القراءة مشكلة من؟

 

 ظل الكتاب بتنوع أشكاله على مر الأزمان وتغير العصور ينبوعاً معطاءاً نستقي منه الفكر والثقافة والعلوم المختلفة، عبر الخوض بين كلماته وسطوره بالقراءة الجادة والمتمعنة في صفحات الكتاب للحصول على أدق المعلومات وأجلاها، فأصبحنا نمتلك رصيداً عمره بالقرون يمدنا بالتجارب والأفكار التي خاض في غمرتها القدامى خلال حقب زمنية متفاوتة. ومما يُؤسف له- حقا- في العالم العربي أن الكتاب في حاضرنا المعاصر لم يعد سوى تحفة تُزين بها المكتبات ويُملأ به الحيز الفارغ على صعيد المكتبات التجارية والمنزلية والمكتبات الأكاديمية المختصة بالبحث العلمي.
 
وقد استفاد الغرب من الكتاب بشكل كبير في مجالات البحث والتطوير الذاتي وزيادة معدل القراءة لدى الفرد، وأعدت المعاهد والمؤسسات المختصة في ذلك الشأن في كثير من الدول المتقدمة، ومما يُنقل أن الرئيس الأمريكي السابق جون كيندي التحق بإحدى معاهد تنمية القراءة من أجل رفع معدل قراءته من مائتين وأربع وثمانين كلمة لينجح في ذلك ويصل إلى ألف ومائتين كلمة!

ويعزو البعض مشكلة عزوف الكثير عن قراءة الكتاب إلى تقدم وسرعة تكاثر المصادر الثقافية والفكرية بأساليب أكثر تشويقاً وأيسر متناولاً وأسهل عرضاً من الكتاب، ويعد الغزو التليفزيوني الفضائي عاملاً كبيراً لجذب شريحة كبيرة من أبناء المجتمع المختلفة أعمارهم، فيمضي الواحد منهم جزءا كبيرا من وقته متنقلا بين الفضائيات ذات المزيج الثقافي المختلف فضلا عن اقتحام الشبكة العنكبوتية- الإنترنت-  المؤسسات التعليمية والتجارية وغرف النوم، لتقدم خدماتها طيلة الأربع وعشرين ساعة في ثوان معدودة.

فسهولة تناول المواضيع والمدعمة بأدق التفاصيل وآخر الإحصائيات وما يستجد في مجال البحوث العلمية مع توفر خدمة الشرح الآلي والدعم المباشر ساهم وبشكل ملفت للنظر في استقطاب المهتمين بالفكر والثقافة، واتجه البعض إلى التساؤل حول فائدة قراءة كتاب يضم بين دفتيه عشرات أو مئات الصفحات حول موضوع معين كان بالإمكان الحصول عليه وباختصار في صفحة واحدة أو صفحتين من خلال الموقع الإلكتروني!

وتسببت بعض المخطوطات الثقافية والسياسية في تنامي مشكلة العزوف عن القراءة، فالصحف بما تقدمه من مقالات مختصرة لا تتجاوز أسطراً وربما صفحات معدودة، كذلك الكتيبات الصغيرة وما تحمله من موضوعات قصيرة وبشكل مختصر غرست في القارئ قناعة بضرورة قراءة مثل تلك المقالات والكتيبات المختصرة عوضاً عن الكتب والمجلدات المفصلة،  مما حدا بالكُتاب للانجرار وراء ذلك النوع من الكتابات التي لم تلاقي رواجاً بين أوساط القراء أنفسهم.

وتزايد في الآونة الأخيرة الإقبال على الكتب التي تتحدث عن مهارات الاتصال وبناء العلاقات الاجتماعية فضلاً عن الكتب المتعلقة بالنجاح وأساليبه لما تحمله من تجارب شخصية في مختلف ميادين الحياة وما تسوقه من خطوات عملية مبسطة ، وقد أقبل المهتمون على قراءتها لشعورهم بالحاجة لمثل تلك التجارب التي تساعد على تخطي العقبات المشتركة في حياة الواقع. وللأسف الشديد فقد أسهم بعض الباحثون والكتاب في ذات المجال  في تراجع أولئك الناس عن قراءة الكتاب ذات العمق الفكري، حيث توجه بعض المختصين في علم النفس والاجتماع وبعض طلاب العلوم الدينية للخوض في مجالات النجاح وتأمل تجارب الآخرين، كما اتجهت مجموعة منهم لعرض السيرة والقصص من خلال الوسائل البصرية المسموعة والمرئية وقد لاقى هذا النوع من الأشرطة رواجاً واستحساناً عند الكثيرين على حساب الكتاب.

كل تلك العوامل والمتغيرات فرضت نفسها على الواقع الثقافي والوعي الفكري لدى شريحة واسعة من المثقفين متسببة في نضوب بعض الروافد الهامة التي كانت البناء الأول لشخصية الأمة وولادة روافد أخرى علها تعيد العطاء والفكر بقالب جديد في خضم الانفتاح على العالمية الجديدة.