إثبات الهلال فلكياً .. بين القبول و الرد !! - آية الله المحقق الشيخ محمد سند دام ظله
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه محاضرة لآية الله المحقق الشيخ محمد سند دام ظله ، أليقت في بداية شوال 1426 هـ ..
إثبات الهلال فلكياً .. بين القبول و الرد !!
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على أفضل الأنبياء و المرسلين محمد و آل بيته الطيبين الأطهرين الأنجبين و اللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ..
- مدخل :
كثر الكلام في اعتبار القول الفلكي في الهلال ، و أن علماء الفلك و الأرصاد يتمتعون الآن بأجهزة متطورة رصدية مسلحة علمياً ، و هذا مما يسعف في قوة التقنية و قوة إصابة النتائج في التقويم ، كما أنه مما يعزز موقف الفلكيين - في الآونة الأخيرة - استنادهم إلى المحاسبات الكمبيوترية ، و البرامج المتقنة ، الرياضية ، فتقل بذلك نتائج الخطأ و تزداد نسبة الصواب ، مما يورث اطمئناناً و يقيناً ، تجاه ما يدلون به من تنبؤات تقومية حول رؤية الهلال .
إلى أن تصاعد هذا القول إلى القول باعتبار الفلكي حجةً شرعيةً يُعتمد عليها في تثبيت الهلال ، و لأجل تبيين حقيقة الحال في هذه المقولة ، و التي ربما تروج كثيراً ، لابد من تبيين جملة من النقاط :
- النقطة الأولى : أنماط العمل الفلكي الحديث:
العمل الفلكي الحديث ، و الرصد النجومي الحديث ، على نمطين :
1- النمط الأول : نمط الإدلاء بالوضع الحالي ، للكواكب و السيارات الفضائية ، عبر الأجهزة البصرية و الآلات كالتلسكوب و المنظار الحديث ، و هذه توضح شهادةً حسيةً و واقعاً موجوداً في أكثر جوانبها ، لا من كل جوانبها ؛ لأن تداعيات الوضع الحسي المشاهد - إذا أردنا أن نقرر له درجات - ، تقرير الدرجات للوضع الحسي الفضائي ، لا يعد حساً ، بل يعد حساباتٍ حدسية ، و لو شهد الهلال بالتلسكوب مثلاً ، و شهد انعكاس النور ، فانعكاس النور و إن كان حسياً و يُشاهد ، و لكن تداعي هذا المشهد الحسي ، بتوسط الآلة الحسية ، و تراميه إلى القول بانعكاس نور القمر ، بحيث يرى بالعين المجردة ، هذا التداعي و الترامي من هذا الموقف إلى ذاك ليس حسياً ، إنما هو حدسي . هذا النمط الأول : إذا كان رصداً للوضع الحالي الحسي .
2- النمط الثاني : نمط آخر من نتائج وآراء الفلكيين ، لا تمت إلى الحس بصلة ، و إنما هي حدسيات و حسابات علمية ، تعتمد على معادلات و معطيات ، تلك المعطيات تُدرج ضمن معادلات حسابية و رياضية ، تستخرج منها النتائج المستقبلية ، و هذه النتائج تتنبأ بوقت حصول الخسوف أو الكسوف - مثلاً - ، أو وقت وقوع الرؤية البصرية - بالعين المجردة - للهلال ، أو متى تقع جملة الحالات الفضائية كمجيء شهب أو مذنب و ما شابه ذلك .
هذه النبوءات المستقبلية ، ليست حسية ، بل تخضع لمحاسبات حدسية علمية ، وفق معطيات معينة ، ووفق معادلات معينة ، ووفق قواعد فلكية معينة ، تستنتج تلك النتائج . و من الخطأ حسبان هذا النمط الثاني من النمط الحسي ، الذي يؤثر فيه المجهر أو التلسكوب أو المنظار أو الأقمار الصناعية أو الأجهزة الحديثة . فهذا النمط الثاني لا صلة له بالأجهزة إلا بلحاظ المعطيات الحالية أو السابقة و استدعائها بتوسط القواعد العلمية لنتائج مستقبلية ، أما في محاسبة النتيجة و النتائج المستقبلية ، العمدة هو إعمال القواعد الفلكية و المعادلات الحسابية كي تستنج النبوءة المستقبلية .
هذه النتائج من النمط الثاني ، ليست نتائج حسية لا تقبل الخطأ ، بل هي نتائج حدسية قد تقبل الكثير من الخطأ ، شأنها كشأن جملة من الاستنتاجات الرياضية ، فإن المعادلات الرياضية ، و إن كانت في نفسها برهانيةً ، إلا إعمال تلك المعادلات و القواعد وفق المعطيات ، قد ينتابه الخطأ في الحساب و في الاستنتاج ، فضلاً عن كون نفس المعادلة ليست معادلةً مبرهنةً ، إنما هي فرضية و نظرية ، لم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية ، و تُستخدم .
أمثلة على بطلان العمل الحدسي الفلكي :
المثال الأول :
تُحدثنا التجربة عن وقوع سلسلة من الأخطاء النجومية المشهودة ، نتيجة الخطأ في الحسابات ، أو نتيجة خطأ نفس المعادلة الحسابية التي يعمل بها للوصول إلى النتيجة ، ففي سنة 1992م ، اتفق الفلكيون في رؤية الهلال - و كان هلال العيد - على امتناع رؤيته بالعين المجردة ، سواء في أمريكا أو غرينتش في بريطانيا ، أو في بقية الأرصاد الفلكية الأوروبية ، و كذلك الشرقية ، بما فيها الأرصاد الفلكية في إيران و دول الشرق الأوسط .
و قد أعلنوا حينها أن ذلك بسبب ابتعاد القمر عن الشمس بمقدار ست درجات فضائية ، أي تولد القمر أو ابتعاده و زحزحته من المحاق بمقدار اثني عشرة ساعة ، بمقدار ست درجات فضائية ، و هذا المقدار ، لا يسمح للقمر بأن ينعكس نوره بحيث يرى بالعين المجردة ، و فوجئ العالم بأن هناك إجماعاً حول الرؤية بشكل مشهور و كثرة كاثرة ، اشتهرت بين الناس سواء من المذهب الشيعي أو المذهب السني .
و كان هذا نوعاً من التحطيم للرقم القياسي أو المنبه القياسي ، لكون المعادلة التي يجريها الفلكيون لاستنتاج موقع رؤية الهلال ، تلك النظرية و القاعدة التي اعتمدوها ، هي فاشلة في ضبط كل حالات القمر في الشهور القمرية بشكل متقن .
من ثم استبدلوها بنظرية ثالثة ؛ لأن تلك النظرية التي كانت معتمدة إلى أوائل التسعينات ، كانت نظرية ثانية ، و كانت قبلها نظرية أولى هُجرت نتيجة ظهور أخطاء كثيرة فيها بعد قرون ، و كذلك هذه النظرية الثانية ، اعتمدت لعقود أو ربما لما يقرب من قرن ، فلما ظهرت هذه النتائج الخاطئة فيها ، حاولوا استبدالها بنظرية و بقاعدة ثالثة ، ضابطة و متقنة لحالات القمر .
المثال الثاني :
تكرر هذا المشهد بعد سنتين ، في سنة 1994م ، و تبين فشل القاعدة الثانية بشكل أوضح أيضاً ، و إن لم يكن هناك إجماع بين الفلكيين على امتناع الرؤية ، ولكن فيه كثرة كاثرة من مراكز الأرصاد الدولية أيضاً ، فقالوا بامتناع الرؤية ، و مع ذلك حصلت الرؤية .
فاستجد ما استجد في الوسط الأكاديمي الفلكي من استحداث نظرية و قاعدة ثالثة لضبط رؤية الهلال ، و أصدر فيمن أصدر أكاديمية الكويت الفلكية بقلم ثلاثة من الدكاترة في الفلك ، حول هذه الظاهرة و ما رافقها من استحداث نظرية ثالثة .
على ضوء ذلك أصدر ذلك الكتاب ، لتبيان أن هذه المعادلات و هذه القواعد الحسابية ، هي فرضيات و نظريات ليست بحقائق ، للوصول إلى الحقيقة المستقبلية و النتائج .
المثال الثالث :
رصد قبل سنتين خسوف للقمر في إيران ، قيل بأنه يبدأ جزئياً ، فكليًّا ، فجزئياً ، وقد رصدت مراكز الأرصاد و الفلك ، أن وقوعه الجزئي في الساعة الكذائية في الدقيقة الكذائية ، ثم الكلي في الساعة الكذائية مبدئه و الدقيقة الكذائية ، ثم ينتهي في الدقيقة المعينة . إلا أن الذي وقع و فاجأ الأرصاد الفلكية العالمية ، هو أن الخسوف الكلي الذي وقع بعد الجزئي ، ابتدأ قبل أربع دقائق و انتهى أيضاً قبل بدقائق من الموعد الذي قرره المتنبئون به .
و ليس ذلك إلا لأجل أن تلك الحسابات ليست حسابات حسية ، و إنما هي حسابات استنتاجية يعرضها الخطأ ، و ذلك بسبب :
1- عدم ضبط المعطيات الراهنة بشكل جيد .
2- أو عدم ضبط نفس القواعد التي تعمل للاستنتاج .
3- أو أن خللاً ما ، حصل في زاوية تطبيق تلك المعادلات على المعطيات للاستنتاج ، شأنه كشأن كثير من المعادلات الرياضية التي قد يتصور الباحث الرياضي أن النتيجة فيها صائبة ، ثم تظهر له خاطئةً ، غير مطابقة للواقع .
كما هو الحال عند إنسان في طائرة ، يعلن الربان أنها ستصل بعد ست ساعات - مثلاً - إلى غايتها ، إلا أنه عند مقاربة نهاية الرحلة ، يرى أن استغراق الرحلة إما أقل من ذلك أو أكثر ، مع أن محاسبة الربان هي محاسبة رياضية ، وفق جدول كمبيوتري ، ولا تأتي - مع ذلك - النتائج منضبطةً تطابق الواقع ؛ و السبب في ذلك : سرعة الطائرة ، و العوامل التي تؤثر فيها من مطبات هوائية أو هبوطات أو تغير مسار ، كل تلك عوامل مؤثرة في النتيجة ، و هي أمور لم تكن في حسبان الربان ، مع أنه يعتمد أيضاً القضايا الفلكية ، و الحسابات الرياضية ، من ضرب السرعة في الزمن للحصول على المسافة ، أو من قسمة المسافة على السرعة للحصول على الزمن ..
و نحوه .
أمثلة على خطأ الحسابات الفلكية :
المثال الأول :
أن نقسم المسافة الفضائية على القمر على السرعة الفضائية للقمر ، فنعلم زمن ظهوره هلالاً أو محاقاً ، أو غير ذلك . لكن نتيجة الخطأ في المعطيات أو في تطبيق المعادلات أو في زاوية الاستنتاج ، تظهر نتائج خاطئة ، لا سيما و أن لدينا نقطةً أخرى ، لابد من الالتفات لها ، و هي أن القمر ذو مدار مترقص - كما سنأتي في بيان هذه النقطة في بيان مستقل - .
المثال الثاني :
إن الذي يزاول تتبع مواقع الانترنت للأرصاد الفلكية ، يشاهد أن جداولهم تصحح كل شهر ، فيصدرون تقويماً حول الشمس - مثلاً - أو حول القمر أو حول السيارات الفضائية ، إلى آخر السنة ، لكنهم يجددون تصحيح المعلومات و الفرضيات كل شهر ، و يجرون التغيير على ما تم إقراره للشهور المستقبلية في الجدول المبثوث لديهم في تلك المواقع من الانترنت ، و السبب في ذلك ؛ أنهم عندما استنتجوا الأوضاع الفلكية ، بلحاظ السنة المستقبلية ، وجدوا معطيات لم تكن في حسبانهم ، مستجدةً في كل شهر ، و دخيلةً في الاستنتاج مؤثرةً عليه ، فيصححون الاستنتاجات التي كانوا قد استنتجوها من قبل . و هذا أمر بديهي بيِّن ، لكل من زاول دخول تلك المواقع ، و كانت له دراية و ممارسة في رصد جداول التقويم للأوضاع الفلكية التي يذكرونها ، و هذا دليل واضح بيِّن ، على أن تلك النتائج ليست برهانية أو حسية ،
لا تقبل الخطأ ، و هي نقطة لابد أن نلتفت إليها .
- النقطة الثانية : وقوع الخطأ في الحدس :
كما ثبت في العلوم المعرفية ، فالحس يحتمل فيه الخطأ بشكل كبير ، و من ثم ذُكر ما يقارب الأربع مائة مورد يخطئ فيه الحس .
أمثلة على الخطأ في الحدس :
المثال الأول :
كمن كان لديه شعلة من نار ، و يجول بتلك الشعلة على نحوٍ دائريٍ ، فيرى الإنسان من بعيد أنها حلقة نارية ، مع أنها في الواقع ليست كذلك ، و إنما هي نقطة ، و كرة نارية ، تدور و تشكل مثال الحلقة .
المثال الثاني :
ربما يرى الإنسان طرفي الشارع ، إذا امتدا بعيداً في الأفق ، كأنهما قد التقيا في نقطة ، مع أن هذا من اشتباهات الحس ؛ لأن طرفي الشارع لا يلتقيان ، و لكن تداعي الصور بشكل معين ، يخيل للعين الباصرة أن طرفي العين قد التقيا .
المثال الثالث :
أحجام الأجسام عن بُعد صغيرة ، و عند القُرب تختلف ، مع أن هذا الحجم الذي تلقاه العين ليس هو الحجم الحقيقي .
و غير ذلك من أمور كثيرة جداً ، ذُكرت في علم البصريات من علم الفيزياء ، و هذه مؤثرة حتى في حركة الطائرات ، حركة السيارات ، حركة المرور ، و في أمور ميكانيكية كثيرة تعنى بهذا الشأن . إنه الاشتباه البصري الذي يجب ألا يخدع الإنسان في المقاييس و النتائج . هذه نقطة لابد من الالتفات إليها : أن الحس حتى في النمط الأول يدب فيه الخطأ ، فكيف بالاستنتاج الحدسي .
- النقطة الثالثة : مدار القمر مترقص :
نقطة ثالثة نذكرها في البين ، و هي أن القمر طبيعة مداره مترقص ، أي أن القمر لا يدور في دائرة قياسها 360 درجة حول الأرض ، بل يدور في دائرة بيضاوية ، ليست دائريةً دقيقة ، و تلك الدائرة البيضاوية يتراوح محيطها و مدارها بين 370 إلى390 درجة ، يعني أن 20 درجة القمر في حالة تذبذب في الضبط ، مضافاً إلى أن الدوائر الفضائية البيضاوية التي يرسمها القمر في حركته المدارية حول الأرض ، لا تكون ذات ميل واحد ، و تمايل واحد ، و في جانب واحد ، بل تأخذ جوانب عديدة ، هذه أمور مؤثرة موجوبة لزلزلة و اضطراب الاستنتاج في تكون الهلال و رؤيته ، و تحديد الموقع الفضائي الذي هو فيه .
لذا يُعبر عن القمر بأن مداره مترقص ، فترقصه و اضطرابه و تذبذبه ؛ بسبب و نتيجة أن هناك سيارات متعددة مؤثرة في جذب القمر ، الشمس و القمر و الكواكب الأخرى في المنظومة الشمسية ، كلها تتقاطع ، و تتنازع في جذب القمر ، فتكون لأجل ذلك حركته بهذا النحو ، لذا فإن ضبط حركته في الواقع يفاجئهم بمعطيات تقع لم تكن في حسبانهم ، مما يؤدي لخطأ في النتائج .
النقطة الرابعة : اختلاف الاصطلاحات في علم الفلك و الشرع :
يظن الكثير بأن اصطلاحات علم الفلك مع الاصطلاحات الواردة في الشرع هي واحد ، و الحال ليس كذلك ، فإن للفلكيين أنفسهم عدة اصطلاحات في تولد القمر ، و في اعتبار بداية و نهاية الشهر القمري ، فقد كان الفلكيون منذ القدم على انقسام ، وعلى قولين اثنين في بداية و نهاية الشهر القمري :
1- أوروبا و شرق آسيا يبنون و يلتزمون ، على كون نهاية الشهر الهلالي هو المحاق ، و المحاق كما أنه نقطة نهاية ، فهو كذلك نقطة بداية للشهر الجديد ما أن يتزحزح القمر من المحاق ، و هو الوضع الذي يكون فيه القمر و الشمس في خط واحد ، - لا أقول في خطٍ متوازٍ واحد فيسبب الخسوف و الكسوف ، بتوسط الأرض بين الشمس و القمر ، أو توسط القمر بين الشمس و الأرض - .
المحاق هو توسط القمر بين الشمس و الأرض ، هذه النظرية كانت ، و هي المعتمدة الآن ، عندما يقول الغربيون أن القمر تولد ، أي أنه وصل إلى نقطة المحاق ، وتحرك من بعدها إلى الدورة الجديدة ، فالشهر الهلالي لديهم يبدأ من النقطة الجديدة ، و هذا التولد يتعاطاه الكثير - مع الأسف - ، بمعنى تولد الشهر الهلالي ، و الحال أنه أمر آخر ، و في كثير من البلدان و الانظمة الإسلامية تتعطاه بمعنى تولد الشهر القمري ، و الحال أنه اصطلاح للشهر القمري ، المختلف عن الشهر الهلالي ، و هو المسمى بالشهر القمري الفلكي ، و ليس الشهر الهلالي .
2- و هناك قول آخر معتمد في الشرق الأوسط ، و اعتمدته الديانات السماوية ، أن الشهر القمري هو شهر هلالي ، أي أنه يبدأ من الهلال و ينتهي إلى الهلال . أما موقع القمر عند المحاق و بعد المحاق ، فإنه يختلف عن الموقع الهلالي ، و بين الموضعين و الموقعين مسافة فضائية .
- الفرق بين الشهر الهلالي و الشهر الفلكي :
موقع الشهر الفلكي و نهايته و بدايته ، هو نفس المحاق . بينما موقع الشهر الهلالي ، هو خروج القمر من المحاق ، و خروجه من الهالة الشعاعية ، التي تسمى تحت الشعاع ، المخروطية ، و التي تتجه من الشمس نحو الأرض ، فإذا خرج عن تلك الهالة يقال بأنه خرج من تحت الشعاع ، و تلك الهالة من نهاية الشهر القديم إلى بداية الشهر الجديد ، بمسافة 24 ساعة - تقريباً - ، أي : اثنتا عشرة درجة فضائية - تقريباً - ، و المحاق في وسط تلك الهالة . فخروج القمر من تحت الشعاع ، هذا تولد آخر ، عندما يتزحزح القمر و يتحرك من المقارنة ، و هو المحاق ، إلى نهاية الهالة الشمسية ، و هي الشعاع ، بين الشمس المحيط بالأرض ، يُقال خرج القمر من تحت الشعاع ، يعني تولد ، و هذا تولد آخر غير التولد الأول . هذا التولد الثاني ليس هو الشهر الهلالي ، و يخطئ الكثيرون بحمل التولد الفلكي الآخر على الشهر الهلالي المأخوذ في القرآن الكريم و في الشرائع السماوية ، و بين التولدين ، مسافة فضائية وهي ست درجات فضائية ، بين التولد الأول بالمحاق و التولد الثاني من تحت الشعاع ، ست درجات فضائية أي اثنتا عشرة ساعة .
ليس هذان موضعاً واحداً للقمر فنقول بأنه لا اختلاف بين هذين الفرضين ، فلنأخذ بالمحاق ! هذه هوية و معنى آخر للشهر ، يدعى ذلك بالشهر الفلكي ، و هذا بالشهر الفلكي بمعنىً آخر ، و الذي هو الخروج من تحت الشعاع .
الشهر الهلالي هو ابتعاد القمر بعد خروجه من تحت الشعاع ، ببضع درجات ، و تختلف الشهور في ذلك ، و لعوامل عديدة ، و حينئذٍ ينعكس على القمر من نور الشمس بمقدار يكفي لعكس نور يرى بالعين المجردة ، و هذا موضع ثالث فضائي للقمر في دورته .
لذا عند الكثير خطأ شائع ، فيحسب أن رؤية القمر بالعين المسلحة ، لا يختلف عن رؤية القمر بالعين المجردة ، و هذه غفلة علمية ، نتيجة عدم الإلمام العلمي ، و حسبان أن المهم في دورة القمر هو جرم القمر ، و هذا خطأ ، فالمهم في الشهر الهلالي ودورة القمر ، ليس جرم القمر ، إنما هو وصول القمر إلى موقع فضائي بعيد عن تحت الشعاع ، و بعيد عن الشمس ،كي يستطيع القمر أن يعكس ذلك النور بمنأىً عن هالة الشمس ، إلى الأرض ، هذا موقع فضائي ثالث ، و التقويم يدور مدار النقاط الفضائية ، فليس الحال من قبيل شيء موجود ، تارةً أراه بالعين المجردة ، و تارةً أراه بالعين المسلحة ، كي لا يختلف الحكم ، كي لا تختلف الحقيقة ، هذا في الواقع غفلة عن هذا الأمر ؛ لأن الرؤية بالعين المجردة تنم و تكشف عن موقع فضائي ثالث أبعد عن المحاق من تحت الشعاع ، و بعيد عن تحت الشعاع ، و لا يمكن أن نفترض بداية الدورة الشهرية للشهر الهلالي نقاط ثلاث فضائية متباعدة ، فلا معنى لذلك ؛ لأن هذا يسبب نقصاً في الدورة ، التي لابد أن تبدأ من نقطة و تعود إليها ، أما أن تبدأ من نقطة و لا تعود إليها ، فهذه ليست دورة كاملة للقمر و للشهر .
لهذا فالذي يقول : ما الفرق بين رصد القمر بالعين المسلحة دون المجردة أو التولد الفلكي ؟ هذا لم يلتفت إلى أن هناك اصطلاحات موضوعة ، و وضع اصطلاحات مختلفة عن بعضها البعض قد يؤدي إلى الخطأ في نفس قضية التقرير .
مثال على اختلاف الاصطلاحات في الفلك :
تُعتبر الآن - في العصر الحديث - بداية اليوم الشمسي ، من الخط المار بمنتصف المحيط الهادي ، الذي هو امتداد في الصفحة الأخرى من الأرض لخط غرينتش ، الذي هو خط الصفر ، و من هذا الخط تبدأ دورة اليوم الشمسي . قديماً كان الفلكيون يعتبرون بداية اليوم الشمسي من اليابان ، أو روسيا و أستراليا ، و الآن في الحديث يعتبرون بداية اليوم الشمسي من منتصف الخط المار بالمحيط الهادي ، و لا يمكن مع ذلك أن يُقال أن الفرق الشاسع في الموقع الأرضي الجغرافي بين المحيط الهادي و اليابان يسبب نقصان الدورة اليومية أو زيادتها !
إذاً هذه مصطلحات و مواضعات يجب أن تُفرز عن بعضها البعض ، و كذلك الحال في فرضيات الهلال ، فالغفلة عن مثل هذه الأمور قد يشوش على الكثير من الباحثين أو على من يخوض في قضايا الهلال ، كإثبات شرعي ، أو غير ذلك .
و مع الأسف ، فإن مثل هذه الأمور الفلكية خافية على من هم متخصصون في جوانب أخرى ، فالاصطلاحات ليست واحدة ، و المواضعات مختلفة ، و الفرق بين الرؤية بالعين المجردة و الرؤية بالعين المسلحة فرقٌ شاسع ، فإذا كان القمر لا يمكن أن يُرى إلا بالعين المسلحة ، فإن موقعه الفضائي يختلف عن موضعه في حال أمكنت رؤيته بكل من العين المسلحة و العين المجردة .
يُستعان أحياناً بالعين المسلحة لأجل إعداد الرؤية بالعين المجردة ، و هذا أمرٌ آخر، و هذا - في الواقع - نفس الموقع الفضائي الثالث الذي فيه العين المجردة .
أما أن تعمل العين المسلحة بمفردها و لا يمكن الرؤية بالعين المجردة ، فهذا موقع فضائي أسبق ، و ليس هو نهاية الشهر القديم و لا بداية الشهر الجديد ، على ذلك ورد قوله تعالى : ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ (سورة البقرة آية 189)، فوقت مبدأ الشهر الهلالي بالهلال ، لا بالخروج من تحت الشعاع و لا بالمقارنة ، و هذا أمر لا بد أن يوضع في الحسبان .
و قد وردت بعض روايات أهل البيت عليهم السلام المذكورة في الوسائل ، مبينةً عدم الاعتماد على قول الفلكيين (1) ، و غيرها متواترةً على أن الرؤية المجردة هي المدار (2) و ليست الرؤية الأخرى ؛ لأن الرؤية الحسية تمثل موقعاً فضائياً مختلفاًَ عن العين المجردة ، إذا كانت منفردة بالرؤية .
- النقطة الخامسة : العوامل المؤثرة في الرؤية :
هناك عوامل متعددة أخرى مؤثرة في الرؤية نذكر منها :
1- الغبار الموجود في الأفق .
2- انعكاس أنوار أخرى في الفضاء .
3- علو المدينة التي يستهل بها عن سطح البحر ، أو انخفاضها عن سطح البحر .
4- كون المدينة شمالية أو كونها جنوبية .
5- كون الموسم في الميل الشتوي للشمس أو في الميل الصيفي لها .
و غير ذلك من العوامل العديدة المسلمة في علم الفلك ، و كلها مؤثرات و معطيات تؤثر في حصول الرؤية و عدم حصولها . فمن المعلوم أن الرؤية بالعين المجردة لا تخضع لحسابات رياضية ، بل تخضع إلى معطيات خارجية تقع بنحو فجائي أو غير فجائي ، و يكون لها تمام التأثير في حصول الرؤية بالعين المجردة أو عدم حصولها .
- النقطة السادسة : انعكاسات الأنوار :
إحدى النقاط التي يذعن لها الفلكيون ، و تؤثر في رصد الهلال فلكياً بأن لا تؤتي نتائجه الصائبة ، هي أن انعكاسات الأنوار في الأفق من الكواكب و النجوم أو شعاع الشمس ، يسبب إرباك المخيلة ، لذا يحسب المستهل لرؤية الهلال بعض ذلك اللمعان شريط من الهلال ، و الحال ربما يكون انعكاس نور ، أو أنواراً فضائية أخرى أو حتى أنواراً أرضية ، تنعكس في نهاية الأفق المبصر لدى الرائي في بصره ، فيحسب ذلك من الهلال ، و قد حصلت التجربة في موارد عديدة من هذا القبيل في الخطأ .
- النقطة السابعة : الرؤية الحسية بالعين المجردة :
من ثم فاعتماد الرؤية الحسية بالعين المجردة ، اعتماد على الحس ، و إن كان الحس ليس يقينياً مطلقاً ، و فيه زوايا فيها أخطاء ؛ بسبب ما دل من الدليل « فمن شهد » أي رآه بعينه ، و لا يظن ظان أن « شهد الشهر » ، يعني رآه ، سواء كانت تلك الرؤية بالعين المجردة أو بالعين المسلحة ؛ لما مر بنا أن الموقع الفضائي للقمر بالعين المسلحة المنفردة ، يختلف عن الموقع الفضائي الذي يرى بالعين المجردة ، و ليس هما سيان ، و ليس الشهر هو القمر ، بل إن الشهر هو حساب زمني عارض للمسافة الفضائية ، و إن كان هناك موضعان لمسافة فضائية فليسا هما شيئاً واحداً ، و لا يصح أن نستبدل بذلك طريقاً بطريق آخر .
عجيب أمر بعض الذين لا يمحصون مباحث علم الفلك بشيء من الفصح و التنقيب ، فيحسبون أنه لا فرق بين العين المجردة و العين المسلحة ، و يحسبون أن الموضع الشرعي هو جرم القمر ، هو لا جرم القمر و لا حركة القمر و لا المسافة الفضائية للقمر أيضاً ، إنما هو الزمن المتولد من حركة القمر ، في المسافة الفضائية بسرعة معينة .
الشهر عبارة عن وحدة زمنية متولدة من حركة جرم في مسافة بسرعة معينة ، فالشهر هو الوحدة الزمنية و هذه الوحدة الزمنية يؤثر فيها الموضع الفضائي ؛ لأن المسافة تؤثر في الزمن ، فالغفلة عن ذلك ، هي الغفلة عن أبجديات بحث الفلك ، و لابد من الإلمام بها ، و لو على المستوى الثقافي لا أقل ، كي لا يقع الإنسان في الخطأ في مثل هذه الأبحاث و الفرضيات .
من العوامل المؤثرة في رصد القمر و حالاته و كونه هلالاً أو بدراً ، حركته – كما مر بنا – فمداره مترقص ، و حركته كذلك مترقصة ، شأنه كشأن بقية السيارات ، فالسيارات الفضائية عندما تصل إلى الأوج أو الحضيض في دائرتها ، تتباطأ إلى أن تنعدم سرعتها ثم تستجيب مرة أخرى ، عندما تصل إلى وسط الدورة ، لتكون أسرع ما تكون عليه ، هذا يعني أن السيارات الفضائية و الكواكب الفضائية ليست على وتيرةٍ واحدة في السرعة ، و هذا مما يسبب وجوب أن تحسب عجلة البُطء و عجلة السرعة ، و بالتالي لا تكون النتائج دقيقة كما هي عليه في المعطيات الخارجية المستقبلية ، و بالطبع ، لا يدعي الفلكيون أن ما يستنتجونه هو برهان رياضي أو حسي ، إنما هي نتائج حدسية تخمينية ، لا نحملهم نحن هذه المقولة ، بل هم يصرحون بأنفسهم ، بأن هذه النتائج تخمينية ، تخضع في الصواب و الخطأ إلى المعطيات الخارجية التي ستقع ، وربما لا تكون بالحسبان . و يكفيك النتائج و الأمثلة العديدة التي ذكرناها من الخطأ في الحسابات المستقبلية للفلكيين ، و إن كانت حساباتهم هذه مفيدة للملاحة ، مفيدة للزراعة ، مفيدة للحركة الالكترونية ، مفيدة لعالم التطور الحديث ، لا ريب في ذلك ، و لا يعني هذا فيما يعنيه أن الشرع قد اعتمد على هذه النسبة من الفائدة في علم الفلك ، بل أراد أن يبني موضوع المواقيت الزمنية في شهر رمضان و أشهر الحج ، و غير ذلك من الأشهر في المناسبات الدينية المهمة ، أراد أن يبنيه على اليقين .
و الحديث طويل يستدعي جلسات طويلة و عديدة ، لكننا أردنا أن نلقي أضواء مختصرة حول هذا المطلب .
- الأسئلة :
- مع كثرة الرائين لا يثبت الهلال !
السؤال :
مع وجود عدد كبير من الشهود للهلال في هذا العام 1426 هـ ، لم يثبت العلماء ذلك ، هل يوجد إشكال في عدالتهم مع أن بعضهم من طلبة العلوم الدينية ؟
الجواب :
في الحقيقة بالنسبة لهذا العام ، حيث حصلت لي المشاركة مع كبار المشايخ في مجلس الهلال ، ليس الأمر راجعاً - و العياذ بالله - إلى وثاقة و عدالة الشهود ، بقدر بما هو راجع إلى خلل من جهة أخرى .
إلا و هي : في المناطق التي حصل فيها الاستهلال في البلد ، بل حتى في المدينة المنورة و في مواضع أخرى ، رافق المستهلون الراؤون ، الذين حصلت لهم الرؤية ، المثبتون للهلال ، حصل أن رافقتهم جماعات أكثر عدداً كانوا معهم في الموقع و في نفس الزمن ، و لاحظوا نفس الموضع الذي لاحظوا به المثبتون ، و نفوا الرؤية ، و هذا يسجل خللاً في شرائط حجية الشهادة حينئذٍ ؛ لأن هناك تعارضاً بين بينة الإثبات و بينة النفي الخاص في مصطلح علم القضاء ؛ لأن النفي قد يكون مطلقاً ، لا يعارض الإثبات ، إذا كان النفي خاصاً ، يعني مستنداً إلى حالة خاصة ، إلى قرائن خاصة ، إلى أسباب حسية خاصة ، حينئذٍ يعارض هذا النفي الخاص - الإثبات .
إذا كانت بينات النفي أكثر من بينات الإثبات ، فمن ثم حصل الخلل في بينات الإثبات من هذه الجهة ، و هذا ما تشير إليه الروايات « عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : كم يجزي في رؤية الهلال ؟ فقال : إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد : قد رأيته ، ويقول الآخرون : لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذا رآه مائة رآه ألف ، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر . » (3)
المقصود في هذه الرواية بيان هذا المطلب ، و هو أنه تجب أن تكون الجمهرة الغالبة ممن يستهل ممن هم على مستوى واحد من النظر - النظر العادي عند أبناء البشر - و التمرس ، يجب أن يكون المثبتون للرؤية منهم ، هم الأكثر فيما إذا استهلوا معاً .
قد لا يستهل أحد ، و بذلك فالقليل كلهم يراه ، فتثبت على ضوء ذلك شهادة الرؤية ، لكن إذا ما استهل الكثير ، و نفاه جماعة مع جماعة الإثبات ، و ليست تلك الجماعة قليلة ، فحينئذٍ قد يخدش في حجية الإثبات .
- لا تنافي بين الفلك و الشهود !
السؤال :
هناك مجموعة من الشهود يشهدون كل شهر على رؤية الهلال ، و في بعض الأحيان تتنافى رؤيتهم مع القول الفلكي باستحالة رؤية الهلال ، فهل يجوز الاعتماد على هؤلاء الشهود ؟
الجواب :
في الواقع كثرة شهادة الشاهد و تنافيه مع قول الفلكي ، لا يخدش في رؤيته ، إذا كان متثبتاً من الضبط ، مضافاً إلى وثاقته و عدالته ، ولا يستوحي لنفسه خيالات ، كما ذكرنا في النقطة السادسة .
- أهل البيت عليهم السلام ينهون عن استخدام الفلك !
السؤال :
هل توجد روايات لأهل البيت عليهم السلام في الحث على عدم استخدام الفلك ؟
الجواب :
نعم ، ذكرت لكم في الوسائل بسند صحيح : « كتب إليه أبو عمر : أخبرني يا مولاي ، إنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان ولا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم ، ويقول قوم من الحساب قبلنا : إنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر ، وافريقية والاندلس ، هل يجوز - يا مولاي - ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف العرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا ، وفطرهم خلاف فطرنا ؟
فوقع : لا تصومن الشك ، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته . » (4)
أي أن الاعتماد على الرؤية الحسية ، لا على الاستنتاجات الحدسية .