الإنسان بين ثقافة الفاسد والصالح وثقافة الفاسد والأفسد
أغلب الأوقات عندما اتأمل وضعنا الإجتماعي في موضوعه الخاص ( الأسرة ) وفي موضوعه العام( المجتمع) أجد أن ( فن الممكن ) في التعامل السياسي هو التعامل الصحيح في إدارة حياتنا التي تختزن المصالح والمفاسد .
ففي رأيي هناك طريقتان في تعاملنا السياسي البسيط مع قضايانا الخاصة (الأسرية) ومسائلنا العامة (الإجتماعية) :
الطريقة الأولى: تقوم على أرضية ثقافة ما ينبغي أن نختاره في خياراتنا ، بحيث يكون الأمر الذي ينبغي أن نختاره هو الخيار الصالح في واقعه وحقيقته، فلا يصح في هذه الطريقة إختيار الخيارات غير الصالحة أو التي يمكن أن تكون فيها بعض الأمور غير الصالحة.
الطريقة الثانية: تقوم على أرضية ثقافة كون ما ينبغي أن نختاره هو الأصلح والأهم، وإن لم يكن في حقيقته وواقعه هو الصالح. و للواقع في هذه الطريقة بما يختزنه من زمان ومكان دور في تحديد ما هو الأصلح وما هو الأهم ، فقد يكون الأصلح في ظرف مكاني وزماني أمر، وفي ظرف آخر أمر يختلف عما تم إختياره الظرف الأول.
ومن من المناسب أن نذكر قاعدة فقهية لها تطبيقات عدة في مجالات كثيرة فقهية وإجتماعية أو سياسية واقتصادية وغيرها، ومن ثم نحاول تطبيق الطريقتين على القاعدة الفقهية.
القاعدة الفقهية تقول: ( أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة)
والمفسدة هنا ليس المقصود منها ما تكون في ذاتها فاسدة فقط، بل يمكن أن تكون في ذاتها صالحة إلا أنها في مقابل ما هو أصلح تكون فاسدة.
وحتى يتضح الأمر أكثر نضرب مثالين اجتماعيين على سبيل التمثيل لا الحصر أحدهما في نطاقه الضيق(الآسرة) والآخر في نطاقه العام (المجتمع)؛ لنرى كيف يمكن التعامل مع هاتين الحالتين أو الظاهرتين.
المثال الأول: أغلبنا يلاحظ أن هناك مفارقة سلوكية وأخلاقية بين بعض الأبناء وبين آبائهم و أسرهم، فبعض الأبناء يكون سلوكهم طائشا أو منحرفا عن قيم الدين وعادات المجتمع ، بيد أن سلوك وأخلاق الأب أو بصفة عامة العائلة تتصف بالسلوك الرزين والسوي طابعه التدين وحسن الأخلاق في تعاملاتهم الأسرية والإجتماعية.والمجتمع بصفة عامة عندما يجد هكذا نموذج في المجتمع يلقي بالآئمة على تربية الأب والعائلة، والأب بدوره في مقابل هذا اللوم والعتاب الإجتماعي في تحميله المسؤولية الكبيرة يتعامل مع ابنه بأحد الطريقتين السابقتين:
إما أن يتعامل مع ابنه بالحزم والشدة لأن سلوك ابنه مخالف لسلوك أسرته وسلوك المجتمع ، وفي الغالب ينتج من المعاملة الحازمة كما نرى ونلاحظ في الواقع هروب الابن من المنزل أوكره الابن الأب والعائلة ،ليقع بعد ذلك الابن في أحضان شلل فاسدة وأصدقاء منحرفين ليصبح أسوا مما كان يفعله ويمارسه في سلوكه وتعامله، بل في بعض الأحيان تكون خاتمة الحزم والشدة وهروب الابن من البيت السجن بسبب مسائل أخلاقية من سرقة، أو عراك أو لواط او زنا ـ والعياذ بالله ـ أو ما شابه ذلك.
وإما أن يتعامل الأب بطريقة أخرى وذلك من خلال محاولة إصلاح سلوك ابنه غير السوي إجتماعيا ودينيا بطريقة غير منفرة بحيث لا تلجئ الإبن بسبب الضغط والإلحاح الهرب من المنزل أو زيادة سوء السلوك، فيسكت الأب عن بعض السلوكيات الطائشة أو غير الصحيحة أو يكف عن المراقبة اللصيقة الظاهرة أو العتاب المستمر أو الإلحاح الزائد في تصرفات وسلوكيات وصداقات ابنه فيكتفي ببعض الإرشادات والتوجيهات والنصائح بين فترة وفترة، ليكسب ثقته وحبه شيئا فشيئا، لا لكون ما يسكت عنه أو يتغاضى عنه أمرا صائبا، بل لأن السكوت والتغاضي في وقت من الأوقات أفضل من الكلام أو التوجيه .
وفي رأيي أن ( ثقافة دفع الأفسد بالفاسد ) هي السبيل الوحيد الممكن لإصلاح سلوك وتعامل الأبناء ، وأما ( ثقافة إما أن يكون صالحا أو يعامل بالحزم والشدة ولو أدى إلى هروبه أو كرهه لأبيه) ثقافة غير صحيحة وغير مجدية في عملية الإصلاح ، لأنها تسبب مفاسد أكثر مما يراد إصلاحه.
المثال الثاني: نحن نعلم أن طلبة العلوم الدينية غير معصومين عن الزلل والخطأ، فقد تظهر (((عند بعض الناس))) من بعضهم مخالفات دينية أو سلوكية أو أخلاقية، فكيف يتعامل الإنسان المطلع على زلل وأخطاء العلماء وطلبة العلم ؟
البعض يرى ويرتئي أن إظهار هذه التجاوزات وإشاعة هذه المخالفات في المجتمع بعد المحاولة في عملية الإصلاح في الباطن هو السبيل الوحيد لردع المتجاوز والمخالف ، فالردع الإجتماعي بنظره مهم في عملية الإصلاح، سواء أكان المخالف طالب علم أو غيره.
بينما يرى قسم آخر أن محاولة إشاعة التجاوزات وإظهار المخالفات بعد محاولة الإصلاح في الباطن وإن كان رادعا إجتماعيا مهما في عملية الإصلاح، إلا أن هناك محاذير كبيرة قد تكون مساوئها أكثر بكثير مما يراد منه إصلاح الفرد المخالف والمتجاوز.
وفي رأيي أن دفع الأفسد بالفاسد أولى بالحل في هذه الصورة، فمجرد كون العالم وطالب العلم عنده بعض التجاوزات الدينية والأخلاقية لا يقتضي إشاعة التجاوزات والمخالفات، فقد تكون المحاذير الكبيرة والخطيرة إجتماعيا ودينيا، كانحراف كثير من عوام الناس بسبب انحراف هذا الطالب أو فقدان الثقة في العلماء وطلاب العلم أو إعطاء الأعداء مستمسكات ضد بعض الشيعة موانع أهم ومصالح أكبر من مقتضيات إيقاف المتجاوز والمخالف بالردع الإجتماعي ، وهذا لا يعني السكوت عن التجاوزات والمخالفات؛ فلا بد أن تكون هناك محاولات كبيرة وكثيرة في إصلاح التجاوزات في الباطن والسر، بل حتى عند فرض عدم القدرة على الإصلاح في الباطن لتنفذ طالب العلم أو العالم إجتماعيا واقتصاديا قد يكون الكف عن التصدي لإصلاح سلوك هذا الفرد أفضل من إشاعة مخالفاته ، فتأثير الأفراد وإن فرضنا كونه كبيرا وخطيرا في المجتمع إلا أن المحاذير في الإشاعة أكبر خطرا واشد فسادا من مخالفاتهم وتأثيرهم . فتجاوزاتهم الفردية لا تشكل في المجتمع ثقافة سلبية تؤثر في ثقافة و سلوك المجتمع على المدى البعيد ، لأن أخطائهم في الغالب يعرفها ويدركها اقرب المقربين لهم فضلا عمن يحاول إصلاحهم ،ولو لا المصالح المادية من مال و وجاهة إجتماعية للمقربين لهم لأنكر هؤلاء صراحة عليهم انحرافهم وتجاوزهم.
فالمسائل الإجتماعية والثقافية والسياسية بحسب الواقع لا الخيال لا تؤخذ دائما بثقافة إما أن يكون الوضع سليما وصحيحا 100% وإما أن يكون الواقع فاسدا 100% ، وبتعبير آخر ،حركة حياتنا في الواقع لا تسير دائما على ثقافة دفع الصالح بالطالح لنقول إما أن يكون إختيارنا في الواقع صحيحا 100% وإما أن يكون فاسدا 100% ،بل تسير الحياة في مفرداتها الضيقة والعامة في كثير من الأوقات بمبدأ ثقافة دفع الأفسد بالفاسد فنختار عندما نضطر أو نخير بين الفاسد والأفسد ما هو أقل ضررا واقل فسادا فنرجح الفاسد على الأفسد ونختاره على مضض لا لكونه في ذاته صحيحا بل لكونه هو الأرجح...
8/7/2007م