كشف الوجه بين الحكم الأولي والحكم الثانوي

الحديث عن كشف المرأة وجهها في مجتمعنا المحافظ يعتبر من الخطوط الحمراء التي يصعب على غالبية المجتمع بمكوناته الثقافية والإجتماعية ، وبعنصريه الرجل والمرأة تقبل البوح بها ثقافيا وتدينا، وإن كان الكثير من النساء من الناحية السلوكية برضا أهلهنا من الرجل يمارسن كشف الوجه، فهم يمارسون إزدواجية بين الفعل والقول فمن ناحية القول ينتقدون التصريح بكشف الوجه ومن ناحية الفعل يكشفون الوجه.

فالموضوع يعتبر من المسائل الحساسة التي يمكن أن يسقط الإنسان إجتماعيا بسببها في نظر المجتمع، خصوصا عندما يكون القائل ممن يفتقر لقاعدة جماهيرية تشكل له رصيدا في الدفاع عنه في حالة إرادة بعض فئات المجتمع إسقاطه إجتماعيا. ولهذا يمكن لبعض العلماء أن يطرحوا هذا الموضوع وهم غير قلقين من ردات الفعل الإجتماعي، بينما هناك من يكون قلقا في حالة طرح هذه المسائل وإن كان شجاعا في إثارتها وتسليط الضوء عليها في الجانب الثقافي و الإجتماعي.

وبادئ ذي بدء ما يهمنا في هذا الموضوع ليس الدعوة لكشف الوجه أو عدمها، لأن الواقع المتغير في زمانه ومكانه يفرض على العلماء والمثقفين وغيرهم التعامل معه كما هو لا كما يريدون أو يرغبون، فسواء قبلنا كشف الوجه أو لم نقبل به لن يتغير في الأمر شيئ، اللهم إلا السيطرة على المحيطين بنا بالشدة برهة من الوقت، ولنا في غير غطاء الوجه أمثلة كان الكثير من العلماء وغالبية المجتمع يعتبرها سابقا من المحظورات إجتماعيا ودينيا، ومع ذلك لم نستطع إيقاف التغير الواقعي للمجتمع ، ولعل النقاب ليس أول الأمثلة كما أن عباءة الكتف ليس آخرها..

  • إختلاف الحكم:

لا يخفى أن علماء الدين المراجع يختلفون في حكم كشف الوجه، فبعض المراجع يفتي بحسب إجتهاده بالوجوب أو الإحتياط الوجوبي بتغطية الوجه مطلقا سواء سبب كشف الوجه فسادا وفتنة وريبة أو لم يسبب فالوجه عنده بالحكم الواقعي الأولي يجب سترة عن الناظر الأجنبي المحترم كبقية أجزاء الجسم  التي يجب سترها ، بينما يذهب بعض العلماء لوجوب ستر الوجه بالحكم الواقعي الثانوي؛ بحيث يكون موضوع الحرمة في كشف الوجه عنده وجود فتنة وريبة أو فساد اجتماعي أو غير ذلك من العناوين التي تكون موضوعا للحكم الثانوي، فالوجه عند من يُجوز كشفه بالحكم الأولي يختلف عن بقية أجزاء الجسم التي يجب سترها عن الناظر الأجنبي المحترم  سواء أكان في كشفها فسادا أو لا، فالمسألة خلافية بين العلماء، والمكلف المقلد  ـ بالكسر ـ يرجع في الحكم لمن يقلده في هذه المسألة،فإن كان ستر الوجه واجبا عند مرجعه بالحكم الأولي فيجب عليه التقيد به سواء أكان في كشفه فسادا أو لم يكن ، وإن كان واجبا بالحكم الثانوي الطارئ عند وجود الفساد والريبة والفتنة فيجب عليه التقيد به في حال تحقق موضوعه.

  • إنقلاب الأحكام الثانوية:

وهذا هو جوهر موضوعنا ، فعندما تتغير موضوعات الأحكام التي تفرض تغير الحكم الواقعي الأولي إلى الحكم الواقعي الثانوي لا يعني أن يكون الحكم الثانوي حكما أوليا، والحكم الأولي حكما ثانويا كما يتجلى ذلك من خلال تعاملنا الرافض بالمساس موضوع الحكم الثانوي،لتكون محاولة تغيير موضوع الحكم الثانوي تعد أمرا محرما في نظر المجتمع. فالحكم الثانوي في الحقيقة ليس هو الأصل في الأحكام  الشرعية ليحرم المساس بموضوعه الطارئ، بل العكس هو الصحيح إذ الحكم الأولي هو الحكم الأساس والحكم الثانوي حكما عرضيا طارئا ،ويُفترض من الإنسان أن يحاول تغيير الواقع الطارئ ليكون موافقا للحكم الواقعي الأولي، بحيث لا يكون في تفكيره وعقله ومن خلال فعله الحكم الثانوي الذي اقتضته بعض الظروف هو الحكم الأولي والحكم الأولي حكما ثانويا يحرم العودة له.

نعم هناك إشكالية حقيقية أجد أنها صعبة في حركة تغيير واقع موضوع الحكم الطارئ للحكم الأولي دون أن تكون هناك مخالفات شرعية، فلا يخفى أن التغيير الإجتماعي في الواقع لا يكون إلا بالتغيير التدريجي ، فإذا كان  كشف الوجه  ـ وهو مثال لكثير من المسائل التي فيها حكم أولي معلق وفيها حكم ثانوي مطبق ـ يحرم بالحكم الثانوي لوجود مفاسد إجتماعية ،وفي نفس الوقت ينبغي أن يسعى الإنسان لتحكيم الأحكام الأولية الأصلية ـ إن صح التعبيرـ في الواقع، فهذا يعني أن الأفراد الذين يؤسسون للواقع الجديد الذي في حقيقته موضوعا للحكم الأولي سيقعون في المخالفة الشرعية للحكم الواقعي الثانوي (وهو حرمة كشف الوجه لوجود مفاسد ) حتى يتحقق موضوع الحكم الأولي في المجتمع( وهو عدم وجود مفاسد في كشف الوجه) ليغدوا كشف الوجه أمرا اعتياديا في المجتمع لا فساد فيه..

خلاصة القول أن الأمر المهم بالنسبة لي في هذا الموضوع هو الجهة الثقافية في طبيعة ا لنظرة الإجتماعية للحكم الأولي والحكم الثانوي الطارئ، بحيث لا يكون في نظر المجتمع الأحكام الأولية كالأحكام الثانوية والأحكام الثانوية أحكاما أولية أو كالأحكام الأولية. وأما من الجهة الإجتماعية والفقهية فالنسبة لي الأمر معقد  إذ في الوقت الذي ندعو فيه لتغيير الثقافة الإجتماعية في نظرتها للأحكام الثانوية ومضوعاتها بحيث يسعى المجتمع لتغيير موضوعات الأحكام الطارئة بعلاج أسبابها ومسبباتها الإجتماعية والدينية للعودة للموضوعات والأحكام الأساسية الأولية لأنها هي الصحيحة والمطلوبة في الشرع، فنحن أيضا ندعو للواقعية في تعاملنا مع المتغيرات الإجتماعية السريعة بمختلف أشكالها الإيجابية والسلبية، فكما أن المجتمع  يتغير نحو كشف الوجه  ـ بما أنه مثال موضوعنا ـ بسبب الإنفتاح الثقافي و الإجتماعي فكذلك يتغير في بدايته بظاهرة ردة الفعل المبالغ فيها  في السلوكية بحيث يكون طريق العودة لموضوع الحكم الأولي في الغالب يمتلئ بضحايا الفساد الناتج من أسباب كثيرة احدها كشف الوجه.