف عمق الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الغرب في ادعائه كفالة وضمان حرية التعبير من جهة، وكيله بمكيالين أو أكثر عند تطبيق هذا الإدعاء، فبإمكان كل أحد أن يتطاول على المقدسات الإسلامية بما فيها النبي والقرآن باسم حرية التعبير، أما حين يصل الأمر إلى إسرائيل وانتقاد سياساتها العنصرية، أو الدعوة إلى قراءة علمية موضوعية للوقائع التاريخية التي تروج لها الماكينة الإعلامية الإسرائيلية، فحينها تقع الواقعة التي تنتهي بذبح الحرية وصلبها تكفيرا عن الخطيئة الكبرى.
فمن يصدق أن يصدر في فرنسا قانون يجرم كل من أنكر وجود جريمة أو أكثر من الجرائم ضد الإنسانية، والمقصود بالجريمة أو الجرائم طبعا الهولوكوست وأشباهها مما يتعلق بإسرائيل. أما المسلمون فلا بواكي لهم، بل هم ( مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام) تماما كما عبرت سيدتنا الزهراء عن حالهم قبل البعثة النبوية الشريفة.
وجارودي ليس بدعا من المفكرين الغربيين الذين مورس بحقهم أبشع أنواع الاستبداد والإقصاء، لا لشيء إلا لأنهم حاولوا التعبير عن حريتهم غير آبهين بخوار العجل، فهذا دوجلاس ريد، الذي كان يعد واحدا من أبرز الصحفيين البريطانيين الذين غطوا الحرب العالمية الثانية، يتعرض لحملة قاسية ويختفي من الحياة الصحفية لأنه شكك في صحة أرقام المحرقة النازية، ولم يشكك في أصل المحرقة، ومثل ذلك حدث للمؤرخ البريطاني الكبير دافيد حملة قاسية ويختفي من الحياة الصحفية لأنه شكك في صحة أرقام المحرقة النازية، ولم يشكك في أصل المحرقة، ومثل ذلك حدث للمؤرخ البريطاني الكبير دافيد إيرفنج ولنفس السبب.
وهذا ما جعل بول فندلي يؤلف كتابه ( من يجرؤ على الكلام ) ، وجعل باسكال بونيفاس يؤلف ( من يجرؤ على نقد إسرائيل )، لقد قام الغرب بترسيم حدود الحرية فكانت إسرائيل تحدها من كل الجهات الأصلية والفرعية.
إن الحملة القذرة والدنيئة التي تعرضت لأقدس المقدسات الإسلامية المتمثلة في شخصية الرسول الأعظم في الصحف الدنماركية والنرويجية، والتي لا ينبغي التعامل معها كحوادث معزولة ومفصولة عن سياق أكبر يريد شطب المقدس وتغييب الغيب وإعادة صياغة العالم كله وفق الرؤية الصهيونية المسيحية الجديدة، أقول إن هذه الحملة ما كانت لتحدث لو أننا – كمسلمين – استوعبنا الدرس الإسرائيلي الذي يعلمنا أن القوي وحده هو الذي يستطيع أن يرسم حدود الحريات في الغرب والعالم، لقد استطاع اليهود من خلال العمل المؤسسي المنظم الذي يعتمد على رؤية بعيدة المدى أن يكونوا أقوى جماعات الضغط في الغرب، فبالرغم من أن اليهود لا يمثلون سوى 2% من سكان فرنسا فإن الصهيونية تسيطر على معظم صانعي القرار السياسي في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وفي الصحف اليومية والأسبوعية، وكذلك في السينما ( ولا سيما بعد غزو أفلام هوليوود )، وفي دور النشر ( حيث تستطيع هذه العناصر من خلال لجان القراءة فرض رأيها). هذا فضلا عن الإعلانات التي تمثل نوعا من الوصاية المالية على وسائل الإعلام .
هذا في فرنسا، والحال لا يختلف عن ذلك في بقية مناطق أوروبا، وهو أقوى منه في أمريكا بالطبع. إن أحدا لا يجرؤ على توجيه نقد لإسرائيل بسبب هذه القوة التي تمتلكها، أما الجاليات الإسلامية، فبالرغم من حجمها العددي الذي يتفوق على اليهود، فإن قوتها على الأرض لا يحسب لها حساب وتتعرض كما يقول باسكال بونيفاس للاستهداف بسهولة كبيرة وبدون محاسبة على صعيد النشر والحياة الفكرية، ويضرب لذلك مثالا بكتاب العاصفة والكبرياء الذي نشرته الصحفية أوريانا فلاتشي وبيع منه أكثر من مليون نسخة في إيطاليا، وترجم إلى اللغة الفرنسية وبيع منه 75 ألف نسخة، وكله عنف ضد الإسلام والمسلمين وضد مقدسات الإسلام، فالقرآن – بحسبها- لا يعلم إلا الكذب والعداوة والنفاق. لقد لقيت الكاتبة حفاوة بالغة في الغرب باعتبارها مارست حرية التعبير وكسرت الصمت ضد سياسة الإجماع كما يزعمون.
ترى ما الذي فعلناه في المقابل؟ هل يكفي رد الفعل السلبي المتمثل في مقاطعة البضائع لفترة محدودة ثم ننسى الحدث؟! أم أن الأمر أكبر من ذلك، ويحتاج إلى علاج حضاري يستطيع تقديم الإسلام النقي الصحيح للغرب على أنه البديل الأمثل والحل الأنجع لمشاكله، ويستثمر في نفس الوقت الطاقات والموارد المالية والبشرية الهائلة لدى العالم الإسلامي لصالح قضاياه تعريفا بها ودفاعا عنها.
سنتطرق لهذا العلاج الحضاري في حلقة قادمة إن شاء الله.