الأزمنة الثلاث
العراق مهد الحضارات ومهبط الانبياء وارض العلم والثقافة والفن والإباء.
يزداد اليوم تألقا بانه الارض الاكثر رحابة في اجتماع كل المتناقضات والمتغييرات واستيعابه لكل المحن والابتلاءات.
في الزمن البائد، استطاع ان يحيى مع كل انواع الكبت والقهر، الافواه مكممة والاصوات مذبوحة، والحرية مصادرة لشعب غادرته ثقافة الحوار وكان الرأي جريمة يعاقب عليها القانون، بل حتى الحلم كان يعاقب عليه القانون!!
وفي الزمن المعاصر، اصبح مهبط للحريات، ومعقلا للاراء، فالكل يبدي رأيه، والكل يتحدث بصوت عال وشجاع، وتألقت على ارضنا فنون الخطابة والفصاحة والفطاحة، وامسى الجميع رجال سياسة ورجال مرحلة ورجال مصير!!
في الزمن البائد، كان الخطاب السياسي واحد، والوسيلة الاعلامية ذاتها بنمطيتها الواحدة وطرحها الاحادي... اللحن الغنائي واحد واللحن الجنائزي ايضا واحد.
وفي الزمن المعاصر، امسى الخطاب السياسي على عدد سياسي الداخل والخارج، واخذت وسائل الاعلام العراقية تبارى في تعدادها (وليس تألقها) نجوم السماء، فقد يتسنى لنا حساب النجوم ولا يتسنى لنا حساب الفضائيات والصحف والاذاعات، فكل حزب لديه اذاعة وصحيفة وفضائية ناطقة باسمه، كما لكل رئيس حزب وسيلة اعلامية خاصة به، واذا انشق الحزب على نفسه فلكل شطر منشق وسائله الاعلامية، ولكل متمكن حائر في امواله اين يصرفها وسيلة اعلامية، ولكل سارق لدماء الشعب وثرواته وسيلة اعلامية يخمس بها امواله، وهلم جرا... وتحيا الحرية على ارضنا حاضنة المعجزات!!
القاسم المشترك الوحيد بين الزمن البائد والزمن المعاصر، هو الانسان العراقي!!
فهو ضحية الزمنين!!
هو المواطن الكادح الذي يبحث عن شبر ارض آمن، ولقمة عيش لصغاره... وامل بغد افضل.
هذا المواطن الذي كان يتلقى رسالة اعلامية واحدة لحزب واحد وفكر واحد، امسى الان يتلقى ما يشاء وما لا يشاء من الرسائل، ويشهد معارك ضارية ليس على واقعه المفخخ فحسب، بل على خشبة المسرح السياسي ايضا، ليتألق المواطن العراقي في نضج تجربته السياسية ووعيه للواقع المحيط به، فترى العراقيين برمتهم سياسيون وان لم يُنتخبوا، فلكل واحد فيهم تحاليله الخاصة، ورؤاه المنفردة بموروثه الفكري والثقافي والعقائدي، بحيث امست احاديثهم في المقاهي والبيوت والاماسي والمدارس وسيارات الاجرة والأسواق حلقة مصغرة لبرنامج الاتجاه المعاكس.
هذا ما حصده الانسان العراقي من تجربتي الدكتاتورية والديمقراطية.
فالدكتاتورية بلورت فيه الصبر والتأقلم لكل المحن والصعاب، والديمقراطية انضجت فيه الوعي السياسي كما ايقظت فيه كل اجراس الخطر لما يمكن ان يأتي به المستقبل.
هذا كل ما حصده المواطن العراقي...
المواطن المسكين الذي تحدى العالم برمته في يوم 15/12/2005 لزمن ستحتفظ ذاكرة التاريخ بعنفوانه الى الابد، لينكفأ على نفسه ينتظر ماذا بعد تحديه؟!
العالم كان ينتظر صنع العراقي، ورجال المرحلة وساستها ايضا ارادوا من مواطنهم ان يتحدى، وقد تحدى العراقي وادلى بصوته المقهور، فاين هو العالم واين هم رجال المرحلة وساستها؟
صوت العراقي امانة في اعناق رجال المرحلة وساستها، تلك الامانة التي كلفته الكثير من الدماء والارواح والاحلام واستنزفت منه العمر والامل، فهل هناك من لا يخون الامانة؟!
في الزمن البائد وفي هذا الزمن، المغيب الوحيد هو الهم العراقي النازف جرحه منذ سنين.
هم المرأة العراقية المغيب صوتها وحريتها وكرامتها وحقها في الحياة الكريمة.
هم الطفل العراقي المصادرة كل حقوقه وامانيه، ومحروم من ابسط ما يتمتع به اطفال العالم...
هم حق الانسان في الحياة الآمنة الحرة الكريمة...
فهل سيأتي زمن ثالث يمكن ان نكتب عنه بشيء من البهجة والامل؟
هل سيأتي زمن الحريات حقا؟!