وجع من بلدي (1)
من فوائد الهاتف، انه يحجب رؤية من يتحدث!! فلا تكاد تميز قسمات وجه متحدثك خاصة اذ كانت شابة يحاصرها الخوف من كل مكان.
كان صوتها مرتجف وهي تتحدث معي بلوعة توازي العنف الذي تعرضت له "لا يمكن ان تتصوري ما حدث؟ لن تستطيعي ان تنظري الى جسدها المتورم؟ يستحيل ان تتوقعي حصول ذلك".
(سين)، فتاة في الصف السادس الاعدادي تتهيأ كنظيراتها للدخول الى امتحان البكالوريا، ولانها مقبلة على الجامعة وتشجيعا من والدتها على المثابرة على القراءة ايام الامتحانات اشترت لها جهازا نقالا ستكون بحاجة اليه في الايام المقبلة عند دخولها الجامعة خاصة ان بيتهم في احدى الاقضية التابعة لمحافظة بابل مما قد يساعد الام على الاطمئنان عليها كلما ذهبت ابنتها الى مركز المحافظة وذلك حق طبيعي لكل ام.
الابن الاكبر الحامل لشهادة الدكتوراه والاستاذ الجامعي ثارت ثائرته لهذه الجريمة الخطيرة (ولا احد يدري لماذا)، وارعد وازبد فما كان من الام التي يحاصرها الرعب الا ان اخذت الجهاز الخطير من ابنتها وهي تعلن بانها ستعيده في اقرب فرصة بل قبل ان يرتد طرف ابنها، فما كان من الاستاذ الدكتور الا ان ينهال ضربا على والدته ليتركها جثة متورمة زرقاء!!
ثم يعلن في بيان عسكري بان لا حق لاخته في الدخول الى الجامعة، وامرها بالكف عن الدراسة وعدم الذهاب الى الامتحان!!
اعود الى جهازي النقال المسكين الذي اخذ يهتز حزنا لا خوفا وهو يستقبل صوتها الحزين "اكتبي عن ذلك، واصرخي نيابة عنا، فلا صوت لنا كي نطالب بحقنا... بل لا يوجد صوت لنا لنندب حظنا".
ضغطت على ذلك الزر الصغير الذي ينهي المكالمات، واذ باصبعي يضغط على قلبي لينفجر رفضا وغضبا فتطايرت شظاياه لتخدشني أنا.
عن ماذا اكتب يا صغيرتي؟
عن حلمك في اكمال دراستك ودخولك الجامعة رغم كل ما يحيط بك من قهر وخوف ومصادرة لحقوقك كأنسان وكأنثى؟!
عن حلم المرأة في بلدي بان ينظر اليها كأنسان ويعطى حقها الذي وهبته السماء لها قبل ان تهبه القوانين الوضعية في التعليم والحرية والحياة الكريمة؟!
عن ماذا اكتب يا صغيرتي في زمن التفخيخ الذي يحاصرنا من كل مكان، ليس تفخيخ الارهاب، بل تفخيخ الامل في نفوسنا كلما حاولنا ان نوجده؟
هل اكتب عن جسد امك المتورم كضريبة لانها فكرت في ابنتها، ذلك الجسد الذي فخخه ولدها الدكتور الذي عجز كل العلم الذي تلقاه في حياته عن الغاء القبلية الجاهلية الكامنة في ذاته؟
ها انا اكتب وفاءً مني لتلك الصغيرة الجميلة التي ناضلت حتى تصل الى الجنة، فاذا ببابها يغلق على بضع خطوات منها...
اكتب ليسمع الجميع، مسؤولون... ناشطون... علماء دين... مثقفون ... منظمات... بشر...، واسمعوا اخر عبارة استقبلها جهازي "اكتبي لعل الاخرون يتعظون، سانزوي انا الى ركن مظلم ولكني لا اريد للاخريات هذا المصير... انقذوا احلامنا، دعوها ترى النور".
يا ترى لماذا نعيب على زمن غابر كان يأد الفتاة، وفي كل يوم توأد مئات الفتيات فينا ونحن نتشدق بالديمقراطية والحرية والتقدم؟
يا ترى كم فتاة وأدت امامكم او سمعتم بها او لعلكم شاركتم في وأدها؟
ما أعجبنا، امة المقابر الجماعية بكل أنواعها!!