من دروس الجهاد في كربلاء
مهما غرفنا من غدير كربلاء فلن ينضب ذلك النبع الرقراق, ومهما تعلمنا في تلك المدرسة فلن نستغني عنها أبداً, بل سنظل ندرس فيها إلى الأبد, وذلك لأن سيد شباب أهل الجنة – عليه السلام – هو الأستاذ فيها ليعلم البشرية أسرار الكمال والحياة الأبدية. ومن أبرز العناوين في هذا المضمار عنوان الجهاد . والجهاد في كربلاء له أبعاد وآفاق وأعماق عديدة. ونحن هنا نريد أن نتحدث عن دور التحررعما سوى الله تعالى في استمرار الجهاد.
مسيرة الجهاد مشوبة بالمصاعب والعوائق, وذلك لتمحيص معدن الإنسان السائر في هذا الدرب, قال الله تعالى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 155]. وهنا من البشر من ينجح أمام العائق أو الامتحان الأول لكنه قد يفشل أمام العوائق والامتحانات اللاحقة . وهذا نظير ما وقع في قصة طالوت وجالوت . إذ بعد أن طلبوا هم من نبيهم ملكاً يقاتلون تحت ظله في سبيل الله تعالى, قام نبيهم بتحذيرهم من مغبة التخلف بعدئذ عن الجهاد, بيد أنهم أصروا على ذلك . وعندما تم تنصيب طالوت ملكاً حدثت أول انتكاسة فيهم, وذلك لأنهم يرون أنفسهم أولى بذلك المنصب لا سيما وأن طالوت لم يؤت سعة من المال, فأتى الجواب ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) , وأتى طالوت بآية ملكه وهو التابوت .
بعد ذلك أتى الامتحان الثاني وهو النهر, حيث حرّم الشرب من النهر إلا بمقدار غرفة واحدة. فشربوا منه إلا قليلاً منهم .
ثم أتى الابتلاء الثالث لتمحيص هذه القلة الباقية وهي مواجهة العدو , فقال بعضهم ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).
نعم , هكذا الامتحان تلو الامتحان, والابتلاء تلو الابتلاء , ليميز الله الخبيث من الطيب . إذ بعض المجاهدين قد يتراجع أو يتردد في المضي نحو الأمام إذا وقعت مصالحه المادية في خطر, وبعضهم يتجاوز هذا العائق ويتحرر من هذه الأغلال, بيد أن عدداً من الفائزين هنا قد يفشل إذا رأى أن الجهاد يوقع زوجته أونساءه في مشاكل أو عقبات مادية أو سياسية أو جسدية أو ما أشبه. وكلما اشتدت المحنة والمصائب والمصاعب قّل عدد الفائزون.
لو نظرنا إلى معسكر الإمام الحسين – عليه السلام – لأصبنا بحالة من الذهول والخشوع أمام صبر وثبات وعزم الإمام الحسين – عليه السلام – وأصحابه, إذ لم توقفهم المصالح المادية ولم تغرهم الدينا ولا المناصب ولا البساتين والقصور,كما لم يوقفهم الخوف على النساء من آلام الترمل. بل لم تخدش صلابتهم المصيبة العظمى وهي أسر النساء والتشهير بهن من مجلس إلى مجلس وضربهن بالسياط . كل ذلك يهون ما داموا على الحق وما دام بعين الله الناظرة . وكذا صراخ الأطفال في الخيام واستغاثاتهم من العطش, لم يثنِ الإمام الحسين – عليه السلام – قيد أنملة عن طريقه , ولم يهادن مقدار شعرة لتحصيل شربة من الماء له أو لأطفاله ونسائه, بل ولا ليقي الطفل الرضيع حرارة السهم في نحره.
صبر وثبات واستقامة وإصرار على المضي أرسخ من الجبال, فهم على يقين من الله تعالى وبصيرة. وكذا نرى نساء الحسين وأصحابه وهن يدفعن بأولادهن وأزواجهن وإخوتهن في معركة الحق ضد الباطل.
وفي المعسكر الآخر نرى من ترك الحق والجنة طلباً لولاية أو منصب , بل أعظم وأدهى, فالمنصب والولاية إنما هي للقادة في ذلك العسكر, أما عموم ذلك الجيش الجرار فقد عرّض نفسه للموت والهلاك وغضب الله تعالى وسخطه الأبدي من أجل دراهم ينفقها في أيام معدودة فقط.
ولا ننسى دور النساء هنا حيث أنجبت الدعي بن الدعي وأمثاله , أي أبناء الزنا, وكذا دور النساء التي خذّلت وجبّنت أبناءها وأزواجها ليتخلف عن مسلم بن عقيل والإمام الحسين – عليه السلام -.
وهكذا يتضح أن كلاً من الرجل والمرأة قد يكون وقوداً يدفع نفسه والآخرين في مسيرة التكامل الحقيقي, وقد يكون عائقاً وأغلالاً تكبل الآخرين وتقعدهم , قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ...) التغابن : 14 .