استثناءات لا بد منها
تبدأ حياتنا بفكرة نؤمن بها، وقد تحتوي الفكرة على فلسفة ما تخصنا ، تسيطر علينا ، فنتعلق بها ونعتقد ، ومن خلالها نبني سلوكنا ونعلق آمالنا، لذا نسع وراءها وإن لم نصرح بالأمر. فأفكارنا عامة هي لنا، ومن حقنا أن نعلنها للملأ لأنها تمثلنا، وإن وافقت قوانين المجتمع ركنا لكونها تسير وفق نسق سليم نرتضيه، هذه الفلسفة التي نعتقدها تخضع لإطار عام وقانون معين نسير عليه .
والقوانين البشرية في مجملها قوانين وضعية ، وضعها البشر أو هي إلهية وضعتها السماء لتعطي صياغة صحيحة لحياتنا ، لعلها صياغة توحي بالاستقلالية ، بالنظام، بالاطمئنان، لكنها بالطبع ليست حرفية التطبيق ، فالناس عادة في أي مجتمع كان لا يلجئون للقوانين إلا في حالات الضرورة القصوى التي يراد منها أن يسود النظام ويسير البشر وفق أنساق معينة .
ونحن لا يمكننا أن نعيش في الحياة دون قوانين تضبط سلوكنا، وبالنتيجة لا يمكن أن نطبق كل القوانين خاصة حين تفتقد للمرونة ، لكن البعض يتشدق بحرفية التطبيق خاصة فيما يتعلق بنظام العقوبات الصارمة ، وبحجم هو أكبر مما تتطلبه طبيعة الموقف نفسه، متناسياً بأنه من الصعب تعميم الأمر كلياً في جميع أجزاء المجتمع إذ هو سيتحول لمجتمع جاف يصعب التواصل معه، فلا حياة تنبض بداخله ولا مرونة ترتسم فوق عناوينه .
لا أحد ضد القوانين طالما كانت تساهم في تمهيد طرق كثيرة للحياة المشتركة الخالية من وجع العقد ، لكن ثمة استثناءات ما ، ثمة لحظة تحتاج للتوقف من خلالها نفهم طبيعة الحياة وطبيعة الموقف بتركيباته المختلفة وأجزاءه المتداخلة حتى وإن كانت متباينة ، نحتاج معها لصورة دقيقة نحكم فيها العقل ونستشير العاطفة ونبطن النفس البشرية لنفتح لها بوابة السكينة فيمكنها أن تتعايش مع مستجداتها بسلام .
البعض يتمسك بالقوانين كأطر عامة وعريضة لحياة تبدو مثالية وتوحي بالاستقامة وإن كانت صارمة ، يفعل ذلك لا لكونه يحترم تأثيرها ويبجل هويتها، بل لأنه يغطي من خلالها حالة العجز المستقرة بداخله، كما يواري بها حالة الاهتزاز التي يشعر بها .
من الصعب أن أبدأ بقيادة عالم على نسق أنظمة حقيقية ولوائح إدارية بحتة، وأدعي في ذات الوقت أني أستطيع تحريك الحياة من خلال قيادتي المتميزة له بنجاح تام ، إن صنعت فأنا بذلك أتوهم قصوراً للحقيقة من رمال، وأبني سفناً من ورق في بحر هائج تحركه الريح بقسوة فتبتلعها ، لأني سأعمل على تأطير أذهان الناس وفق سياج من حديد محكم لا مساحة يتحركون فيه من خلالها، ولا مسافة يقفزون فوقها تتطلبها طبيعة الأشياء والأزمنة وأماكنها .
نحن نؤمن أن القوانين هامة لا خلاف على الأمر، فهي تضبط الانحرافات وتقوم الإعوجاجات، وتنظم العشوائية وتثير الرعب في وجه المعتدين ، لكن بعضها لا يعطينا فسحة ما لنمارس حياتنا من خلالها إن طبقت عقوباتها بحرفية تامة.
بعض الأمور تحتاج لوقفة تأمل لنتقن فهمها كما يجب لا كما نقرؤها في لائحة وأنظمة وضعها فلاسفة ومفكرون يمنطقون الأمور على نسق المدينة الفاضلة كفكرة تستهويهم، لا كحقيقة تفرضها طبيعة الأمور أو تدعو إليها قوانين الائتلاف البشري ، ولأننا بالنتيجة النهائية نتعامل مع بشر وللبشر استثناءات على أساسها يمكننا أن نوجه علاقاتنا بهم ، وعبرها نبرمج ما يحصل معهم من خلال العقل الواعي و النفس المطمئنة .
فحين يعطي النظام حالة من عدم الاطمئنان لأفراده ، ويعكس حالة من التشويش الذهني ويخلف نسبة كبيرة من القلق عندهم، لا يمكننا اعتماده في هذه الحالة ولا يمكن أن نتبناه بشكل مفصل لأنه يعبر عن مرحلة من الشقاء سيخوضها معهم، ومع ذلك فالكلام هنا ليس تعبيراً عن مناداة بتجاوز القوانين، ولا هو تصريحاً بانتهاكها ، لكنه دعوة بضرورة مراعاة لوجود الاستثناءات لأهميتها، فقد نادت بها رسالات السماء مسبقاً في كتبها كما نادى بها الأنبياء في منهاجهم .
وأغلب القيادات الناجحة هي التي تتعامل مع الأمور على أساس متوازن يتمثل في كلا الجانبين الإنساني والنظامي معاً، هؤلاء يحظون بحب ودعم وامتيازات عدة لأنهم يعرفون أن الحياة في مجملها تعني الجانبين النفسي والعقلي معاً ، فالعقل هو الذي يلاحظ الأمور ويزنها وفق ما يتناسب مع نفسيات الجميع باختلاف طبقاتهم وتباين أفكارهم .
ويفترض بكل قيادة ناجحة أن توازن ما بين النظام القانوني والنسق الإنساني، إذ للبشر طبائع وللقوانين حرفية قد تؤذي هذه الطبائع بدل أن تقومها إن لم تركز على هذا التمازج البنائي، وإذاً لابد من مرونة في التعامل معها، والمرونة في مجملها لا تعني الانفلات وإنما مرعات التدرجات والحالات المختلفة بكافة أشكالها ، ولطالما كان الهدف العام مفهوماً وواضحاً يمكن الوصول لتسوية ما تتحقق من خلاله المرونة المطلوبة للجميع .