جسور لا تعبرها وحدك
حين ترغمك الحياة على السير الطويل لمسافات بعيدة ، عليك أن تجتازها كحكم أزلي لتبقى مواصلاً زحفك فيها، وتجد نفسك حينها مضطراً لأن تعبر جسور معلقة كثيرة ، ربما طويلة ومعقدة لتصل، قد تبدو خطواتك فيها ثقيلة مترددة وحائرة أو تكون إيقاعاتك خلالها خائفة مترنحة أو سريعة ، وربما صعبة أو سهلة كلاً حسب منهاجه وتعامله مع الأمور وقدرته على احتمالها ، وقد تحتاج لتجربة ما لتُدرك حجم ما تؤمن به فعلياً من قدرة تمتلكها بدون أن تتكل على وجود أحد ما بقربك لتمر بسلام ، لكن ما سيُلطف أجواء هذه الرحلة عليك هو تواجد شخص ما برفقتك ، شخص تقدره وتعطيه من مساحتك الداخلية الكثير ليمتلكها كما يمكنه أن يفعل معك .
كبشر خُلقنا هنا في هذه الأرض لنعيشها بكل تفصيلاتها ونعبر تدرجاتها الكثيفة المتشعبة والغريبة، لكن ذلك بالطبع لن يكون بمفردنا وإلا لشقي كلاً منا بما يمكنه أن يصنع بحياته .
وإذاً .. يبدو من الطبيعي أن نحتاج لأن نتحدث مع أحدهم وأن نُعبِّر له عمِّا بداخلنا وبأن تحملنا تعبيراتنا هذه للخلاص من بعض الأثقال التي تجمعها يومياتنا فنتكئ على بعض الكلمات والمشاعر الصافية لنواصل مسيرتنا خلالها ... نحاول بها أن نرسم وجه الظل وسط هزائم كثيرة تحيق بنا أو نزرع الفرح في ميادينها المختلفة فنضفي عليها شيئاً من الراحة والألفة .
وقد نبحث في رحلتنا هذه عن أشياء وأشخاص نستمد منهم ما يحرك الحياة بأنفسنا ويقطع صمت الأمل بداخلنا فتتحرك المراكب بأشرعتها ميممة وجهها وسط البحر الواسع باحثة عن وِجهة تعرفها هناك .
نفكر معهم ونحلم ونطور ونبدع ونترجم هذا كله في حجم ما يمكننا أن ننتجه من أمور نفتخر بها ، وقد نتراجع عن أفكار ومواقف كنا نحتفظ بها مسبقاً وكانت تُعيبنا ... نستشيرهم ونسترشد بهم ، نتعلم منهم ولا نبخل بمعرفتنا عليهم أو نخشى من قلبهم الحقائق علينا أومن تعريتنا أمام الآخرين .
فمهما كنت قوياً وناجحاً ومحظوظاً، ومهما كنت جبلاً صامداً لا تهزك الأمور ولا تنال منك تفصيلاتها ، أو أنك كنت قادراًُ على قراءة المعاني وسط ضباب الصمت فلا بد من أنك ستحتاج يوماً لإنسان ما تتحدث معه ، إنسان صادق ومخلص لا يهمه أن يعرفك لأنك قوي أو عظيم أو قادر على القيام بأشباه المعجزات ... إنسان يعرفك تماماً ويدرك حجمك كإنسان أولاً قبل أن تكون شيء يعرفه الآخرون ... إنسان يتحسس مواضع جرحك ويتلمس مواطن طيبتك ويفهمك بدون أن تُقيد علاقته بك مصلحة ما أو تُسيجُه الاتهامات نحوك وتُعيق تواصله بك ... إنسان يتقبل ضعفك وهزيمتك ويداويها ولا يلوم عجزك أو يوبخك عليه ... يسعده أن تكون بخير دوماً وتفرحه انتصاراتك وفوزك وكأنه هو من صنعها لا أنت ... إنسان يعبر معك الطريق ويجتاز معك كل عقباته وعراقيله الكثيرة بكل الحب والمودة والصفاء ... إنسان لا يمكنك أن تخشى من غدره بك يوماً ولا أن تخجل من كونه مطلع على دخيلتك أو تتحرج من الحديث معه ... إنسان له ما لك عنده تماماً بدون أنانية أو تصدر أهمية خاصة أو خدش للمشاعر النبيلة أوتجاهلها ... إنسان لا تصدمك به قيود تُضيِّق أفق الحياة عليكما فتقتل الطموح وتُميت تدفق العطاء ونبضه بداخلكما .
هذا الإنسان ربما لم يتواجد بعد في مساحات حياتنا وما زلنا ننتظره لنعبر بقية الجسور معه كي لا نشعر ببعد المسافة ولا طولها معه ، و لعله وجد معنا في الكثير من المواقف التي عشناها ، ولمسناه يناضل فيها ليشاركنا أحاسيسنا وأفكارنا ويتفاعل مع أمورنا ويهتم لأجلها بصدق، وربما بقي معنا مدة طويلة يطوف حول عالمنا ويقتات من أحداثها دون تبرم منها أو ضجر وملل نحسه منه فيجعلنا ننسحب من حياته ، ولعله بقي منتظراً منا أن نلتفت له وأن نقبل عليه لنشاركه فيها ونشرع له أبوابها برحابة ليدخل، لكننا للأسف لم ننتبه لتواجده حولنا فتركنا ورحل مخلفاً فراغاً لا أحد سيشغله غيره ، أو أنه ما يزال باقياً على أمل ينتظر أن نفتح له قلوبنا وأن نكتب معه مستقبلاً تشغله أفكارنا مجتمعة .
فهناك دوماً أمور وقضايا لا تحل بصفة فردية، كما أن هناك أحزان وأفراح لا تشبعها وحدك ولا يمكنك اختزالها أو طيها ولا كتمانها ولا حتى التعبير عنها بمفردك وإنما تحتاج لشخص ما يدعمك فيها ويشاركك تفصيلاتها ويعبرها معك .
إنسان كهذا يجب أن نبحث عنه بكل جدية لنتكئ على وجوده بقربنا ونواصل معه مسيرتنا لنعبرها ، متجاوزين عقبات الحياة وترهاتها محولين الصحراء إلى جنة خضراء بخطواتنا معاً ، وإن حالفنا الحظ ووجدناه علينا أن لا نفرط به مطلقاً ، فهو تماماً أشبه ما يكون بجسر ذهبي مُعلق في الهواء وجد لنعبر به أمور مهمة ومراحل لا يمكن تجاوزها بدونه ولن يصبح عبورها أمراً ممكنا بغيره .