الجانب البشري في شخصية الإمام علي(ع)
لا شك أن المنهج يسبق التفكير، و أن الرؤية يصنعها المنطق، فكما نرى الطبيعة عبر أعيننا نرى العالم و أفكار الآخرين أيضا عبر مناهجنا في التفكير و طرقنا الخاصة في المنطق و القواعد المتراكمة التي تشكل البنية الفكرية الخاصة بنا.
فإذا كان المنهج صحيحا، كانت الرؤية صحيحة، و إذا كان المنهج معطوبا، كانت الرؤية معطوبة أيضا، تبعا له. و هذا الانحراف هو ما حذر منه القرآن الكريم في قوله تعالى ( ... قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) (1). فقد جاء هذا ردا على سلسلة من مطالب المنكرين للرسالة جاءت في قوله سبحانه (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93)) (2)، فأنكر سبحانه مطالبهم، و قدم (الطبيعة البشرية)، مطالبا بالاعتراف بوجود عناصرها في رسوله، فقدمها على كون رسوله (رسولا) متصلا بالسماء و غيبها و إعجازها، ليصحح النظرة الخاطئة لدى المشركين و المنكرين، و التي كانت تفرض رؤية مغالية في صفات الأنبياء، فتنزع منهم بشريتهم تماما، لتوصلهم لمقامات قريبة جدا من مقامات الآلهة، متجاهلة تماما أنهم كقدوة لا يمكن أن يكونوا إلا بشرا، يعترضهم ما يعترض بقية الناس من تقلبات و تحولات طبيعية في هذه الحياة، تكون لهم فيها أفراحهم و أوجاعهم و آلامهم و قدراتهم المحدودة أيضا، التي لا تتجاوز إرادة الله سبحانه.
و معلوم من تدبر الآيات السابقة أنه كان يكفي أن يجيبهم النبي بتلبية طلب واحد من تلك السلسة من الطلبات التي طرحت على أساس التخيير (كتفجير ينبوع من الأرض مثلا)، و هو فعل يسير، قام به الأنبياء من قبل. فقد ورد في قوله سبحانه (و إذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (3). وهذا الفعل بالذات بات أيضا من الممكنات البشرية في عصرنا الحاضر، يمكن أن ينجزه حتى من لم يكن متصلا بالسماء. لكن ذلك لم يحصل، فلم استكثر عليهم الله سبحانه حتى هذا القدر من البرهان على صدق الرسالة؟!. نعلم هنا بالضرورة من ذلك أن الغرض من قوله تعالى ( ... سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )، هو التأسيس لرؤية و قراءة صحيحة لشخصية و طبيعة الأنبياء بالتأكيد على الجانب البشري الذي أنكره الغلاة في شخوصهم .
هذا المنهج القرآني في الرؤية و القراءة لشخوص الرسل و الأنبياء يمكن أن نطبقه أيضا على بقية المعصومين. فالإمام علي كشخصية بشرية عاشت ظروفا سياسية و اقتصادية و اجتماعية و نفسية و معرفية لها سياقات تطور طبيعية، يمكن أن تدرس دراسة علمية معاصرة، مبنية على تأكيد و عدم استثناء الجانب البشري في شخصيته . و لتوضيح الرؤية أكثر يمكن الاستدلال على الجانب البشري بتأمل آلامه إزاء مظاهر الفقر و الحرمان و اليتم، و التي لا يمكن أن تفسر إلا بإدراك وجود حالة انتقال عايشها الإمام، يمكن تفسيرها منطقيا و علميا. فـ(الثبات) في المعرفة و الرؤية و الكمال كما يفسره الفلاسفة لا يمكن أن ينتج عنه شعور بالسعادة و لا بالألم، لأن السعادة و الألم في الحقيقة إنتقال. و هذا يضع نقطة ضوء فوق الحقيقة، تتطلب منا دراسات جادة تراعي الجوانب البشرية في شخوص المعصومين و تتدبرها، و ترفض التطرف و الغلو الذي وقع فيه كثير من الناس، فتؤكد بذلك على النظرة القرآنية الصحيحة المشار إليها سالفا. و الكلام في محور حديثنا هنا يتطلب بحثا مطولا فيه مزيد من الإيضاح، لكننا نكتفي بهذا القدر، نظرا لضيق المقام، على أمل إتمام البحث إنشاء الله في فرص قادمة.