الطب النبوي (بين الإعجاز الحقيقي و الإعجاز المفتعل)
عندما تسموا مكانة أمة من الأمم ، أو امرئ من البشر ، و تزداد أعداد محبيه و مريديه ، و تخفت أصوات حاسديه ، فلا غرابة عندها أن يصنع الناس له من أحلامهم تماثيل ، و من آمالهم كرامات ، و أن يحيلوا التراب تحت قدميه ذهبا. كل ذلك تقربا له و إشباعا لرغبتهم في إعلائه ، لشعورهم أنه جزء منهم لا يمكن أن يبتر عن ذواتهم و أرواحهم ، و أن مدحه و إعلاءه هو مدح لأنفسهم و إعلاء لها.
من أجل هذا قالوا 'إذا أقبلت الدنيا على امرئ أعارته محاسن غيره ، و إذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه'. و في هذا يتساوى القادة و العظماء و المصلحون و الزعماء و الصالحون و الأنبياء و المرسلون. فكم ألبس الناس من أحبوه من تيجان ، و كم جلبوا له من أساور و جواهر لم يمسها جسده يوما من الأيام. كل هذا تعصبا و ترفعا و تعظيما و تفخيما و غرورا و جهلا. خصوصا عندما يكون ذلك العظيم قائدا روحيا و زعيما دينيا مرتبطا بالسماء.
من أجل هذا ادعت النصارى أن المسيح ابن الله. وقالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه. و قالت الآباء و الأجداد أن بعض شيوخنا الصالحين كانت تطير لهم أحذيتهم. و زعم بعض أنصار الإرهاب أن روائح المسك أو الجنان تفوح من أجساد قتلاهم أو أنها لا تتعفن و لا تتحلل.
ومن أجل هذا ، يجب أن نرفض الدجل و المدح الكاذب. حتى عندما يلصق بأنبيائنا . لأنهم ليسوا بحاجة لذلك المدح الزائف. و هم أغنى الناس عن الأكاذيب و التخرصات. و النقص كل النقص أن نمدحهم بما لم يرد في حقهم ، و ما لم يخبرونا هم به عن أنفسهم. أو أن نمدحهم بما تم تلفيقه و تزييفه عبر العصور ، أو إدعاؤه جهلا و غفلة. و إن من المعلوم أن نبينا أخبر أنه غير قادر على أن يأتي بآية أو معجزة ، إلا أن يشاء الله سبحانه. والله تعالى يقول: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، سورة الأعراف آية (203).
إنني أقف هنا لأتساءل: هل حقا كل ما نسب لرسولنا المصطفى من معجزات و كرامات ، حقيقة لا يصح التشكيك فيها ؟ ، أم أن بعض الدعايات قد تمت بالتأكيد عبر القرون؟ و تم اختراع بعض المعجزات ، أو تضخيمها و تزييفها عبر الزمن ، لأسباب متعددة؟
و لا شك أن التزييف وارد هنا ، و أن ذلك ليس محل خلاف. فإذا جاز أن يكون هذا التزييف و التضخيم واقعا بالفعل ، فما مقدار ما حصل من تزييف و تشويه في القضية المتعلقة (بالطب النبوي) تحديدا إذا؟. فهل هناك حقا شيء اسمه (طبٌ نبوي) ؟. أم أن ما ورد عنه عليه الصلاة و السلام ، كان مجرد تعاطي مع معطيات عصره ، بما يتلاءم مع تلك المعطيات ، دون زيادة أو نقص؟. كما تم تعاطيه مثلا مع مركوبات ذلك العصر ، لا مركوبات غيره من العصور ، بل و مركوبات مصره و ما جاوره ، لا مركوبات ما نأى من الأمصار. فلم يكن مدحه حينها للخيل مقابلا بالتأكيد لاختراع الطائرة أو السيارة ، إذ لم تكن مهمة الأنبياء أن يخترعوا السيارات ، و لا أن يركبوا الطائرات. بل ركبوا الخيل و البغال و الحمير ، و جاء مدحهم لها تحديدا ، لا لغيرها من المخترعات. لأن دورهم العظيم أسمى و أعظم من ذلك كله ، و قد تجسد هذا الدور في محاربة الشر القابع في نفس الإنسان ، و معالجة السلوك الخاطيء ، و منابعه الأصيلة في النفس البشرية. و لأنهم كانوا يتعاملون مع المعطيات المادية و الزمانية و المكانية و اللحظية لعصورهم ، إلا ما خرج عن ذلك بدليل نصي قطعي صريح و واضح ، فلم يكونوا ليتجاوزوا مكونات عصورهم أو ليقفزوا عليها. لأن الله لم يكلفهم مهمة إصلاح الآلات و لا اختراعها ، بل كلفهم بما هو أعظم و أسمى ، ألا و هو علاج السلوك غير السوي للبشر. و ربما لو دققنا التاريخ بحثا عن عبارة 'الطب النبوي' قد لا نجد ورودا لها في الروايات و الأحاديث الشريفة. أقصد أن هذا المصطلح بعيدا حتى عن معناه الحقيقي إن صح ، ربما لم يرد في حديث واحد على الأقل ، بل ربما جاء في الإضافات و الشروحات الإسلامية اللاحقة ، مما قد يدلل على فعل التضخيم و التزييف المفتعل ، لأسباب قد لا يعلمها إلا الله سبحانه ، وقد يكون لمصالح بعض البشر دخل في افتعال ذلك و تلفيقه.
من أجل هذا ألا يصح القول أن التعاطي ببعض التوجيهات النبوية الصحية ، قد جاء أقلا بنفس طريقة التعاطي اللحظي مع مكونات الزمان و المكان في قضايا أخرى. و أن ما ورد إن صح وروده فعلا ، لم يكن أقلا شيءً من حديث المعجزات ، ولا توجيها سماويا ، و لا تجاوزا إلهيا لحدود الزمان و المكان؟.
و من أجل أن تتضح الصورة الحقيقية أكثر ، أسوق هنا بعض الملاحظات الهامة حول ما يسمى (بالطب النبوي). وهي ملاحظات جديرة بالتأمل و الاهتمام ، و قد تكشف شيءً من طبيعة التعامل الخاطيء مع ذلك التراث المنسوب إلى النبي ، و تلك الملاحظات هي ما يلي:
1- اتسام الأحاديث المروية في هذا المجال غالبا بالتعميم في التعامل مع الأعراض المرضية ، و البعد كل البعد عن التشخيص.
2- عدم تحديد مقادير للجرعات الدوائية.
3- عدم تحديد مدة للتداوي و العلاج.
4- تعميم الدواء الواحد على جميع المرضى ، دون مراعاة للفروق الفردية من حيث: العمر أو نوع المرض أو حالة المريض أو ظروفه الصحية.
5- عدم الفحص و أخذ العينات ، وهذا أيضا داخل ضمن قضية الفحص و التشخيص.
6- تعارض بعض مرويات الطب النبوي مع بعضها الآخر.
هذه بعض الملاحظات الجادة ، التي يمكن إيرادها هنا. فإذا كانت هذه الملاحظات حقيقية لا يمكن الفرار منها ، فالسؤال الذي يتحتم طرحه هنا ، هو :
هل ضخم البعض بالفعل قضية (الطب النبوي)؟. و هل أعطاها البعض بعدا غيبيا مصطنعا ، و طبعها بالإعجاز افتعالا؟. و هل وقع من قام بهذا في ذلك سهوا أم جهلا أم قام به عامدا؟ وهل كان لمصالح البعض دور في هذا؟. أم أن قضية الطب النبوي هي فعلا من الإعجاز الذي لا يمكن التشكيك فيه أبدا؟.
تبقى هذه التساؤلات هنا بين يدي القاريء العزيز ليعمل فيها عقله. و القاري الفطن لن يخطيء الحقائق بالتأكيد. و سيراها كما هي دون تزييف. و من أجل هذا ، و لكي يسهل البحث ، و تنطلق شرارته الأولى ، أسوق هنا بعض الأحاديث المنسوبة إلى (الطب النبوي) و (طب الأئمة الأطهار ) ، فلنتدبر و لنتأمل:
1ـ محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي الحسن الرضا أنه قال : ما دخل جوف المسلول شيء أنفع من خبز الأرز. (1)
2ـ محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، قال : قال أبو عبدالله : الجبن والجوز إذا اجتمعا في كل واحد منهما شفاء ، وإن افترقا كان في كل واحد منهما داء. (2)
3- أحمد بن أبي عبدالله البرقي في ( المحاسن ) عن بعض أصحابنا رفعه ، قال : الجبن يهضم الطعام قبله ، ويشهّي ما بعده. (2)
4- الحسن بن محمد الطوسي في ( الامالي ) عن أبيه ، عن علي بن محمد بن بشران ، عن عثمان بن أحمد ، عن شجاع بن الوليد ، عن هاشم بن هاشم ، عن عامر بن سعيد ، عن سعد : أن رسول الله( صلى الله عليه وآله ) قال : من تصبح بتمرات من عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر. (3)
5- عن النبي أنه قال: 'الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت'.(4)
6- محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن عبدالله بن المغيرة ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن أبي عبدالله ، قال : ألبان البقر دواء ، وسمونها شفاء ، ولحومها داء. (5)
7- محمد بن علي بن الحسين في ( ثواب الاعمال ) عن أبيه ، عن سعد بن عبدالله ، عن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي الوشّاء ، عن عبدالله بن سنان ، قال : قال أبو عبدالله : في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء. (6)
خاتمة:
قد يصر البعض على عدم قبول رفض بعض الأحاديث و الروايات الدينية التي تتعارض بشكل صارخ مع الحقائق العلمية و مكتشفات العصر ، بحجة أن الآراء و النظريات العلمية قد تتغير من وقت لآخر و قد تتحول. فهم يراهنون هنا على هذا التبدل و التحول. و أنا أرى أن هذا رهان خاسر ، لأنه و إن صح أن (بعض) النظريات و الحقائق العلمية قد تتبدل أو تتحول ، إلا أن كثيرا مما يعنينا منها هنا ، غالبا ما يترسخ و يتجذر أكثر فأكثر مع مرور الوقت. و إن ما نشهده من تطور و تحضر على أرض الواقع لهو خير شاهد على قوة الأدلة العلمية ، وعلى وجوب الأخذ بها ، و التعاطي معها بإيجابية. لذا لا يصح تجاهل و إغفال هذه الأدلة ، بل يعد هذا الإغفال و التجاهل نوعا من التعامي و الاستخفاف بالعقل البشري و تهميشه ، و تدميرا للدين و ثقافته الصحيحة. و لذا و بناء على ما سبق فإن موقفنا من تلك الروايات و الأحاديث يمكن أن يكون مشروطا بأن يكون قبولنا لها مرتهنا بالإضافة لقبول سندها الروائي ، بسندها المنطقي و العلمي أيضا وحجم تأييد أدلة العلم و المنطق لتلك المرويات.
و هنا قد يسأل البعض: وهل يصح أن نجيز اشتراط توافق الروايات و الأحاديث الدينية مع النص المنطقي و العلمي و نتائج تجارب العلماء ، كمقدمة لقبول النصوص الدينية؟.
وفي الجواب على هذا السؤال يمكن القول ، ببساطة: إننا إذا كنا نتحدث خصوصا هنا عن أدلة السنن ، و نحن نعلم ما درج عليه علماء الشريعة من تسامح في أدلة السنن ، رغم خطورة هذا الموقف الذي تم تبنيه سابقا ، أفلا يكون التسالم على قاعدة لتوثيق تلك المرويات الدينية عبر مدى انسجامها المنطقي و العلمي مع معطيات العصر أقل خطورة ، بل يمكن القول أنه أقوى حجية و أوثق برهنا. و العجب كل العجب من مسلمين يخافون على دينهم من العلم و المنطق. و لك عزيزي القاريء هنا أن تحكم عقلك في حجم الخطر الذي عُرِّضنا له نتيجة التسامح في أدلة السنن ، و حجم الخير الذي يمكن أن نجنيه من إعطاء الاعتبار للعقل و المنطق و الدليل العلمي و ما تنتجه المختبرات العلمية من معارف ، عند اعتبارها حجة شرعية في ميدان الاستدلال و الاستنباط الشرعي.
إن هذا يقودنا للقول تعليقا على مسيرة حراكنا الشيعية ، أن أفضلية المدرسة الأصولية على المدرسة الإخبارية التي نفترضها ، قد تلاشت تدريجيا ، خصوصا في هذا العصر بالتأكيد - إن كنا تسالمنا على وجود تلك الأفضلية من قبل -. فبعدما اكتسحت الأصولية الفقهية الساحة الدينية و كسبت السجال فيها ، دخلت تلك الحركة نفس القفص الذي هربت منه سابقا ، فعبرت إلى حقبة جديدة من حقب تقديس النص شبيهة تماما بما كانت عليه أختها المدرسة الإخبارية سابقا ، فبدل تقديس نصوص معينة قدست نصوصا أخرى ، و أغفلت دور العقل. فولت مرحلة الثورية و العقلنة و تجاوز القشريات ، التي كانت عليها الأصولية لحظة انبعاثها ، مما أدى لفقدان المدرسة الأصولية فاعليتها بعد أن عجزت عن إيجاد آلية لاستمرار و ديمومة حراك العقل الشيعي. فبات الشارع الديني اليوم من بعدها في مأزق خطير (بعد أن أصبح الجميع بحكم الواقع إخباريون من الدرجة الممتازة). و أصبح ذلك الشارع يبحث عن ثورة عقلنة جديدة ستكتسح ساحة المعاصرة لا محالة بحكم معطيات المنطق ، أو سيقوض الدين ، و ستتوارى (الإخبارية المعاصرة) ، أو ستركن في زاوية ضيقة من العالم ، إن لم تسارع إلى التطوير و التجديد المنطقي و العلمي ، الذي بات ضرورة من ضرورات العصر الواضحة أمام أنظار الكثيرين.
إن الأمل كل الأمل في إنقاذ الإسلام العظيم مما هو فيه ، و تخليصه من عبث القاصرين و المقصرين ، معقود بدور المثقفين و الواعين. لكن مشكلتنا الكبرى التي أسقطت الإسلام و أسقطت المسلمين ، هي أنه كلما نبت ريش لمثقف من مثقفينا الواعين ، طار منا ميمما وجهه غير وجهتنا ، فشرق المثقفون و غربوا ، و لو التفتوا لوجدوا ما نشدوا ، و كل الخير، في ديننا العظيم. الذي لم ينقصه إلا واعون يكملون معه المسيرة.