جدلية المثقف والفقيه.. أين هي الأزمة؟!

حين نتساءل بطريقة لغة الفقهاء ونحن نتحدث عنهم, ما هو محل النزاع في جدلية العلاقة بين المثقف والفقيه, أو بطريقة لغة المثقفين ونحن نتحدث عنهم كذلك, ما هو جوهر الإشكالية في جدلية هذه العلاقة؟

عند النظر المعرفي والموضوعي لمحل النزاع, أو لجوهر الإشكالية في هذه الجدلية, فإن هذا النظر يحيل إلى إطار مزدوج له علاقة بالمثقف من جهة, وله علاقة بالفقيه من جهة أخرى, بحيث لا يمكن أن نحمل المثقف بمفرده تبعة التأزم في هذه الإشكالية, كما لا يمكن أن نحمل الفقيه بمفرده تبعة التأزم في هذه الإشكالية أيضاً.

ومن الممكن القول, إن منشأ هذا التأزم يرجع إلى طبيعة تكوين المثقف, وإلى الصورة التي ينظر من خلالها إلى ذاته, كما ترجع أيضاً إلى طبيعة تكوين الفقيه, وإلى الصورة التي ينظر من خلالها إلى ذاته. وهذا يعني أن التأزم يرجع من جهة إلى طبيعة التكوين, ومن جهة أخرى إلى طبيعة الصورة إلى الذات.

فمن جهة المثقف, فإن التأزم في طبيعة التكوين يرجع إلى نمط الارتباط المرجعي بالثقافة الأوروبية, التي اعتبرت أن المثقف ينتمي إلى ما هو إنساني, ولا ينتمي إلى ما هو ديني, وبسبب هذه الفكرة تفككت علاقة المثقف بالدين, ولم يعد معنياً بالمعرفة الدينية, لكون أن المثقف الحقيقي كما حاول إدوارد سعيد الانتصار له في كتابه البليغ «صور المثقف», هو كائن علماني بالضرورة, ولا يمكن أن يكون إلا علمانياً.

هذا هو نموذج تكوين المثقف الأوروبي في داخل الثقافة الأوروبية, وهو النموذج الذي تعمم في المجتمعات العربية والإسلامية, حيث حاول المثقف في هذه المجتمعات تمثله والتطابق معه, واقتفاء أثره على مستوى المعرفة والسلوك, والارتباط به مرجعياً بوعي وإدراك, أو بدون وعي وإدراك. وهذا ما يفسر الرأي الذي ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه: «المثقفون في الحضارة العربية», حين اخرج مفهوم المثقف عن دائرة الانتماء إلى الفضاء الثقافي العربي, وعن الارتباط بالمرجعية الثقافية الإسلامية, واعتبره مفهوماً غريباً لا ينشد إلا إلى مرجعيته الأوروبية.

وقد جاء هذا الكلام في سياق نقد قاس للغاية وجهه الدكتور الجابري للمثقف, وذلك بقوله: «لقد لاحظنا أن مفهوم المثقف مفهوم ضبابي في الخطاب العربي المعاصر, على رغم رواجه الواسع, إذ هو لا يشير إلى شيء محدد, ولا يحيل إلى نموذج معين, ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة, وذلك لأنه بقي على الرغم من استعماله الواسع يفتقد إلى البيئة الصحيحة داخل الثقافة العربية الإسلامية».

هذا من جهة البناء والتكوين, أما من جهة الصورة, فقد حاول المثقف أن يضفي على نفسه هالة وصورة بطولية وساحرة, وظل يبالغ في التباهي بهذه الصورة وتلميعها وتبجيلها, معتبراً حاله أنه جاء معبراً عن ولادة شخصية جديدة وبديلة عن الأنماط السائدة اجتماعياً, وأنه المتفرد بذكائه, وحامل مشعل التقدم, والمتحدث عن الأفكار الجديدة والمعارف الحديثة, والمجسد لنهج العقلانية والتنوير, ونقطة الوصل بعالم الحداثة, وبدونه لا يتحقق الإصلاح والتجديد في الأمة, إلى غير ذلك من أوصاف وسمات تغلب عليها شدة الإسراف والمبالغة, حتى قال البعض إن المثقف هو «النبي» الحديث.

وهي الصورة التي أخذت الأدبيات العربية المعاصرة لاحقاً الانقلاب عليها, وذلك حين تحول المثقف إلى أكبر ناقد لذاته, كما ظهر ذلك في كتاب علي حرب «نقد المثقف».