للفقر وجه آخر ... ولا زلت أبكي
طالعت قبل مدة قصة مريرة، تناقلتها كثير من المنتديات. أنقل لكم نصها كما ورد في أحد المنتديات:
"اجتمع مجلس الإدارة بالكلية كالعادة، ومن ضمن القرارات والتوصيات التي خرج بها المجلس ... أن يكون هناك تفتيش مفاجئ للبنات داخل القاعات. وبالفعل تكونت لجنة للتفتيش وبدأ العمل. طبعا كان التفتيش عن كل ممنوع يدخل إلى حرم الكلية، كجوالات الكاميرا والصور ورسائل الحب ... وغيرها.
كان الأمن مستتبا، الوضع يسيطر عليه الهدوء، والبنات يتقبلن هذا الأمر بكل سرور، وأخذت اللجنة تجوب المرافق والقاعات بكل ثقة، وتخرج من قاعة لتدخل الأخرى، وحقائب الطالبات مفتحة أمامهن، وكانت خالية إلا من بعض الكتب والأقلام والأدوات اللازمة للكلية.
انتهى التفتيش من كل القاعات، ولم يبقى إلا قاعة واحدة حيث كانت هي موقع الحدث ... و حديث الموقع، فماذا حصل؟؟؟!.
دخلت اللجنة إلى هذه القاعة بكل ثقة كما هي العادة، استأذنّ الطالبات في تفتيش حقائبهن. بدأ التفتيش ...، كان في طرف من أطراف القاعة طالبة جالسة، وكانت تنظر للجنة التفتيش بطرف كسير، وعين حارة، وكانت يدها على حقيبتها، وكان نظرها يشتد كلما قرب منها الدور، يا ترى ماذا كانت تخبئ داخل الحقيبة؟؟؟.
و ما هي إلا لحظات وإذا باللجنة تفتش الطالبة التي أمامها، أمسكت بحقيبتها جيدا، وكأنها تقول "والله لن تفتحوها"، وصل دورها، بدأت القصة، أزيح الستار عن المشهد:
- افتحي الحقيبة يا بنت.
نظرت إلى المفتشة وهي صامته، وقد ضمّت الحقيبة إلى صدرها.
- هات الحقيبة يا طالبه.
صرخت بقوة:
- "...لا...لا...لا"
اجتمعت اللجنة على هذه الفتاة، وبدأ النقاش الحاد "..هات ..لا..هات..لا..".
يا ترى ما هو السر ...، و ما هي الحقيقة؟؟؟.
بدأ العراك وتشابكت الأيادي ...، والحقيبة لازالت تحت الحصار.
دهش الطالبات، اتسعت الأعين، وقفت المحاضرة ويدها على فمها، ساد القاعة صمت عجيب، يا إلهي ماذا يحدث، و ما هو الشيء الذي داخل الحقيبة، وهل حقاً أن فلانة .....!.
وبعد مداولات اتفقت اللجنة على أخذ الطالبة وحقيبتها إلى إدارة الكلية لاستئناف التحقيق الذي سوف يطول.
دخلت الطالبة إلى مقر الإدارة، ودموعها تتصبب كالمطر، أخذت تنظر في أعين الحاضرات. نظرات مليئة بالحقد والغضب، لأنهن سيفضحنها أمام الملأ.
أجلستها رئيسة اللجنة وهدأت الموقف وقد هدأت هذه الطالبة المسكينة، قالت المديرة ماذا تخبئين يا بنتي ...؟، وهنا وفي لحظة مره ... لحظة عصيبة ... فتحت الطالبة حقيبتها. يا إلهي ... ما هذا ؟؟؟ ماذا تتوقعون؟؟؟.
انه لم يكن في تلك الشنطة أي ممنوعات، أو محرمات، أو جوالات، أو صور، لا والله انه لم يكن فيها إلا بقايا من ... الخبز ( السندوتشات ) نعم هذا هو الموجود، وبعد سؤال الطالبة عن هذا الخبز قالت - بعد أن تنهدت -: "هذى بقايا الخبز الذي بعد فطور الطالبات، حيث يبقى من السندوتش نصفه، أو ربعه، فاجمعه وافطر ببعضه، واحمل الباقي إلى أهلي ... . نعم إلى أمي وأخواتي في البيت ليكون لهم الغداء والعشاء لأننا أسرة فقيرة، ومعدمه، وليس لنا احد، ولم يسأل عنا أحد، وكان سبب منعي من فتح الحقيبة لكي لا أحرج أمام زميلاتي في القاعة ...، فعذرا على سوء الأدب معكن".
في هذه الأثناء انفجر الجميع بالبكاء، بل وطال البكاء أمام هذه الطالبة الموقرة. الله أكبر نجد ما يغنينا وهذه الفتاه أخت لنا وابنتنا وابنة بلدنا لا تجد قوت يومها هي و أهلها، اللهم لا تؤاخذنا يا رب.
وأسدل الستار على هذا المشهد المؤلم الذي نتمنى جميعا ألا نشاهده. لذا إخواني وأخواتي هذه حاله واحدة من المآسي التي ربما تكون بجوارنا في الأحياء وفي القرى ونحن لا ندري وربما نتجاهل أحيانا عن هؤلاء، فيا أيها الأحباب أبواب الجمعيات الخيرية وهيئات الإغاثة وأئمة المساجد مفتوحة أمام أهل الخير الذين يريدون سد حاجات إخوانهم أمثال هؤلاء.
أقسم بالله انه لشيء يحز بالنفس والخاطر، قسم بالله حرام، والله حرام يا ناس، انتبهوا لجيرانكم في أحيائكم، لزملائكم وزميلاتكم، في المدارس والجامعات".
قرأت هذه القصة في المرة الأولى فبدأت الدموع تزف نفسها بقوة خارجة من بين أجفاني المتقرحة بمرارة و حسرة، و الغصة تخنقني لورود هكذا حالة من المعاناة الإنسانية الخانقة، لكنني حاولت أن أتمالك نفسي فلعلها قصة من تلك القصص المفبركة التي تبث عبر الإنترنت. عدت بعد مدة و بحثت عن القصة من جديد، فانهمرت الدموع مرة أخرى و لازالت تنهمر بقوة.
أتصور أن أي إنسان يملك ذرة من الإنسانية لن يتمالك نفسه أمام هكذا موقف و هكذا حادثة، لكن بصراحة "حصل خير".
طبعا يحق لنا أن نتساءل "كيف يحصل الخير، وهكذا أمر يحدث بيننا؟!!". أقول نعم حصل خير رغم مرارة الحادثة. فكم من نظيرات هذه القصة تختبئ في ثنايا المجتمع دون أن يعلم أحد بها؟. إنها مآسي متكررة، لكن للأسف فسرعان ما ننسى.
أخبرني أحد الكتاب المثقفين المعروفين ذات مرة أنه بقي مدة مع زوجته بلا طعام سوى "حبات بطاطس". كان هذا هو الطعام الوحيد لديهم في المنزل، وهو يعيش بيننا في هذا المجتمع طبعا، و سمعت عن آخرين أعرفهم تماما قصص مفجعة أخرى أوصلت بعضهم لحدود المرض النفسي ...، فالبعض لم يجد في منزله سوى البصل صالحا للأكل، فهل يصلح البصل فعلا للأكل؟!!.
و هنا نقف عند خط فارق صنعته تطورات الحياة، يجب أن نتحسسه جيدا. ففي القديم كان الآباء و الأجداد يتبرعون لذوي الحاجة بالمباشر و بمعرفة جيدة بمعاناة جيرانهم أو أهل قراهم أو حاراتهم أو أقاربهم. و كان الناس قريبين من بعضهم جدا. بل يعيشون على شكل مجموعات متلاصقة، و أسر أشبه بعناقيد العنب، حيث تضم الحبة فيها الحبة الأخرى. أما اليوم فنحن متفرقون، تفصلنا حواجز كثيرة، و الأسر فتتت لقطع صغيرة معزولة، شقق و مساكن تفصلها الخرسانات الحديدية و الأسوار الممتدة. و عندما نتبرع نتبرع لصناديق ميتة، و حسابات رقمية جافة، ليست لها أحاسيس ولا مشاعر. لا تشعرنا بحقيقة الحاجة، و لا الألم الذي يعيشه من نتبرع له. وهذا كفيل بأن يخلق نوع من البرود و التباطؤ في إيصال المعونة لمستحقيها ، و يضعف الحث على المبادرة للعطاء و إغاثة الفقراء.
أتصور أن غياب المشهد من أمام الأنظار يمكن أن يدفعنا باتجاه الزهد و التقصير في دفع الصدقات و التبرعات، وهذا ما قد لا تحمد عقباه. لكن ماذا لو أبرزت الجمعيات و الجهات الخيرية بعض ما لديها من قصص و حكايات معاناة بأسلوب إعلاني ما، ألن يكون ذلك مجديا و فاعلا في استجلاب مزيد من العطاء؟؟.
قد يساورنا الضيق من تساؤل يطرح نفسه هنا، فلماذا نفضح الفقراء؟!. لكن ألا يمكن في الحقيقة بدل أن نذكر الحقيقة كاملة أن نقسمها شطرين، فشطر نقدمه للناس، و شطر آخر نبقيه طي الكتمان نحفظ به هوية و كرامة إخواننا المعذبين الذين يعيشون بيننا دون أن نعرف عن مآسيهم شيء يذكر.
إننا أمام حقائق غائبة يجب أن تذكر، و الجمعيات الخيرية وفقها الله منهج حضاري جديد و راقي فعلا ... لكنه في الحقيقة وجه آخر للفقر يختبيء خلفه الألم الحقيقي للفقراء و المحرومين و المعدمين، إذ ليس له لحم ولا عظم ولا دم، إنما هي صناديق و حسابات صامتة ليست قادرة على إثارة مشاعرنا الإنسانية، فهل من سبيل نكسوا بها هذه الصناديق و الأرصدة الرقمية شيء من اللحم و العظم لتشعرنا بحجم المعاناة و حقيقتها؟!. إذ لاشك و إننا جميعا لواثقون من أن الناس لا يريدون لغيرهم هذه المعاناة حتى و إن كانوا هم أنفسهم ممن يعيشون ويلات الفقر، بل و لا من يعيشون في قمة الترف و الفخر. و هنا من باب الإقتداء، فإن للناس في آل البيت قدوة حسنة، إذ يقول تعالى - مبرزا قصة من قصص الفقر المرة ، طامسا أسماء شخوصها ، و مشيدا بتعامل آل البيت معها - : ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)) - سورة الإنسان.