من وحي التفكر : محنة الوحدة تبحث عن روح الولاية

 

مدخل: ورد عن الإمام السجاد :"أحبونا حب الإسلام"، هذه الكلمة و أخواتها الواردة من مشكاة واحدة ، تلك المشكاة التي نعبر عنها بتعبير القرآن العظيم و النبي الأعظم ، أهل البيت ...

جاءت كلها لتتركز في عقولنا و تتراص في وجداننا كقوة عقيدية تهذب إرادة الولاية الإسلامية فينا، و عمقا هي خطاب مزدوج فيه نصح وإرشاد، نصح لمن تنكر للتشيع و إرشاد لمن تشيع ثم تعصب، وحتى لا نهلك كما حصل في التاريخ الديني لعلاقات الناس بالقدوات...

لقد وردت هذه الكلمة الإسلامية العظيمة لتأصيل عنوان الولاية في داخلنا و في حياتنا كلها، و لترفع اللبس و تصد الغلو و ترتفع بعنوان "الولاية" كأساس في مسؤولية الإنسان المسلم، في الحياة لتجعلها وعيا رساليا متكاملا يشمل  كل مفردات الحياة الإنسانية.

و لا شك أن ذكريات أهل البيت عليهم السلام، تشكل ثروة عرفانية علمية –إسلامية بأتم معنى الكلمة- بالغة  الأهمية ، لما تتركه من أثر إيجابي و قوة إيمانية عميقة، وهذه الحقيقة رغم سطوعها كالشمس إلا أنها قد تستشكل لدى المرء الناقص ثقافة إسلامية أو المقهور ثقافيا أو ذاك الضعيف منطقا، وهذه الحال في مجتمعاتنا الإسلامية عامة التي تتناول المواضيع الإسلامية بأساليب بدائية ، ولدت صراعات شديدة و ظنون و شكوك خطيرة، نشأت من القصور الإعلامي في تفعيل التفكير النقدي بمنهج قرآني رصين من شأنه النهوض بالوعي الإسلامي لسفينة النجاة التي من ركبها نجا و من تخلف عنها هلك.

و تتفاوت المجتمعات الإسلامية  في مستوى ثقافتها حول سير أهل البيت و في قدرتها على استثمار الثروات و المعارف الإسلامية و الآداب العرفانية في إستراتيجيتها الإصلاحية، مع فقدان المقياس المطلوب لإدراك موقعية تراث أهل البيت في المنظومة الثقافية الإسلامية ، بل المؤسف أن المطلب الحضاري لا يزال يتراوح بين الكنتونات الثقافية المذهبية الضيقة بعيدا عن عنوان الحوار الإسلامي – الإسلامي.

في ظل هذا الواقع الإسلامي ، علينا أن ننهج التعمق في دراسته، للتمكن من رفع الغموض عن  العديد من المعوقات و المثبطات و الأمراض النفسية  و النقائص الموضوعية و الإختلالات المنهجية في تعاطينا مع مسألة القدوة سواءا النبوية أو الإمامية أو غيرها مما نلحظه لدى إخواننا السنة عموما، داخل منظومتنا الثقافية الإسلامية، ومن خلال هذا كله نفهم أنه لابد من البحث عن حقيقة الروح الولائية في كلمات المعصومين لكي نسد كل المنافذ على الزهو و العجب الذاتيين، الضاغطة على النفس و الموجهة لها نحو التهرب من المسؤولية بكل عناوينها و التي اعتادت الاحتماء بالظنون و العقل الجمعي السلبي الذي يعطل آلية العلم و المعرفة و النقد البناء  في حركة الإنسان، حيث تصطبغ المسؤولية بصبغة الغلو و التعصب و الرأي الأحادي و ما هنالك من عناوين ضعف المسؤولية...

و في نفس السياق أيضا هناك أزمة الحتمية الاجتماعية كامتداد لمأزق العقل الجمعي السلبي، حيث الأغلب الأعم من الناس يبرر رأيه برأي محيطه الاجتماعي، فمؤخرا بالعديد من الدول الإسلامية سمعنا نداءات متوجسة من التثاقف الإسلامي بين المذاهب الإسلامية ، تركز في خطاباتها و بياناتها الرسمية و غيرها على تاريخية المذهب في البلد الفلاني و الوحدة المذهبية كمطلب أساسي و عقلائي و أخرى بإحتواء الحوارات الإسلامية في إطار المذهب التاريخي للبلد ...وهذا الواقع جد حساس و مصيري بالنسبة للمستقبل الإسلامي ككل و ليس الشيعي فقط، لأن  علماء الدين هم القدوات الحية و القريبة عموما و التي من شأنها تحرير الإنسان من الطاغوت و تفتح عقله و قلبه على هدى الله فيبني علاقاته على أساس الاستماع المسؤول، و هذا كله يلتقي بالحديث الشريف : "عن الفضل عن الإمام موسى الكاظم قال: قال لي: أبلغ خيرا و قل خيرا و لا تكن إمعة، قلت : و ما الإمعة؟ قال: لا تقولن أنا مع الناس و أنا كواحد من الناس"(1) و حديث آخر: "ورد عن الإمام الصادق عن نبي الله المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام قال: كونوا نقاد الكلام"(2)...
وهذا نستوحيه في العديد من آيي القرآن العظيم:" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الألْبَابِ"  (الزمر:17-18)...

لكن بعض الناس في واقعنا الإسلامي، يعشق صناعة طاغوت يستبد به إما فكريا أو ثقافيا أو مذهبيا أو سياسيا من حيث لا يدري و لا يشعر، و الشيعي في هذا المضمار هو على خطر عظيم لحضور الثقلين في وجوده، لكن إذا كان حضورا انتحابيا و احتفاليا و شكليا هو تشيع بلا تفكر و لا يقين...

و قد استفاضت كلمات النبي الأكرم و أئمة الهدى بهذا الخصوص و كانت جامعة و مثيرة لمعنى أصيل في العمق الإسلامي ألا و هو الصدق ، حتى لا يصبح النقد افتراءا و كذبا و زورا و بهتانا عظيما أو استهتارا ، لان بعض الناس و للأسف من  المحسوبين على الحوزات العلمية و المرجعيات الرشيدة ينقد ليسقط شخصا يبغضه أو يحسده أو لينتقم منه و إلا جهة تزاحم جهته أو حزبا ينافس حزبه أو مذهبا يحرج مذهبه أو مرجعا يرى غير ما يرى مرجعه...و يبقى كل هؤلاء من أشخاص بسطاء و خطباء و أساتذة في حوزات و أطياف و أقوام و أحزاب ومذاهب يتوسلون النقد بروح الحقد و التعصب و الجهل و الغلو و السباب و الإسقاط ، حتى يحرقوا كل ثقافات الحوار و التسامح و اللقاء و الوحدة و اللاعنف و وعي الإختلاف و الأخوة الإسلامية، بنار الغرور و الزهو و دعاوى ملكية الحقيقة المطلقة...

وقد روي عن أمر المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: قال رسول الله : إن أدناكم مني و أوجبكم علي شفاعة ، أصدقكم حديثا"(3).

نستفيد من هذا الحديث الشريف ، أن الصدق وسام عظيم يجعل صاحبه و محصله أقرب ما يكون من النبي الأكرم و أحق بشفاعته، وكما يقال اللبيب بالإشارة يفهم...
 و على حد قول العلامة السيد محمد تقي المدرسي في احدى كلماته الخاصة بمناهج و مقاصد التشريع الإسلامي : "ينبغي على المسلم أن يكون دائم الحذر من عمى القلب، كما هو شديد الحذر من عمى العين" ويكون  دائم النباهة لدور العقل كما هو شديد النباهة للجاه و المال ، و عليه أن يكون باحثا عن نور الهدى بأدب و ورع و صبر و تقوى و عزم و جدية و حرية...

كانت هذه ورقة استقصائية مقتضبة لها شواهدها العديدة من واقع محنة الوحدة الإسلامية و الثقافة الصادقة الأمينة و الإنسانية السمحة الكريمة التي ترفع شعار "من أجل الإسلام" عبر الزمن الإسلامي كله، فضمن التواصل التحليلي الهادف للتراث الرسالي هناك مدخل أساسي: تفعيل التفكير النقدي الإسلامي من قبل  المثقفين الدينيين  و العلماء و الخطباء من خلال الدراسات و البحوث و الحوارات الرسالية الدقيقة و كذا الإعلام الرسالي الحر المنفتح، حتى لا نحصد في المستقبل مجتمعا مغرورا متوهما أنه فوق النقد مآله لصراعات بدائية وغير انسانية...

و تبقى الرسالية توجهنا لنداء القرآن :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (24ـ26).
و عودا لكلمة الإمام السجاد كجوهر لهذا المقال: في ظل الحب الإسلامي الحقيقي و وعيه الوعي السليم،  تتبلور منظومة ثقافية إسلامية متكاملة تلم الشتات الثقافي الحاصل و تحرر الساحة الإسلامية من الاحتقانات المذهبية المتخلفة الغير واعية لمعنى الإختلاف في الإسلام، وكما هو معلوم ليس الصعب بالمستحيل، إذا ما تراصت القلوب الطاهرة و العقول النيرة  خصوصا في  رحاب الفريضة الخامسة المقبلة علينا بكل روحانيتها الإسلامية لترشد المسلمين عمقا بتجاوز بعض التباينات و تجميد أخرى مع استثمار الإجتهادات و الحوارت في إطار الوعي الإسلامي الكبير بولاية الله و رسوله و المؤمنين، ذلك الوعي الذي يخدم الهدف الأوحد و المصير الواحد و يتصدى للتحديات الواحدة و الأعداء المتربصين و الناقمين منا على نعمة الإسلام...

بالمختصر الوحيد، إن إيصال صوت الولاية للعالم ككل بحاجة لهمة إيمانية و تقوى رسالية و عطاء ثقافي و صلة رحم إسلامية، خاصة في الحج المؤتمر العالمي الإسلامي الحر والمنفتح على كل الإسلام بمذاهبه ...

هنا تحديدا أحبتي، ليكن التشيع صدقا و عدلا و حقا كما نقرأه في كلمات الأطهار عليهم السلام، جنة المسلمين في الدنيا و الشيعة خدام الإسلام النبلاء المخلصين، لأن هذا هو صميم الإسلام الذي يجعل التائه يستشعر الصفاء و الطهر و يلتحق بالسفينة لاكتساب الورع و التقوى في كل خلجاته و حركاته و تطلعاته و النجاة في معاده ... و نحن هذه الأيام في ذكرى شهادة الإمام الجواد سلام الله عليه، نستحضر بعض روائعه الإسلامية روعة الولاية الإسلامية التي تنفح و تنضح بالإيمان العلمي و الخلق العظيم و التقوى المستقيمة.

قال: "لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر هواه وشهوته على دينه".


و قال أيضا عليه السلام: "تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمنٌ لمكر الله، ولا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون".
إنّ هذه الكلمات الجوادية كلها ككلمات أهل البيت قاطبة تؤكد قواعد و أصول إسلاميةً ثقافية في حياة  الإنسان ككل و المسلم خاصة في موقع المسؤوليات الإنسانية، فلا بدّ أن نكون ممن يملك العدل  في التشيع لأهل البيت وثقافة الحق و الصدق فيما نحركه في حياة الناس.

السلام عليك يا سيدي و مولاي يوم ولدت و يوم استشهدت و يوم تبعث حيا و نلقاك شفيعا لنا مع آبائك ، راضيا عنا بحقك و حق جدكم المصطفى و حق امكم الزهراء الصديقة الطاهرة و حقكم يا أئمة الهدى...

 وتبقى ولايتنا لأهل البيت هي الولاية التي تنشر الحب الإسلامي و هي صميم حب الإسلام...و الحمد لله رب العالمين...

 

الهوامش:
(1) بحار الأنوار:ج2، ص21، ح62
(2) المصدر نفسه: ج2، ص96، ح39
(3) مستدرك الوسائل، ج8، ص454، ح1