وأذن في العاشقين بكربلاء 1/2

كان الحجيج يشدون رحالهم صوب مكة تلبية لنداء الله بينما محسن يشد رحاله للتوجه إلى إيران تهيئاً للانطلاق منها للعراق، أخفى على عائلته خوف المنع خبر ذهابه ليوهمهم بأنه ذاهب إلى مكة المكرمة كادراً في إحدى الحملات القطيفية بحجة التعرف على الأجواء والمناسك تهيئة للحج في العام الذي يليه، فما كان منهم إلا القبول والتسليم..

قبل مغادرته بيوم واحد اجتمع محسن مع ثلاثة من رفاقه المقربين، ولما أخذ العهد منهم بعدم إفشاء سره، أخبرهم بما يختلجه في داخله.. بدت علامات الاستغراب ترتسم على محياهم، كل واحد يحملق في وجه الآخر.. محسن سيقتلوك.. سيفجروك.. لن تعود ثانية.. انتظر إلى أن تهدأ الأوضاع..

لم تستوقف محسن عباراتهم، فكان الجنون الحسيني يخالط دمه وتنهداته التي يطلقها حين سماع أسم الإمام الحسين وكربلاء.. أعطى كل واحد منهم وصية خطها بيده ليقرءوها بعد مغادرته صباحاً ولا يظهروها لأحد كان إلا إذا حدث له ما يفر الناس منه:

 السلام على من يقرأ عباراتي ورحمة الله وبركاته...

إن حدث لي مكروه أو توفاني الله فأنا في كامل العزة والشرف، فلا تحزنوا وكونوا فرحين باستشهادي زائراً للإمام الحسين   في أقدس بقعة من أرض الجنة... واعزموا جميعاً على الوصول إلى تلك الأرض الطيبة مع كل الصعاب والإرهاب.. فإن عدت فإليكم ذكرياتي وإن غيبني الإرهاب فالله راحمني... والسلام.

في صبيحة اليوم التالي توجه محسن إلى إيرانالناصرية حيثنحو معبر « المنذرية » الحدودي مع العراق، وهناك كان السيد الهاشمي بجميع متطلبات الرحلة في انتظاره.. دخلا العراق وكانت بداية الرحلة من محافظة الناصرية حيث كان السيد الهاشمي يحمل أمانة يريد إيصالها لإحدى دور رعاية الأيتام... الأوضاع متأزمة وأصوات أزيز الرصاص تنتشر في محيط المدينة... سيارات تحترق وأطواق أمنية مكثفة في أرجاء المدينة..

ترجل الاثنان خطوات معدودة للوصول إلى الحاج كاظم جعفر صاحب سيارة الأجرة الذي ينتظرهم في نهاية أطراف المدينة..

أخذ حجي كاظم يسير بين المحافظات ذات الهدوء النسبي في طرق التفافية طويلة بين محافظة السماوة مروراً بالديوانية ثم الحلة إلى أن يصل إلى طريق كربلاء المقدسة.. عشرات الآلاف من الزوار يهرولون مشياً للوصول إلى مركز مدينة كربلاء لإحياء يوم عرفة..

نزل محسن والسيد الهاشمي من السيارة وبدئا يسيران مع المشاة.. الكثير من ذوي الاحتياجات الخاصة من المعاقين وكبار السن، فهذا شيخ كبير يتعكز على عصاه عوضاً عن رجله اليسرى التي فقدها في انفجار إرهابي في سوق الخضار بمحافظة ديالى كما أخبرهم.

 كانت مخيمات المواكب والهيئات الحسينية تنتشر على الطريق المؤدي إلى كربلاء لتقديم شرف الخدمة لزوار أبي عبد الله الحسين ، فمخيمات تقدم الماء والعصير وأخرى تقدم "التمن" و"القيمة" للضيوف الوافدين على مدينة كربلاء..

اقتربا أكثر فأكثر من المدينة... أحس محسن بنفحات رحمانية وروائح زكية، وكأنه يمر على بساتين تفوح منها رائحة الفاكهة والزهور.. جد الرجلان في المسير مشياً على الأقدام، مخلفين ورائهما التعب الذي بات يتلاشى كلما اقتربا من مركز المدينة.. توقفا ليستريحا قليلا.. محسنً يقبض بشدة حفنة من تراب كربلاء المقدس من جنبات الطريق.. شمه وألثم به وجهه.. إنها المرة الأولى التي يزور فيها كربلاء.. كل شيء بالنسبة له يبدو مختلف.

السيد الهاشمي: هل نواصل المسير أم نرتاح عدة دقائق؟

محسن: ننطلق على الفور قبل أن يحل ليل كربلاء الحزين فيفوتنا النظر إلى معالم المدينة..

في أزقة كربلاء كلما صادفهم أحد رحب بهم بلهجته العراقية: هلا بضيوف الحسين... هلا بزوار الحسين..

أحس محسن بزيادة نبضات قلبه وكأن هاتفاً يناديه: ها قد اقتربت.. تلعثمت كلماته وعادت رجلاه لا تحملاه من شدة الشوق والرهبة معاً.. قبة صفراء تلوح في الأفق، تعانق أبصارهم على بعد أقل من مائتي متر.. تشع منها انعكاسات ذهبية تبعث على السكينة..

محسن: آه.. آه.. السلام عليك يا غريب الغرباء..

دقائق والحرم الحسيني في استقبالهما.. آلاف الزوار بين باكٍ وداعي.. مشاهد إيمانية تملأ الفؤاد... شباب يزحفون نذراً لله بعد أن وصلوا الحسين .. نساء رافعة أيديها بالدعاء.. شعراء ينشدون الشعر.. وهيئات دينية توزع الكتب وأخرى تطعم الغذاء.. حجيج الحسين ينتظرون النفرة إلى داخل الحرم لتلبية نداء الحسين في كل زمان: « ألا من ناصر ينصرنا ».. آلاف لا بل عشرات الآلاف بل مئات الآلاف يغطون المدينة..

بمحاذاة «باب القبلة».. أثار انتباه محسن شيخاً متوسداً الأرض معتمراً الغترة العراقية وفوقها عقال سميك يخاطب الإمام الحسين  بلهجة عراقية متعبة: يابو علي إجيتك قاطع مسافات ورجلي تورمت عليّ فامسح عليّ بنظرة منك.. أنا تركت عيالي حباً فيك.. فاقبلني ضيف عندك الليلة..

تقدم السيد الهاشمي إلى الباب المؤدي لداخل الحرم.. لحق به محسن.. أقسم إلا يدخل إلا بعد تقبيل الأعتاب.. خر باكياً مع جموع الزوار يقبل عتبات باب المرقد الطاهر.. كان بجانبه زائراً خارت قواه وكاد أن يغمى عليه وهو منحني لشديد البكاء..

دخل الرفيقان أول خطوة بأرجل مرتعشة، عبارات التحية والاستئذان تتكرر: السلام عليك يا أبا عبد الله.. أأدخل يا ابن رسول الله.. أأدخل يا ابن أمير المؤمنين.. أأدخل يا ابن فاطمة الزهراء... روائح عطرية تملأ الضريح.. ونفحات إلهية تحيط بالمكان..