بعيدا عن الضوء .. أحيناً
هناك جوانب مطفأة في حياتنا لا يصلها الضوء تماماً .. قد تبدو غير مألوفة بالنسبة للبعض ، ومختلفة عمّا عرفوه عنّا .. وقد تشبه هذه الجوانب الجانب المطفأ من وجه القمر قبل أن يكتمل ، فوجه منه مضيء ووجه معتم متواري عن الضوء تماماً يرقد في العتمة حتى يعود، فيسطع نوره كبدر مكتمل .
هذا الانطفاء نحن لا نقصد أن نعتم شيء منه ولا نسع ليصبح ألغاز نطويها عن الآخرين، لكنه يمثل حقيقة هامة في جزء مكمل لشخصياتنا وإن لم يتعرف عليه أحد .
كثيرا ما تتلبس علينا دقائق الأشياء فتوقعنا في فخها فنتورط في انتقاد من نعزهم دون أن نشعر أن لهم خصوصية ما علينا احترامها ، والمحصلة النهائية لكل هذا إما عداوة لم نكن نحسبها وإما هروب ونفور يكهرب علاقتنا بهم .. وللأسف قد لا نراعيهم في هذا ، فنرهقهم بالشكوك والانتقادات اللاذعة وننسى أنهم بشر يملكون جوانب مطفية لا يصلها الضوء أحياناً، يعالجون فيها وحدتهم، ويرفئون عبرها انتكاساتهم، وينظمون خلالها تجاربهم ، هذه الجوانب تخصهم وحدهم ، يلجئون إليها حين ترهقهم الأمور وتثقلهم بحملها .
لكن الأعجب من كل هذا أن البعض يتجاوز منطق الخصوصية أحياناً حين لا تعجبه ، فنراه يقتحمها بلا رحمة ، فقط لأنه لا يعترف بها ، أو يظن أن صاحبه يتعمد إخفائها عنه ، لذا يسلقه بتهم وتهكمات تنطوي على القبح وعدم الذوق في التعامل، في حين أنه بحاجة لإعطائه فسحة من الوقت ، لمرحلة من الراحة ، لجزء معتم لا تصله الأضواء فيزعجه فيه سطوعها المتواصل ، هو يحتاجها ليلتقط من خلالها أشيائه المبعثرة ويصوغ أفكاره المتداخلة ، وينظم أنفاسه المتسارعة ، فيعود لنا بطاقة ونشاط أكثر من ذي قبل ، مشرق كوجه قمر مكتمل تماماً ننتظره وسط كل شهر .
لو فهمنا هذا لن نجد ضيراً في إعطائه فسحة من الوقت يختلي فيها بنفسه ويلملم بعثرته وينظمها، فما الضير من تركه يعالج ضيقه، ويتأمل ما حوله وان بدا منعزلاً عنا ومنطفئ أحياناً ، يمارس هواياته ويهتم بنفسه بعض الوقت أو جزء منه ، ما الضير من أن نتركه على حريته يمارس ما يحب دون محاولة التلصص عليه و إقحام أنفسنا فيما لا يرحب معه بوجودنا فيه .
يحدث أحيانا أن ينطوي البعض على نفسه ، يعتزل عالمه ومحيطه وأصدقائه ، ليس لأنه يأنف منهم ولا لأنه يخضع للحزن ويبحر في الكآبة .. بل لكونه يحتاج لفترات طويلة من الصمت .. يحتاجها ليرتب أوراقه ويسلسل أفكاره بعد أن ينظمها ، يستعيد هدوءه ويتأمل ما مر به من تجارب ومواقف .. يحتاج هذا حتى لا يصبح آلة تعمل باستمرار لتتوقف أخيرا بأعطالها المستمرة ، ولا لأن يكون مدينة مثلجة يقطع شوارعها وحده ، وفي الطبيعة يحدث للنبات أن يرسب خلاياه الميتة وفضلاته على أوراقه الصفراء لفترة ثم يسقطها بعد أن تخلص مما تراكم به .
إن مسألة مراعاة الخصوصية ، تعد أمراً ضروري للغاية ، إنها النتيجة الحتمية التي يمتلكها المرء من خبرته بالحياة واقتناعه الذاتي بأنه شخص مختلف له شقين ، شق يصله الضوء فيظهره للآخرين ، وشق مطفأ قد لا يكون معتماً بمعنى العتمة التي نعرفها، لكنه يحتفظ فيه بكل ما يتراكم عنده من سلبيات أو ايجابيات لم يئن وقت ظهورها لنا بعد .
والحقيقة الأوضح هي أن لكلا منّا شقين في داخله .. شق مضيء ، وهو ما يعرفه عنه الآخرون ويتعاطون معه من خلاله ، وشق داكن وخفي وهو ما لا يعرفوه عنه أو حتى يظهره لهم ، وهو من خلال الشق الآخر لا يتعمد أن يخفي عنهم شيء أو يستأثر بخصوصية أو رأي لا يريد اطلاعهم عليه ، لكنه يحوي بداخله أسراره، ويخبئ فيه كنوزه، وما يحب ويكره من أمور يقترب منها أو تعترض هي طريقه .
هذا الجزء غير ظاهر للكل ، فليس الكل يعرفه عنه، لذا يظل هذا الجانب مغلق عنّا ، ومن أجل أن نفهمه و نتعاطى معه بوضوح علينا الاقتراب منه برفق وبحذر ، فهو لا يحبذ أن يكشفه لنا ، لأنه الجزء الخاص به والإنسان أي إنسان مهما كان واضحاً للكل فهو المخلوق الوحيد الذي يتوق لأن تكون له خصوصيات معينة ، تهمه وحده وإن لم تهم أحداً غيره ، فإن انكشفت لأي سبب كان، لن يحتفظ بنكهته الخاصة، ولن يعرف كيف يتواصل معنا ، لأننا بهذا نكون قد عريناه تماماً دون أن يسمح لنا ، فولجنا خصوصيته التي يمتلكها بلا استئذان ، لذا قد لا نستغرب من محاولته الانسحاب عنا فجأة حين نفعل ، ليقرر بأنه لا عودة بعدها لعالمنا.