من وحي التفكر: سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام ... سيرة رسالية خالدة
- مدخل:
داخل أوساط التقدميين الإسلاميين المهتمين بالعمل الإسلامي تمثل سيرة المعصومة المظلومة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كنزا من الكنوز العظيمة للمنهج الحركي الإسلامي، رغم أنها-سيرة الزهراء عليها السلام- قصيرة بالنظر إلى سير أهل البيت عليهم السلام وتكاد تكون غير معروفة خارج نطاق الشيعة الإمامية. حتى بلغ السفه أن يصفها المتنطعون أنها خصوصية شيعية. دون أي احترام للمكناة بأم أبيها عليهما الصلاة و السلام، و ذلك ما نلحظه من ضآلة اهتمام العامة بسيرتها وكلماتها عليها السلام في مشروع التجديد الثقافي الحضاري للمسلمين !
إلا أن التطور الإعلامي بالوطن العربي و العالم الإسلامي من خلال وسائل الإعلام الحديثة و التحديات الراهنة التي تشهدها الأمة الإسلامية، كلها غيرت جوهرياً النظرة الجزئية التي غلبت على القرون الماضية و التي تميزت بالتمويه الإعلامي والانفعالات الضيقة التي همشت سير الأطهار عليهم السلام، فبينما كان نشاط الحقد الناصبي يزيد ديناميكية في تغليف الحقائق التاريخية بالكذب و التحريف والتضليل، كان المخلصون للحقيقة الإسلامية صامدون في الطريق الإسلامية بتناول المخططات الفتنوية بالتحليل والفضح و تصحيح المفاهيم الخاطئة...
هناك انطلق العقل الإيماني من التصور الفلسفي الدقيق لسير الأطهار عليهم السلام وامتد ليقدم صورة نقدية تصحيحية و قراءة تجديدية للمسلم حول دور أهل البيت عليهم السلام في النهوض الحضاري و التوازن الاجتماعي في ظل التعدديات الجهوية داخل المجتمع الإسلامي.
- نحو قراءة إستراتيجية لسيرة السيدة فاطمة الزهراء :
لعل الهدف الصريح من القراءة الواعية لسير أهل البيت عليهم الصلاة و السلام هو القيام بحوار علمي إنساني مع القمة الإسلامية، و رأس القمة الإسلامية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الذي أولى عنايته الخاصة بمولاتنا و أمنا و سيدة نساء العالمين الزهراء عليها السلام دون غيرها من النساء ومما ورد عنه صلى الله عليه و آله و سلم في صحاح المسلمين «فاطمة بضعةٌ مِنّي من أغضَبها فقد أغضَبني» و «إنّما ابنتي بضعةٌ مني يُريبني ما رابَها، ويؤذيني ما آذاها» «إنّما ابنتي بضعةٌ منّي يؤذيني ما آذاها» وهي عليها الصلاة و السلام من عرفناها بأم أبيها، كما شهدت أم المؤمنين عائشة حيث روى ابن عبد البر في استيعابه عنها أنها قالت: «ما رأيتُ أحداً كان أشبهَ كلاماً وسَمْتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخَلتْ عليه قامَ إليها فأخذَ بيدِها فقبّلها وأجلَسها في مجلِسه، وكانت إذا دخَل عليها قامتْ إليه فأخذَت بيدِه فقبّلتها وأجلَسته في مجلسها».
هذه الأحاديث و غيرها مما يخص السيدة الزهراء عليها الصلاة و السلام هي موضوعات تمس بشكل مباشر أو غير مباشر حلول مشاكل الحياة الإسلامية في الزمن الحاضر. لأن الحديث عن السيدة الزهراء عليها السلام و علاقتها بالنبي الأكرم هو نظرية إسلامية عظيمة لأنها تختزن علاقة روحية و قضية مصيرية، فالزهراء عليها السلام ليست كابنتي شعيب على نبينا وآله وعليه الصلاة و السلام أو بنات لوط على نبينا و آله و عليه الصلاة و السلام، الزهراء خصوصية إنسانية إيمانية فمحوريتها في الخريطة الإسلامية تتصل أساسا بيوم صدع النبي الأكرم بأمر الرسالة بعد وفاة الناصرين(السيدة خديجة وأبو طالب عليهما السلام)، وهذا يجعلنا ندقق في استقراء سيرتها القصيرة زمنيا لكنها المصيرية استراتيجيا،و يتحدد ذلك سواء في وصفنا لسيرتها بمواقفنا العنيدة التي تصر على تضييق السيرة بعيدا عن الحكمة الفاطمية التي علمتها لولدها الإمام المجتبى
" الجار ثم الدار" و هي عليها السلام التي ترشدنا من خلال تعليم و ترشيد أولادها عليهم السلام من أجل توسيع الأفق الثقافي الإسلامي في الحياة الإنسانية، و أن لا تعقدنا العقبات بأن نشوه المبادئ الإسلامية السمحة...
أو في معالجتها للتمرد بعد وفاة النبي الأكرم و وقوفها لجانب بعلها إمام المتقين عليهما الصلاة و السلام. سواء باعتراكها بالموقف الإسلامي الرسالي مع الجمهور بالمدينة المنورة، أو بجدالها القرآني النبوي المتزن و الحكيم مع الشيخين في بيتها. إنها مشاهد رسالية ذات إمكانات إيمانية خلال فترة إسلامية عصيبة بدأتها السيدة الزهراء عليها الصلاة و السلام بالوصف الدقيق لتفاصيل الواقع الإسلامي بعد انتقال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله للرفيق الأعلى وامتدت لتصل حتى الرمزية و الشرعية في موقعيتها عليها السلام و بعلها و بنيها و السر المستودع فيها ضمن البناء الإسلامي ككل. هذه هي رسالية الزهراء عليها السلام التي صرخت بروحها و ذرفت دموعها و صدعت بعلوم أبيها لتقود الجمهور إلى درجة أرقى من اليقظة الذهنية ومن الرؤية السياسية، ابتعدت بأنوثتها الإيمانية بشكل واضح عن التأثيرات التي تصيب المرأة بالحياء البليد و الصمت الأحمق وتدغدغ أحاسيسها، لقد وقفت بوعي في مواجهة الموجات الانقلابية في زمنها و ثبتت على العهد الإسلامي مع أهل بيتها و أرسلت حزنها و وجدها و صوتها عبر الزمن الإسلامي لتثبت للمرأة و الرجل أن الإنسان قيمته فيما يحسنه من إخلاص للحق و العدل و الحياة الكريمة و طلب رضا الله.
رحلت الزهراء ، لكن مواقف الزهراء عليها الصلاة و السلام لا تزال تنكد عيش العابسين في وجه الحق ، فكلمات الزهراء و مواقفها و دموعها و وفاتها لا تزال محل السؤال التاريخي المركزي الذي يقدم لباحث التاريخ نورا كاشفا للكتابة التاريخية و للإجتماعي نظرية للتغيير فوق الزمن و المجتمع كما السيكولوجي يستوعب أن العلاقة الروحية في واقع النفس البشرية ذات طاقة رهيبة بالنسبة للمادية و الغرائز الفطرية، كما عالم اللسانيات و أهل البلاغة و علماء السياسة و أهل الاقتصاد و الحقوق و وو... كلهم لا مناص لهم من دراسة سيرة الزهراء بكل مفرداتها و أبعادها لاكتساب صحة إنسانية و ثقافة كونية و رحابة روحية إنتهاءا إلى إسلام أصيل ...وهذا حق اليقين بأن الزهراء مظلومة ليس لأنها ضعيفة –حشاها و هي العظيمة-و لكن لأنها تجعلك صريحا و ثوريا و إصلاحيا و مسلما لله و ناصرا للحق و لو على نفسك، لذلك يبقى الحزن على الزهراء حزنا ملؤه الوعي و التقوى و الصدق والإصلاح و الحركة الرسالية الحكيمة...
حقا لقد بكت الزهراء لكنها لم تبك كبكاء هند، لقد بكت بكاءا للتاريخ الإسلامي كله، كما لم تبك على النبي الأكرم لأنه رحل عن الدنيا، و هي العالمة بأنها أولهم لحوقا به صلى الله عليه و آله و سلم ، لقد بكت من أجلنا أيها المسلمون لقد بكت للمستضعفين و الدليل على ذلك الجار ثم الدار، كانت روحها مليئة بالرسالة و الرسالية، كانت حقا و عدلا و صدقا سيدة نساء العالمين فعرفت الإنسانية معنى أمومة النبوة و لو إيحاءا لكنها أم للصادقين الثائرين على الظلم و الجمود و التخلف و التعصب ...
- اكتشاف بعض حقيقة الزهراء :
يمكن الوصول لومضة من ومضات حقيقة الزهراء عليها الصلاة و السلام اعتمادا على الاكتشافات المستمرة الأكثر عمقاً للسيرة الفاطمية العطرة، و عندما نقول سيرتها نعني حياتها و علاقاتها مع أمها و أبيها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وبعلها أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام و بنيها عليهم السلام و مجتمعها، بالإضافة لكلماتها و مواقفها ، مع التركيز على محوريتها في بناء ذات المرأة المؤمنة في مجتمعاتنا الإسلامية...كل هذا أكد عليه بالمختصر المفيد العلامة الشيخ حسن الصفار حفظه الله و رعاه بقوله: "فعل الزهراء حجة شرعية" و الرائد في تفعيل هذا التفاعل مع السيرة الفاطمية الإمام المجدد رضوان الله عليه حيث أصدر عدة مجلدات بعنوان: فقه الزهراء عليها الصلاة و السلام، وهذا النتاج الفقهي الإجتهادي المعاصر للإمام المجدد رضوان الله عليه استنادا لكلمات مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء و خطب العلامة المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله دام ظله "الزهراء القدوة"، إن دل على شيء فإنه يرشد أساسا أن السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين و قائدة في المسيرة الإسلامية عبر الزمن الإسلامي كله بعلمها و حياتها المليئة بالتقوى و الإيمان و الجهاد و الصبر و الإحسان...
في رحاب الزهراء نقطة البداية هي اكتشاف الذات و عاطفتها-ذاتك- الإيمانية، وكما يصف الشيخ حسن الصفار حفظه الله و رعاه دائما، دور أهل البيت عليهم السلام و سيرهم في بلورة الوعي الإسلامي الكبير و الفسيح و تحريك الشعور الإسلامي الإيماني تمثل سيرة السيدة الزهراء محطة هامة ومهمة في تطور الشخصية الإسلامية، لأنك -أخي المسلم و أختي المسلمة- تجد نفسك تتعرف على الثقافة الإسلامية الرائعة، وتكتسب إبداعا ولائيا عنده أهمية خاصة، وتكتشف قبل كل شيء أن المرأة مكرمة و معززة في الإسلام ليس بالمظهر و لكن بالروح الخفاقة في ميادين الدعوة إلى الحق و مناصرة أهله و الذود على قلاع الإسلام و مواجهة التحديات و بعث الوعي في صفوف جماهير المسلمين، وكان ذلك أمراً فاصلاً في حياتها استحقت عليه تاج السيادة على نساء العالمين...
لقد أدركت في سنوات مضت، أثناء دراستي لتفاصيل التاريخ الإسلامي أن المسلمين لم يكتشفوا ولو النزر اليسير من حقيقة السيدة فاطمة الزهراء -كما كل أهل البيت عليهم السلام بالمستوى المطلوب- حتى هذا الحين و المرأة المسلمة لم تعرف مشكلاتها الرئيسية الحياتية...
من خلال اكتشاف الدقة الإيمانية و الهندسة الرسالية في الحياة الفاطمية التي تحوى بداخلها نظريات وبصائر متعددة تدرك بيقين و ليس بهيام أن سيدتنا الصديقة فاطمة الزهراء أمة ،حقا وعدلا كان بعلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام و كانت زوجته صدقا و عدلا عليهما السلام كما كانت الأم المنطقية للسبطين و الحوراء عليهم السلام، و حالها أنها الثمرة الطيبة لأول زواج إسلامي بين خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم والسيدة خديجة الكبرى .إنها كيان إنساني إسلامي خالد يمكن النفاذ إلى رحابه وكشف أسراره إذا قررت –أخي المسلم-اقتحام سبيل الكمالات الإسلامية.
- كيف يتسنى اكتشاف بعض حقيقة الصديقة الطاهرة ؟
يتسنى ذلك بتصحيح بناء ذاتك الإسلامية و مراجعة ثقافتك الإسلامية والقيام بتحليلها…هذا كله لإستثارة وعيك الإسلامي. بعد كل هذا القرب من الصفاء والطهر والرحابة والمحبة والرحمة و الصدق، قد يبدو الأمر تقريباً غير مفهوم... !
فالصديقة الطاهرة سر عظيم من الناحية الولائية، لا يفهمه الفاشل روحيا، ولا يتوافق معه من تعود على الراحة والتبعية...
قبل الختام و في السياق ذاته، لابد أن نطل قليلاً على وسام السيدة فاطمة الزهراء لإبراز الثقافة الروحية اللازمة لاستحقاق القرب من نور الزهراء ، إنه تسبيح الزهراء الذي خلده الإسلام لنتذكّر معه متاعب الزهراء ، ونتذكر معه أنّ الزهراء ابتعدت عن متاعبها من خلال تكبير الله وتحميده وتسبيحه، لنعرف كيف هو العيش مع الله، وكيف هو ذكر الله عندما يعيش الإنسان آلامه..
بالمختصر المفيد أرادت سيدتنا الطاهرة ، قبل أن ترحل عن دنيا الناس أن تستثير بإسلامها المنير، المسلم و المسلمة خاصة وحثهما أن ينشطا إسلاميا، وخاصة المرأة التي اكتسبت العلم والمعرفة و التقوى الإسلامية. أرادت أن تنقل للمسلمين عبر الزمن الإسلامي كله أن الحياة الكريمة ينبغى أن تنطلق من موقف صدق و حق صامد لتمثل أهداف الإسلام الحقيقية.
و دعت بخطبها الخالدة لإحداث توازن في المجتمع الإسلامي وإعادة النظر في المفاهيم الخاطئة والقيم الغائبة أو المشوهة أو الملغاة، والبحث عن الطريق الأنسب للتغيير و الإصلاح. فرغم انشغال الصديقة بقضايا الأمة على كل المستويات، لم تنشغل أبداً عن ذكر الله تعالى،و عن أهلها فجسدت رساليتها الإسلامية أعظم و أجمل تجسيد...
وهكذا عندما نلتقي بهذه الإنسانة العظيمة حبيبة رسول الله و وردة قلب إمام المتقين و نور الإسلام و صديقته، هذه الأم العظيمة و المرأة الكريمة و الزوجة المخلصة، فإنَّنا نطلُّ على الإسلام الرحيب الفسيح الذي عاشته بكلها ، فملأت الواقع الإسلامي صفاءا وطهرا و رسالية و علما و مواقفا خالدة بما أفاضت عليه من روحها الطاهرة بما انفتحت عليه من سموّ الروح، فانطلقت بحركتها لتعطي الإنسان منهجيّة الإتجاه نحو الحياة الكريمة. فالسلام عليها يوم ولدت و يوم لحقت بأبيها صلى الله عليه و آله و سلم و يوم تبعث عليها الصلاة و السلام لتكون شفيعة لأحبائها و المخلصين لها بإذن الله تبارك و تعالى ...
و الحمد لله رب العالمين ..