الشيخ المهاجر النموذج الخطابي

نَّه لشرفٌ عظيم أَنْ تُمسِكَ أناملي بقلمي المتواضع لتُسَطِّر به كلماتٍ لن تكونَ وافيةً بالطبع وستظلُ عاجزةً لأنَّها ستتناول شخصيةً ورمزًا وعَلَمًا من أعلام المنبر الحسيني وخطيبًا ليس كسائر الخطباء.

خطيبٌ قلََّ نظيره يستهوي القلوب ويجذب السامعين من أول وهلة فيتحولون من سامعين إلى مستمعين فتتفاعل جميع حواسهم مع كل حرف وكلمة وجملة يتفوه بها، فحديثه لا تَمِلُّ منه النفوس ولا يُرهِق الأبدان، بل تظل محافظةً على نشاطها وحيويتها مهما استغرق من وقت، وتطلب منه المزيد لدرجة أَنَّ المستمع يصل لمرحلة لا يمكن فيها أنْ يغفلَ ولو للحظةٍ عن متابعة حديثه أو الانشغال عن مواصلة الاستماع إليه مهما كان الشاغل، ولو عاودتَ الاستماع لمحاضراته مرارًا وتكرارًا فما يزيدكَ ذلك إلاَّ فائدةً وولاءً.

خطيبٌ تذرف عيناه الدموع قبل مستمعيه فتبلل شيبته الكريمة حرقةً وحسرةً على ما حلَّ على عترة النبي من رزايا وويلات، فإذا كان المستمع ممَّن لا يبكون أو يتباكون فما عليه إلاَّ التأمل والتفكر في نبرات صوت خطيبنا المُعَبِّرة عن حزنٍ شديدٍ والنابعة من أعماقِ قلبٍ صادقٍ رقيق، حينها لن يتمالك المستمع نفسه ولن تستطيعَ عيناه الصمود طويلاً وستنهمر بالدمع ويجهش بالبكاء.

 فيا تُرى ما السِّر الذي يقف خلف كل هذا؟ وكيف بلغ شيخنا المهاجر هذا المستوى المرموق في عالم الخطابة؟

من وجهة نظري القاصرة إَنَّ خطيبنا المهاجر لم يصل لهذه المرتبة العليا إلاَّ بتوفيقٍ من البارئ عزَّ وجل أولاً، ثم بإخلاصه للقضية المقدَّسة التي نُصِبَ المنبر من أجلها وهي إحياء أمر آل محمد ، وكذلك بتفاعله مع كلِّ كلمة حقٍّ يقولها وهو يرتقي المنبر الذي هو أشرف منبر في الوسماحة الشيخ عبد الحميد المهاجر حفظه الله جود، فمنبر الإمام الحسين  هو منبر رسول الله  ومن الأمور التي أسهمت في تحقيقه هذا النجاح تميِّزه بالجودة في التعمق في الفكر، والجودة في الإلقاء، والجودة في الأسلوب وطريقة العرض، ومواكبته لكل حدث يطرأ على عالمنا اليوم.

وكل هذا لم يتأتَّ إلاَّ بعد جُهدٍ جهيد، وجدٍّ واجتهاد بالقراءة الدائبة والبحث والتأمل والتفكُّر والطموح غير المحدود، وهمَّه الدائم في الوصول إلى أعلى مرتبة في الخطابة والبيان.

 لقد برهن العلاَّمة المهاجر بأنَّ المنبر الحسيني هو الصوت الأقوى والأكثر فاعلية وتأثيراً في نفوس الجماهير ووجدان الأمة.

إنَّنا في زمنٍ بحاجةٍ ماسة لخطباء على شاكلة خطيبنا المهاجر، زمن طغت فيه المادة على القيم والمبادئ وتنوعت فيه أساليب الغزو الفكري والانحلال الأخلاقي، عَالَمٌ يضج بالإثم والعدوان وتسوده الفتن كقطع الليل المظلم، حتى أصبح الفرد منَّا يخشى على نفسه قبل أسرته من الانحراف والضياع.

إنَّ مجتمعاتنا اليوم بحاجة إلى طبيب حسيني يصف لها الدواء المناسب لكلِّ داء يحِلُّ بها، فالمنبر الحسيني مدرسة ومؤسسة ذات أبعاد فقهية ولغوية وتفسيرية وأدبية وحضارية وإنسانية...

فنتمنى من خطباء المنبر الحسيني اليوم أنْ يكونوا أطباء متميزين يضعون الدواء على كل جرح تُصَابُ به الأمة.

الحديث عن العلاَّمة المهاجر طويل ومتشعب وما ذكرتُهُ عن هذه الشخصية قطرة من بحر فأكتفي بهذا القليل، ولكن قبل أنْ أختم مقالي لا بد أنْ نُسطِّر وقفة وفاء ولابد من كلمة إنصاف، فقبل أنْ نشكر التلميذ ونُشِيدُ به على تفوقه وتميِّزه، فالأخلاق والآداب... تدعونا أنْ نتوجه بالشكر والامتنان والإشادة بالمعلم الذي تولى رعاية ذلك التلميذ فتفوقْ التلميذ دليل على تفوقْ وتميُّز أُستاذه وهو المرجع الراحل المجدد آية الله العظمى السيد محمد بن السيد مهدي الشيرازي ـ قدس سره ـ فشكرًا لك سيدنا على هذه الثروة الثمينة التي تركتها للأمة والطائفة إنَّك لم ترحل سيدنا. نعم لم ترحل.

 مرجعيةٌ قدَّمتْ للمذهب علماء أفذاذ وأبناء أجِلاَّء ساروا على نهج والدهم، وتصدَّرتْ قائمة المؤلفين وورِّثَتْ للأمة ألف وثلاث مئة كتابٍ في شتَّى المجالات، وقَدِّمتْ هذه الشريحة الكبيرة من الخطباء والفقهاء والكُتَّاب والمفكرين، وأنشأتْ العديد من الحوزات والمؤسسات والمراكز والحسينيات ؛ وأسستْ القنوات الفضائية لتُسخِّرها لخدمة الدِّين والمذهب هذه الشخصية لم تمتْ بالفعل فهي حاضرة بيننا، فمع مرور الأيام والسنين سيكتشف العالَمُ عظمتَكَ، فآثاركَ سيدنا باقية وبركاتكَ ستظل تعمُّ الجميع ما بقينا وبقي الدهر.