قراءة في جذور الواقع السياسي للعراق الجديد



الحلقة الأولى: (العراق الجديد والدور الأمريكي في البناء الخاطئ)

لقد انهمك المحللون السياسيون في قراءة ما يجري في العراق وللعراق، فأدلى كل منهم دلوه ليحلل مجريات واقعه المر، فمنهم من أهل السنة الذين كانوا حكاما طوال العهود السابقة يرون المشكلة في السياسيين الشيعة الذين وصلوا إلى سدة الحكم بعد معاناة شديدة، وإن كانوا يلقون باللائمة سياسيا على ما يسموه الاحتلال فيطالبونه بالرحيل، اضافة إلى تأييدهم لما يسمونه المقاومة ذلك من خلال الشعارات التي يُذبح فيها مئات العراقيين يوميا على مذبح إعادة النظام البائد من جديد.

ثم أن السياسيين الشيعة يرون المشكلة تكمن في التكفيريين من السنة وبقايا البعث الطائفي المستبد، أما الأكراد فإضافة إلى انهم يجهدون أنفسهم في بناء مدنهم مستفيدين من قاعدة مصائب قوم عند قوم فوائد، بعد معاناة وحرمان شديدين إلا انهم قلقون إزاء ما يجري على العراق لأن اندلاع النار فيه سوف لن يبقي كرديا ولا عربيا ولا تركمانيا يعيش على فراش وثير قط. أما قوات الاحتلال فهي الأخرى تتخبط بين خبث في النوايا وغباء في التفكير وكلاهما طامة اكبر من أختها.

أما أهلنا من شعب الضحايا والتضحيات الجسام قديما وحديثا فهم الذين يدفعون ثمن إيمانهم وولاءهم باهضا بعد أن كانوا يدفعونه في ضل قومية البعث الطائفي المستبد، فهم الآن يدفعون الثمن أبهض على عهد ديمقراطية العراق الجديد ما خلا نعمة الحرية التي فيها ينعمون.

والكل يتكلم في الخلاص، ويطالعنا السياسيون كل يوم بفصول مبادرات المصالحة الوطنية والوفاق الوطني وحكومة التوافق، ليقولوا أن الأبرياء من أبناء الوطن كانوا يتصارعون فيما بينهم وعليهم الان بالمصالحة من اجل الوطن الحبيب، وكأن لم يكن في القضية نظام مقبوح وشعب مذبوح قط .

 ثم تطالعنا مبادرة التفريق بين البعث الصدامي وبعث عفلق الذي توج على العراق خليفته (هبة السماء) صدام ليكون البعث الصدامي والبعث العفلقي الذي يريدون تلميعه (للمجاملة السياسية على حساب الشعب)  هو كيانان، بينما الحقيقة والواقع يقولان أنهما حزب واحد، ولكنهما حزبان احدهما قذر وهو البعث الصدامي الثاني مقدس نزيه وهو البعث العفلقي وذلك وفق منطق المغالطة الوطنية التي يراد منها الضحك على الشعب الضحية.

ولتكون نتيجة ذلك شعبا جائعا منهكا يعاني الذبح اليومي وشلالات الدم التي لم يسمع بمثلها التاريخ، وليصبح اهلنا كل يوم على طاحونة دموية جديدة وهكذا دواليك حتى المساء، وساسة عراقنا الجديد بين متخف وراء الجدران لا يستطيع مواجهة الحقيقة، وبين عاجز على معالجة الموقف، ورغم ذلك (تتطالع) علينا كل يوم وعلى شاشات التلفاز وجوه تحكم في ديمقراطية العراق الجديد لتصب على الواقع الملتهب زيتا وتؤجج نارا لحرب طائفية قذرة بخطابها الطائفي المحموم .

الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة الصراحة والعمل من أجل (معالجة جريئة) لهذا الواقع المر، و(لا معالجة جريئة) من دون (تحليل لجذوره)، ولا (تحليل حقيقي للجذور) من (دون صراحة)، ولا (صراحة) من دون (وضع النقاط) على الحروف، ذلك أن غياب وضع النقاط على الحروف وتحديد مواطن الخلل يعني المجاملة والنفاق السياسي المذموم.
الأمر الذي يدعنا إلى القول بأن العراق لم يكن ليعاني من ازمة سياسية بين قادة سياسيين محبين للوطن والمواطنة...
كما لم تكن هي ازمة ثقة بين الاطراف المشاركة فيما يسمونها بالعملية السياسية، ذلك أن مكمن :

  • المشكلة في البناء الخاطئ للعراق الجديد

هذه المشكلة التي تتجلى بدور قوات الاحتلال أو ما يسمى ب(التحالف) في اللعب بالأوراق السياسية لكونها هي الممسكة بكافة خيوط الواقع الذي سينفجر إذا ما بقيت تدور بنفس الدائرة المفرغة المتمثلة بالإمساك بكل (الملفات) والإنضغاط بضغوط التحالفات السياسية لقوى الإرهاب البعثي المتمثل بالقوى الداخلة في العملية السياسية وخارجها، وكذلك الاستجابة لتحالف حكومات طائفية العقل العربي وذلك حسب مقتضيات المصالح الخاصة بالاحتلال. الأمر الذي يشير إلى تخبط واضح في مشروعها الذي يكشف عن المشكلة الأولى المتمثلة بجهل الاحتلال واستبداده، مع منطق المؤامرة التي ما زال حاكما في اللعبة السياسية في العراق، اضافة إلى عوامل ذاتية في القوى السياسية التي ساتحدث عنها لا حقا. ولكن ما يتصل بحكومة الاحتلال هو مشروعها المرتبك في بناء العراق حسب مقتضيات المصالح الخاصة للاحتلال من دون الاكتراث بمصلحة العراق أو على الاقل من دون مراعاة للشعارات التي رفعتها في بادي الأمر .

فالمشكلة الأساس تكمن في جهل الاحتلال واستبداده مع حاكمية منطق المؤامرة.

  • جهل الاحتلال واستبداده مع منطق المؤامرة

يتلخص هذا الأمر بمزيج من جهل الاحتلال بالمسلمين عموما والعراق خصوصا، مع استبداد الإدارة الحاكمة فيه، ومنطق المؤامرة الذي يتحفظ عنده الكثير من السياسيين، إلا أنه عامل مؤثر وفاعل بموجب توافر العوامل الموضوعية التي سنشير إليها.

صحيح أن قوات الاحتلال قد خلّصت شعب العراق من أنياب طاغوت ربض على قلبه رُبُوُضُ وحش كاسر لا يعرف للرحمة طعما ولا يفهم للإنسانية رسما. فأنقذوه بالعَرَضِِ لا بالأصالة، حيث أرادوا فريستهم العراق والمنطقة فتخلصنا نحن من وحش كاسر هيمن على تلك الفريسة ردحا من الزمن.

فالقضية لا تعدوا اكثر من مفترس هجم على مفترس آخر وخرجنا نحن من بين أنياب المفترس الأول وعلينا إلا نعود إليه، كما يجب ألاّ نقع ضحية المفترس الثاني، وهنا نحتاج إلى الاستفادة من (حكمة الحكماء) وتظافر (عقول العقلاء) والاستعانة بتراكم (خبرات العظماء) واجتماع (جهود أقوام ألبّاء) لبناء مشروع سياسي ناضج.

من المعروف أن من أكبر ما يساعد على تصعيد الأزمات بين الشعوب المسلمة وساسة الغرب بشكل عام هو جهل أولئك الساسة لحقيقة الإسلام عموما وحقيقة الفكر الإسلامي الشيعي وما ينطوي على معالم فكر حضاري لم يصل إلى اقل شواطئه عمالقة الديمقراطية في الغرب.

 والسبب في ذلك تقصير المسلمين عموما والشيعة خصوصا لكونهم يتمتعون بفكر حضاري عكف على إنضاجه لدى الأمة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر عملاقا لم يشهد التاريخ أمثالهم قط ويشهد على تلك الحقيقة القاصي والداني من دون أدنى ريب أو شك.

فقد قصروا عن إفهام الغرب الحقائق الحضارية لمبادئ الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأودعها أئمة المسلمين من أهل بيته، هذا من جانب، ومن جانب آخر هو انكفاء( ساسة الغرب) و(مفكر وهم) على ما قد عرفوه عن الإسلام من المستشرقين وتقارير قاصرة ناقصة ومغلوطة اطمأنوا إليها، إضافة إلى الممارسات الخاطئة لكثير من المسلمين ممن تلبسوا بثقافة العنف وتبنوا فكر التطرف بعد أن ألبسوها مسوح الإسلام وألقوا عليها جلباب الدين زورا وبهتانا.

فعمد ساسة الغرب إلى تصدير الديمقراطية التي هي ربما تكون ناجحة لهم بمقدار ما وليس بشكل مطلق، ليعمموها على بلاد المسلمين من دون الالتفات إلى وجود الكثير من الفوارق الموضوعية بين الغرب والمسلمين.

صحيح أن في الغرب الكثير من الأمور الإيجابية، لكنها ما زالت تنطوي على الكثير أيضا من النواقص والسلبيات في تقيم الحياة على الوجه الأكمل الأصوب للإنسان والمجتمع، علما أن الديمقراطية هي افضل الأسوأ في أنظمة العالم كما عرفها زعيمها الكبير تشرشل بقوله:

أن: (الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم ، باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي كان يُحاوّلُ تطبيقها من وقت لآخر. "( من خطاب مجلس العموم البريطاني في 11 تشرين الثاني / نوفمبر1947)

وهذا التعريف إنما قد صدر من تشر شل وهو ( سياسي بريطاني، واللورد البريطاني الأول للقوات البحرية عام 1911-1915 1939-1940، ورئيس وزراء بريطانيا لعام 1940-1945، 1951-1955، والحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1953. وقد منح الجنسية الأمريكية كمواطن أمريكي فخري  عام 1963 ) .

ولما كانت هي (أفضل الأسوأ) فهي لم تكن (احسن الأفضل) من الأنظمة في الوجود. من هذا يتبين أن الديمقراطية لم تكن جنة المأوى بل هي والحق يقال افضل من الديكتاتوريات التي حكمت بأسماء شتى من علمانية أو غيرها وحتى التي تلك تشبثت بالدين زورا وبهتانا سواء كانت عند المسيحيين أو حتى الكثير من المسلمين.

النتيجة التي أريد الوصول إليها .....

هي أن سياسة إدارة الاحتلال في العراق العسكرية أو المدنية على حد سواء كانت سبب الكوارث التي يعاني منها العراق بالدرجة الرئيسة فضلا عن العوامل الذاتية للقوى السياسية العراقية، ولأني في هذه الحلقة اريد الابتداء بالاساس الأول ما يخص إدارة الاحتلال، وعلى سبيل الإجمال، لابد من ذكر جوانب محورية من قصوره وتقصيره بما يمكن جمعها بالنواحي التالية:


1. بعض اخطاء الاحتلال من الناحية السياسية

المشاريع السياسية التي أقدمت عليها تلك الإدارة كثيرة في العراق السياسي الجديد وأخص بالذكر منها المشاريع التالية: 

أ) تقنين نظام المحاصصة

 حيث أصرت على اتباع منهج المحاصصة الطائفية، إذ لو كانت قد تركت الامور حسب المنطق الديمقراطي كما يزعمون لأعطت الديمقراطية كلا من الشيعة حجمهم الطبيعي والسنة حجمهم الطبيعي والأكراد كذلك والتركمان وباقي الطوائف والقوميات أحجامها الطبيعية دون ان تبخس لأحد حقا، ودون أن يتطاول أحد على حق أحد قط، ولما تسببت بهذا الاحتقان الطائفي المحموم.

وحتى إذا  دعت الضرورة في بداية سقوط النظام السابق إلى المحاصصة لعدم إمكانية القيام بالإنتخابات في ظلال تلك الظروف الاستثنائية إلا أن من (الواجب العقلي) و(الفرض المنطقي) الانتهاء منها بأسرع ما يمكن، ولا يؤسَّس لها بما يجعلها نظاما يطوق أعناق الشعب ويقيد رقاب السياسيين ويطيح بالتجربة الجديدة، فتمادت تلك الإدارة حتى أطّلت علينا السياسة الأمريكية من خلال سفيرها المدني ليرسي بناء العراق وفق المحاصصة التي خرجت عن حدودها الاستثنائية لتعطي أقل الأقليات السياسية التدخل في كل شيء، فاستدعت في العملية السياسية حشدا من بقايا النظام السابق وأعوانه والذين حسبوا أنفسهم عليه والمتضررين من سقوطه لتزرعهم في مفاصل الدولة والحكم ابتداءا من رئاسة الجمهورية ومرورا برئاسة الوزارة وانتهاءا بمجلس النواب، الأمر الذي زرع في مفاصل العراق (فايوسات سياسية) شلت وتشل حركته، فهي تؤلمه في كل لحظة من لحظات حياته وتعرقل عليه نشاطه ليتعدى ذلك الألم مفاصل الحياة السياسية الرئيسة فيَصِل إلى كل أنملة من أناملها.

ب‌) الإصرار على مصادرة السيادة

حيث كانت تتدخل في شتى الأمور السياسية والأمنية وغيرها بما لم يكن خافيا على أحد في السلطة أو خارجها والأمثلة على ذلك كثيرة. فأكدوا انهم محتلون لا محررون فزاد من تبرير دعاة العنف الطائفي لعنفهم ومنح بقايا النظام السابق المبررات الكافية للولوغ أكثر في دماء العراقيين والوغول في تدمير البلاد. الأمر الذي ترتب عليه الكثير من الأزمات التي زجت بالعراق إلى المزيد من التخلف في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية الاجتماعية والامنية والعمرانية وغيرها .

ت‌) الاستبداد بالملف الأمني

إن استبداد إدارة الاحتلال بالشأن الأمني هو الذي ساعد إلى حد بعيد وشكل رئيس على تشجيع العنف، وتمكين بقايا النظام السابق، وإفساح المجال أمام منظمات الإرهاب للتوغل في البلاد من خلال فتحها للكثير من الثغرات التي نفذ عبرها الإرهاب ودعاته والإرعاب ورعاته. وذلك كي تتمكن إدارة الاحتلال من خلط الاوراق السياسية اكثر لأجل المزيد من تبرير وتمرير مشاريعها ومنحها الوقت اللازم لفرضها على الواقع السياسي في العراق فرضا يجعل العراقيين يُسلٍّمون بكل إملاء يُفرض عليهم من ترتيب البيت السياسي وفق إرادة الاحتلال وبناء العراق بما يجعله ملغوما تتحرك فيه المشاكل الموقوتة حسب الحاجة، وبما يتيح لهم الفرص اللازمة لتأسيس القواعد العسكرية المزمع انشاءها على ارض العراق، وبما يفرض على العراقيين نمطا من البيت الذي يسكنونه وفق مقاسات ارادة الاحتلال، وهذا في حد ذاته غباء سياسي للاحتلال من جهة وجهل معرفي بطبيعة العراق والعراقيين وهم ذووا جذور حضارية تأبى التطويع على المدى القصير فضلا عن البعيد، وما المحاولات القاسية لإرادة قومية البعث الطائفي في اقتلاعها إلا دليل على هذه الحقيقة، الأمر الذي يكشف عن أن العراق بلد لم ولن يقر به قرار لظالم ولا غاصب قط  .

ث‌) اتباع سياسة المعايير المزدوجة

المشكلة الاخرى التي تورطت بها إدارة الاحتلال هو انتهاجها سياسة المعايير المزدوجة في التعامل السياسي في العراق، حيث كانت وما زالت تتعامل بوجهين مختلفين وتلعب مع فريقين متناقضين متضادين في آن واحد، فهي تتعامل مع العراقيين المذبوحين من جانب، ومن جانب آخر تتعامل مع جزاريه ومحترفي قتله قديما وحديثا، وما تهريبهم لعناصر قيادية كبيرة من النظام السابق ممن كانت قوات الاحتلال قد وضعتهم في قائمة المطلوبين ونشرت صورهم على ورق لعب القمار إلا خير مثال على ذلك ، حتى هربتهم من داخل السجن والى خارج العراق مباشرة بما لم تطلع عليه حتى شركاءها من ساسة العراق الجديد.

أو إبقاءها على عناصر قيادية كبيرة من المطلوبين الذي أيضا وضعتهم في قائمة المطلوبين وهي تعرف مكان وجودهم ودورهم في زعزعة استقرار العراق وقتل أهله، وفي طليعتهم عزة الدوري وهو النائب الفعلي لصدام والمدبر المباشر لتنظيم العنف وادارة مشاريع التخريب والتدمير في العراق، وفضلا عن انها قادرة للوصول اليه، فهي تحاول التفاهم والتفاوض معه كما افادت التقارير السياسية والخبرية في هذه الكرة الارضية .

أو انتهاج إدارة الاحتلال لسياسة التسامح مع من كانت تعتقلهم وهم متلبسين بالجرم المشهود في إدارة تفخيخ السيارات وتوجيه عمليات قتل العراقيين وبث النعرات الطائفية كما حصل مؤخرا في وجوه كانت وما زالت تعمل في أروقة العراق الديمقراطي الجديد (؟ ).

أو تكتم إدارة الاحتلال على شخصيات سياسية حاكمة في العراق الجديد وقد ضُبطت أرقام هواتفها عند قادة الإرهاب كما تسميهم دوائر الاحتلال نفسها، والأمثلة على ذلك كثيرة، وآخرها تقرير الحكومة العراقية لخطة بغداد الأمنية لتقوم القوات الامريكية بتمرير خطتها غير المقررة عراقيا ولا المتفق عليها في ذات الوقت المتزامن مع الخطة الأمنية للقوات العراقية، لكي تتصيد القوات الامريكية بهذا الجو، لتفعل في هذا الظل ما تشاء، وتصنع ما تريد.


2) بعض اخطاء الاحتلال من الناحية العسكرية

أما من الناحية العسكرية فالأخطاء التي ارتكبتها سياسة الاحتلال كثيرة جدا ولكني اذهب إلى ذكر بعض الاخطاء المنهجية ذات الابعاد الاسترتيجية وبعيدة المدى على تأزم الوضع السياسي للعراق وتعقيده ومنها:

أ) تسليح أعداء الشعب

ومن ذلك أنْ تركت قوات الاحتلال بعد سقوط النظام السابق كامل تجهيزات جيشه نهبا بعد استيلاءها على المعدات المهمة في نظرها مثل الصواريخ البعيدة المدى وما يتصل بأسلحة الدمار الشامل من كيمياوية وبيولوجية وغيرها، وتركت باقي السلاح نهبا لبقايا النظام الساقط وأجهزته الحزبية التي أسرعت إلى جمعها وإخفائها في مخازن تحت الأرض وفوقها، وقد نشر الإعلام العالمي صورا عن معسكر تكريت وغيرها من المعسكرات التي بقيت خالية يوم سقوط نظام القمع الطائفي، ما خلا الدبابات التي تُركت على ارض المعسكر لكونها أسلحة ثقيلة لا يمكنهم إخفائها، أما باقي الأسلحة فقد تركتها – عمدا أو غفلة، ضعفا في التقدير أو سوءا في التخطيط وحمقا في التدبير لتصبح بعد حين الأسلحة التي يتم بها ذبح الشعب العراقي يوميا، ولتصبح في خدمة العبثيين والمتسللين إليهم من خارج البلاد.وهذه من كوارث المنهجية العسكرية للاحتلال في العراق

ب‌) عدم ضبط الاحتلال للحدود

من واجب الاحتلال الهيمنة على الحدود خصوصا تلك التي يتسلل منها الإرهاب ومنظمات قتل الإنسان العراقي وهيئات علماء تدمير المسلمين، ولكن إدارة الاحتلال تركت البلاد إما ضعفا منها أو حبا لها في ذلك لما يخدم مشروع المؤامرة الذي يجب ان يديم بقاء وجودهم على الأرض والإنسان والثروات ريثما يتم لهم ترتيب البيت العراقي حسب ما يريدون.

ت‌) التساهل مع أئمة الإرهاب

ومن تلك المناهج انها تبنت سياسة التساهل مع أئمة الارهاب ممن احترفوا قتل الإنسان وأمتهنوا تدمير البلاد، وذلك بغية استدراجهم من أنحاء العالم إلى العراق ليتسنى لهم حصر المواجهة بعيدا عن بلدان حكومات الاحتلال، وبهذا صار العراق الضحية الأساس وكبش الفداء الأول لتلك التطلعات والمناهج السياسية المحمومة، وهو أمر أعلنه ساسة الاحتلال مرارا وتكرارا، بما لم يكن خافيا على الأعمى فضلا عن المبصر. الأمر الذي يفسر نظرية المؤامرة التي يتحفظ من الاعتقاد بها الكثير من السياسيين اليوم.

 
3) خطأ الاحتلال في العمل على نظرية المؤامرة

 لم تتمكن تلك الإدارة من التخلص من تلك الثقافة الخطيرة عليها وعلى مصالحها فضلا عن المخاطر التي تحدق بالدول التي تخضع لها، وبيان ذلك يتطلب منا تسليط الضوء على الحقيقتين التاليتين:

الحقيقية الأولى: الضعف الذاتي السبب المباشر في المؤامرة

الكثير من السياسيين العراقيين وغيرهم ينكرون نظرية المؤامرة بشكل مطلق، بينما يستغرق منهم فيها حتى يعزو كل شيء لها، والحق لا هذا بشكل مطلق ولا ذاك بنحو دائم. المؤامرة أمرٌ قائم ووضعٌ حاكم ولكنها ليست كل شيء، ذلك لأن عنصر المؤامرة لن يؤثر ما لم يكن هناك استعداد ذاتي تنمو عليه المؤامرة وتنعش فيه وسائله.
فالمؤامرة كالفايروس المرضي الذي يغزو جسم الإنسان، فهو لا يؤثر ما لم يكن البدن ضعيفا هزيلا متداعي المناعة، أما إذا كان قويا منيعا في ذاته فلن يكن لهجوم الفايروس أي تأثير فعلي على الإنسان وإن علته الأوبئة إلى أم رأسه، وتلك الحقيقة قالها المنطق القرآني في قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (1)  أي أن تغيير الأمورفي كافة مجري الحياة مرهون بتغيير موازين العوامل الذاتية بما يحقق للإنسان والمجتمع القوة والمنعة الحضاريتين بما يحقق الثبات على زحاليف الحياة ثباتا حيويا متألقا، لا المنعة المزيفة والغلبة وفق منطق الغاب الذي يتجلى بالعنف والارهاب والقتل والإرعاب واستباحة الاعراض وانتهاك المقدسات ،حيث أن هذه المنعة موجبة للزوال وإن طالت قليلا أو كثيرا.

الحقيقة الثانية: بيان نظرية المؤامرة حقيقة أم وهم ؟ 

بناءا على ما تقدم وما حكم به الواقع فإن المؤامرة من قبل الاحتلال أمر وارد عقلا وواضح فعلا، ذلك لأن قادة الإدارة العسكرية والمدنية للاحتلال لم يكونوا من الأتقياء ولا الأولياء الصالحين أو ممن يخافون الله في الناس ويهتمون بالإنسان، حيث أن زعماء العسكر ليسوا إلا رجال بطش وقادة تدمير ومهندسي آلة لإهلاكٍ الحرث والنسل، أما القادة السياسيين فهم رجال مخابرات، وميدانهم الإنسان، وآلتهم ليست إلا الشك والظن والأخذ على التهمة، وسبيلهم اعتبار كل ما يدور حولهم ضدهم إلى أن يثبت العكس، وهم بذلك حتى مع صديقهم على حذر شديد، وإنقلاب عتيد.

وهذا لا يستبعد منطق المؤامرة في تأجيج نار الفتنة في العراق من اجل إبقاءه منطقة ساخنة ريثما يُرتب قادة الاحتلال الأمر بما يروق لأنفسهم ويبنوه بما يحلوا لمآربهم، ولعل من له أدنى خبرة في جهاز الحاسوب الإليكتروني يرى عرض شركات البرمجة الكومبيوترية لرواد هذا الجهاز ، فيخبرونهم أن ثمة فايروس قد غزا جهازهم، والدليل ذلك أن يضغط الإنسان على (الوصلة) الكذائية ليقرأ له مسحا كاملا لما قد هيمن من فايروسات على الجهاز، وحالما يتسارع الزبون في الأمر، يكتشف قائمة طويلة ومرعبة من الفايروسات بأسمائها ومشخصاتها، فتطلب منه الشركة أن يشتري منهم البرنامج الفلاني لمكافحة الفايروسات تلك، وحينما يشتريه يبدأون بنصب البرنامج الذي يلغي الفيروسات من جهازه مضيفين اليه عددا من البرامج الفايروسيه الجديدة التي لا تظهر إلا بعد فترة محدودة، وبانتهاء الفترة تلك، تظهر على الكومبيوتر علامات فايروس جديد ومشاكل في التشغيل، فـيستلم رسالة أخرى على جهازه تخبره أن فايروسا جديدا قد هجم على جهازه ولكي يتأكد من ذلك عليه أن ينصب البرنامج الفلاني، وحينما ينصبه يرى قائمة جديدة من الفايروسات المرعبة، فيعرضون عليه ثانية برنامجا جديدا لمكافحة المشكلة المستجدة، فيشتريه مرة أخرى ويغرسون في جهازه مشاكل جديدة موقوتة إلى أمد محدود، وهكذا دواليك، كلما اشترى منهم جهازا لمكافحة الفايروس جيء له ب(مطهِّر) و(ملوِّث) فيروسي في آن واحد،  وهكذا تستمر دائرة الابتزاز الاقتصادي إلى ما لا تحمد عقباه من سياسة الابتزاز.

وذات الشيء قد حصل بالنسبة إلى بقاء صدام وحزبه على الحكم ليكون مرعبا لدول الخليج حينها، إذ كلما أرادوا ابتزازا اكثر منهم واعترض بعضهم، تحرك اليهم صدام بحزبه ونظامه ليصدر تهديداته إلى قادة الخليج، فيتراجع القوم راكعين لصالح شركات الفايروس السياسي لأغراض الابتزاز الاستعماري في المنطقة.

وعين الشيء يحصل الآن في العراق الجديد فإن بعبع الإرهاب ودواء مكافحته كلاهما بيد الاحتلال، فحينما يريد الاحتلال تمديد بقاء قواته لإتمام مهمته ورأى ثمة مطالبة عراقية حكومية أو شعبية لسحب قواته فتحوا أبواب الإرهاب المعروف بالمقاومة لتنشط في قتل الناس الأبرياء، عندها تحتاج الحكومة العراقية إلى مساعدة القوات الأجنبية فتظهر التصريحات بضرورة بقاء القوات وإلا تستفحل الفوضى في البلاد. وهكذا تكون الدائرة مغلقة بين الإرهاب ومكافحة الإرهاب وكلا الخيطين السحريين بيد القوات الأجنبية. وهذا هو منطق المؤامرة.

وما علامات ذلك عن الحاذق الفطن بغريب، وعلى سبيل الشاهد لا الحصر اذكر:

• مقالة زعيم القوم يوم أعلن عن منطق ( الحرب الصليبية) ولما أن قامت عليه القائمة تراجع معتذرا عن قوله مبررا اصحابه له كلامه.
• كما أعلن شيخ من شيوخ السياسة الأمريكية في بداية سقوط الطاغوت عن ضرورة استخدام ( سياسة فرّق تسد) ولما أن هاج عليه الهيج سكت عن الكلام ولم يسكت امثاله في السياسية عن الفعل في المقام .

• ثم أن الوجوه السياسية لإدارة الإرهاب ما زالت حاكمة في أروقة الحكومة العراقية وتحت علم وتأييد حكومة الاحتلال نفسها، وما من دليل أدل على ذلك من اكتشاف القوات الأمريكية بعضا من مخططي التفخيخ والاغتيال والذبح الجماعي وهم متلبسين بالجرم  المشهود في  بيت من بيوت واحد من العاملين في العملية السياسية الديمقراطية، ثم تذهب القضية بعد هذا الاكتشاف الخطير إلى المجهول الحقير وكأن لم يكن شيئا مذكورا,وأقول على وجه الإنصاف والبحث العلمي : لو أن هذه الحادثة قد حصلت في بيت من بيوت واحد من الزعماء الشيعة، أو لو اكتشف الأمريكان أن ابنا أو مرافقا لهذا الزعيم الشيعي أو ذاك وقد كان قابعا في بيت ذلك المسؤول وثبت انه متخصص ومتورط في إدارة عمليات التفخيخ في بغداد أو غيرها، لقامت الدنيا ولم تقعد حتى يسقطوا تلك الشخصية الشيعية سياسيا أو يردونها قتيلا. لكن شركة الفايروس السياسي تريد الاحتفاظ دائما بعوامل الإرهاب (المقاومي الشريف) ؟؟

(ملاحظة: أرجوا أن يصبر بعض القراء قليلا لأني سوف ابحث موضوع المقاومة في القريب القادم بعون الله).
• أضف إلى ذلك الكثير من الممارسات العملية التي أثبتت ذلك ومنها اعتقال رجال شرطة البصرة لاثنين من جنود الاحتلال البريطاني وهم متنكرين بلباس مدني عراقي ومعهم أسلحه ومواد متفجرة واجهزة اتصال كما أفصحت عنه وسائل الإعلام في حينها وعرفها القاصي والداني.

• وناهيك عن تدبير تهريب الوزير العراقي (أيهم السامرائي) المعتقل بسبب تورطه بممارسة إرهاب اقتصادي للعراق، ليهرّب من سجن حكومي حتى يصل إلى مأمنه في وكر الأوكار الآوية للإرهاب وراء حدود العراق. وذلك لانه ممن له يد طولى في ترتيب اتصالات للحوار بين الاحتلال وقادة الارهاب من اجل التفاوض معهم.

والى غيرها من المواقف التي لا حصر ولا عد لها، وإن كانوا قد أعلنوا عنها حينا، فقد سكتوا عنها أحيانا...

إلا أن الأهم من ذلك كله هو دلالة تلك الإشارات على حقيقة ما يبطن الاحتلال من ثقافة المؤامرة التي ما فَتئتْ يوما حتى ظهرت على أقوالهم وأفعالهم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ما اضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (2) . فالمؤامرة أمر صحيح وخطير ولكن أين الأصح ؟ واين الأخطر؟

الأصح الأخطر يكمن في العوامل الموضوعية (الذاتية) التي تساعد على تهيئة الأجواء المساعدة لنمو المؤامرة، وهذا ما سنبحثه في الحلقة القادمة بعون الله تعالى .
ولكن ما يهمنا الان ونحن في صدد البحث في المناهج الكارثية لإدارة الاحتلال في العراق يجب على الجميع العمل على إعادة بناء العراق على الأسس الحضارية الصحيحة تقويم البناء السياسي العراقي المعوج.

حيث من المعلوم أن سياسة الإدارة الأمريكية قد أسست قواعد العراق الجديد على أنقاض العراق القديم من دون دراسة موضوعية لطبيعة الشعب العراقي ووحشية أعداءه الذين شربوا دماءه قديما ويسبحون فيه حديثا. الأمر الذي يوجب تقويم البناء ما دام الأمر في بدايته، وقبل أن يعفي عليه الزمن فيصعب بعده الاصلاح وتدارك الأمر.
وذلك هو من مسؤوليات الحكومة العراقية والامريكية والشعب العراقي على حد سواء . وهذا يتطلب العمل على واجبات عديدة منها :

الواجب الأول :تصحيح مسار المناهج السياسية

من الواجبات الأساس هي ترك سياسة التوافقات والتوازنات الحزبية والطائفية والقومية التي أودت بالعراق وأدت به إلى المزيد من الكوارث، ووجوب العودة إلى حقيقة المفهوم الديمقراطي في العمل على اسس الانتخاب السياسي والتصويت الاجتماعي واحترام ما يترتب عليه، والمنطق الديمقراطي هو أقل ما يجب العمل به وعليه. حيث أن من مخلفات تلك السياسات تقوية الارهاب وزرعت قواعده في مفاصل الواقع السياسي الجديد، وزعزعت استقرار العراق، وألغت امن العراقيين.

الواجب الثاني: المسؤوليات على صعيد الإدارة الأمريكية

أما فيما يخص الإدارة الامريكية فهناك واجبات كثيرة على ساسة العراق تقضي بإفهامها المحتلين وتنبيههم عليها، ذلك لأن التساهل بها سوف لن يفسد على العراقيين حياتهم فحسب بل يفسد على الامريكيين والبريطانيين حياتهم واستقرارهم، وعيله فيجب على الاحتلال أن يتحلى بالحضارية التي يفتقرون اليها رغم ما عندهم من معالم مدنية ووسائل تمدن حيث أن الحضارية غير التمدن. ومن تلك الواجبات ما يلي:

أولا: مما يجب حضاريا على إدارة الاحتلال إعادة النظر في (سياسة فرق تسد) وسياسة التدخل في شؤون العراقيين وفي مقدمتها (عرقلة مشروع السيادة وإنقاصها)، اضافة إلى ( تصدير ديمقراطية غير ناضجة) تختلف حتى عن ديمقراطية الغرب ذاته، الأمر الذي يوجب عليهم إلغاء ادوات الاستعمار المكشوفة القديمة.

ثانيا: من المنطلقات  الإنسانية التي يجب على إدارة الاحتلال اتقانها هي ترك اللعب على الوتر الطائفي عبر الإمساك بخيطي العراق الجديد والقديم معا من خلال الضغوط التي يمارسها سفيرها في بغداد وأمثاله.

ثالثا: من الواجبات الاخلاقية المفروضة على السياسة حكومة الاحتلال احترام نتائج الأصوات الانتخابية للشعب فلا تتجاوزها لمجرد عدم مطابقتها لتطلعات المنهاج السياسي للحزب الحاكم في امريكا أو غيره.

رابعا: الواجب الحضاري لعالم متمدن مثل امريكا يحتم التعامل مع العراق على انه بلد الحضارات، وإن كانت بعض الفئات المحسوبة عليه عكست صورا على بأنه بلد بالذبح والقتل والتدمير، الأمر الذي يجب أن يطرح العراقيون الحضاريون للعالم الصورة الحقيقية للعراق، اضافة إلى ضرورة بيان أن تلك الثقافة ليست من اصالة ثقافة (العراق) بل هي من جاهلية الوجه الاخر الذي كان وما زال يعاني منه العراقيون.


المهم من ذلك كله... يجب على العراقيين حكومة وشعبا تعرية مناهج المؤامرة القديمة لأنها من ادوات استعمار الشعوب
.  

 

 

[1] - سورة الرعد / آية 11
[2] - نهج البلاغة/ باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام