المقدس في الزمن الديمقراطي؟!
كل الاديان والحضارات، تختزن في ادبياتها مفردات مقدسة.
تارة تكون مفردات زمانية، وتارة اخرى مكانية... ولو بحثنا في فلسفة قدسية الزمان والمكان، لوجدنا ان الانسان هو الذي يضفي هذه القدسية، ويخلدها في ذاكرة التاريخ.
ولا اظن ان هناك امة من الامم تملك مفردات مقدسة كالامة الاسلامية!! وتصل درجة القدسية عند المسلمين الى ارقى درجاتها وارفع شأنها، بحيث عندما تسقط كلمة (مقدس) على مسامع احدهم، يجمّد في حركته كل المفردات الاخرى احتراما لهذه المفردة وتقديسا لها.
اهم مفردة مقدسة في القاموس الاسلامي... الدم الانساني.
فاراقة قطرة دم واحدة من الانسان!! اي انسان، يهتز لها عرش الرحمن!!
والمفردة الثانية، كرامة الانسان وهيبته، لذلك جاء في الموروث ما معناه ان حرمة الانسان المسلم عند الله اكبر من حرمة بيت الله الكعبة المشرفة، ويمكن للسماء ان تغفر هتك حرمة الكعبة ولكنها لن تغفر هتك حرمة الانسان المسلم.
ولان الدين الاسلامي دين العدل والرحمة والتكامل، الدين الذي جاء لاجل الانسان، لاجل الارتقاء ليس بروحه فحسب وانما بكل ابعاد حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحضارية، جاء ليحقق للانسانية حلمها في الحياة الحرة الكريمة الفضلى، فهو يكرم كل من يسعى لتحقيق هذا الحلم، ويتوعد كل من يقف بوجه هذا الحلم عن تقصير او عجز او تفريط او اجرام.
ولان الزمن الذي نعيشه هذه الايام زمن مقدس، لان الانسان يمارس فيه عبادة روحية خالصة تقربه من السماء وتسمو بروحه، ساكتب عن القدسية بالمفهوم العراقي الديمقراطي!!
من هو المقدس؟
الشعب الذي مازال صديد الحديد يأن في معصمه لشدة وطأة القيد الذي كبله سني القهر العتيدة، هذا الشعب الذي مازال جرحه ينزف وهو يخطو متحديا الموت لينتخب ذات يوم اسماه الجميع (عرس الانتخاب)، ينتخب الديمقراطية والحرية بعد ان ركل عهد الظلم والاستبداد والقهر.
هذا الشعب الجبار العظيم، الذي يتحدى الموت في كل لحظة ليختار الحياة، هو اقدس مفردة في القاموس الديني والوطني والقومي والحضاري والفكري والعلمي والتاريخي وكل قواميس الالفاظ التي نطقت والتي لم تنطق...
المواطن، هو المقدس في ابجدية كل الدول والانظمة والتشريعيات.
فلولا المواطن لما جلس عضو البرلمان على مقعده البرلماني واصبحت له حصانة وحماية وراتب يتقاضاه لاجل خدمة المواطن وقضاء حوائجه.
البرلماني، مدين بكل ما يتمتع به الان للمواطن الذي انتخبه ليكون امينا على مصالح الناس وارواحهم واموالهم وامانيهم.
المقدس في وطني، مازال هو المسحوق، الفقير، المتعب، الذي يركض وراء لقمة العيش التي تكاد او لا تكاد ان تسد رمق عياله... يركض وراء فكرة يحاول من خلالها تغيير واقعه المتعب فتراه تارة يكتشف (العاكسة) وتارة يحول مولدته من البنزين الى قنينة الغاز، واحيانا يعمر فانوس جده القديم لينير به ليالي اولاده في الالفية الثالثة!!
مازال راتب المقدس في وطني، مفردة عصية على الفهم، عصية على الادراك خاصة في اروقة نقاشات البرلمان العراقي، في حين تمنح وزارة المالية لكل عضو من (275) عضوا سلفة مقدارها (20) مليون دينار عراقي مقدس!! اضافة الى رواتبهم المقدسة!!
ما ذا يعني هذا الرقم لايتام العراق؟! الذين لا ذنب لهم سوى ان ابائهم دفعوا ضريبة ترؤس هؤلاء على سدنة الحكم ولم يتمكن هؤلاء من تأمين ارواح ابائهم واستقرارهم في بيوتهم، كما عجزوا عن تقديم ولو كلمة مواساة لهم بعد عن عجزت ميزانية وزارة المالية عن تخصيص رواتب لهم او معونات مالية بين حين وآخر؟!!
ماذا يعني هذا الرقم بالنسبة لارامل العراق ونسائه اللواتي بلا معيل؟!
ماذا يعني هذا الرقم بالنسبة لكل مفردة محتضرة في قاموس المواطن العراقي المنتهكة حقوقه على مدار الساعة ومن مختلف الاتجاهات؟؟
مازال فهمي يعجز عن ادراك المقدس في زمن الديمقرطية والحرية، كما عجز عن ذلك في زمن الاستبداد والقهر.
كل الذي افهمه، ان هناك يوم سيهتز كيان الجميع فيه (المقدس وغير المقدس)، عندما يصرخ فيهم النداء الالهي: (وقفوهم انهم مسؤولون).