القنوات الشيعية إلى أين ؟ ( 2-3 )
بسم الله الرحمن الرحيم
لاشك أن ظهور القناة الشيعية ارتبط بعوامل وتجاذبات قوية – لسنا في موضع الحديث عنها ، لكن مايهمنا قوله : أن منطلق القناة الشيعية وبلورتها جاء ضمن إطار ديني بحت ، وبالتالي كان الخطاب الديني القاعدة والركيزة الأساسية لمادتها الإعلامية ، الذي خضع بدوره إلى عدة عوامل متفرقة يمكنها أن تضفي شيئاً من التمايز عن الخطاب الديني المألوف عند عامة المسلمين ، فأعطاه أبعاداً رئيسة نستعرضها في هذا المقال بشكل تصاعدي.
• صورة مكررة مَل منها المشاهدون!!
أول أبعاد الخطاب الديني في القنوات الشيعية هو استخدامه كوسيلة لتمرير أفكار وأطروحات ضمن آلية متباينة ينطلق منها حتى على مستوى القناة الواحدة ، فكلٌ يعرض فكراً يتبناه ويؤمن به في ظل عوامل متضاربة ، وغياب منهجية واضحة في اختيار نوعية البرامج ، بالإضافة إلى عشوائية أو تمازج الفئة العمرية المستهدفة من الخطاب الفضائي ، ولعل تباين الخطاب الديني يرجع لعدة أسباب من أهمها : أن العاطفة هي المحرك الرئيس لسياسة القائمين على هذه القنوات مما يخرجها عن دائرة الحياد ، كذلك ضعف الأداء الخطابي وافتقاره للمادة المشوقة التي تجذب المشاهد إليه ، واعتماد الخطاب الديني في معظم أوقاته على حالة الفرز الطائفي الموجه لشريحة ضيقة من المشاهدين في العالم العربي والإسلامي ، إذا ماأخذنا في عين الاعتبار الاختلاف اللغوي والفكري من بلد لآخر ، بالإضافة إلى عوامل أخرى نستعرضها في المقال القادم.
أن الخطاب الديني في القنوات الشيعية لازال يدور ضمن دائرة عشوائية بسبب معاناته للانغلاق و ضعف التنوع المعرفي في الرسالة الموجه للمخاطب وهو مايعبر عنه بعجز الجانب الفني لكثير من البرامج الدينية المتداولة على القنوات الشيعية.
فاجتماع هذه العوامل خلق في فكر المشاهدين حالة من الوشوشة والتضارب ، مالبث أن تطور إلى تكدسات فكرية مكررة هنا وهناك ، أنتج في نهاية المطاف حالة من النفور والضجر من هذه البرامج بسبب تكرار محتواها الإعلامي المعتمد على رجال الدين في المقام الأول والأخير .
ومن هنا يمكن القول أن القنوات الشيعية في أغلبها لم تقدم حتى الآن مادة إعلامية جديدة ومميزة ، إنما صاغت قالبها وخطابها الديني بحلة جديدة و تقنيات حديثة طرحتها كإنتاج إعلامي يرى القائمون عليها أنه الأصلح والأجدى نفعاً من وجهة نظرهم.
• الفيديو كليب الشيعي
أما البعد الثاني الذي خرج به الخطاب الديني في القنوات الشيعية عمِل على توظيف الموروث التاريخي لسيرة أهل البيت بشقيه المأساوي والمفرح في صورة مراثي وأناشيد تأخذ أشكال تقليدية مألوفة في مجتمعاتها ، ثم تطور الحال إلى مايعرف بالفيديو كليب ، الأمر الذي أثار حفيظة الناس في جدواها وتأثيرها على الهوية الشيعية ، ولعل الحديث عن هذا الجانب يستوقفنا عند عدة وقفات وهي :
الوقفة الأولى : مع كلمات القصائد التي تطلقها حناجر رواديد مشهورين ومبدعين ، فإذا نقبنا في النصوص المتداولة لهذه الإنتاجات -خصوصاً العزائية منها نجدها متولدة من رحم النصوص القديمة التي وجُدت في الأصل لاستحضار العاطفة والحزن والبكاء ، أو لتجسيد مفهوم الانتماء العقدي لهذه الطائفة ، لكننا بحاجة لقصائد تخلق آفاقاً من التأمل ولايكتفى بنقل المشهد التاريخي المأساوي والمفرح فقط – بل نرقى بها إلى سلم يأخذ بدفة الاكتشاف ويحاكي قيم نبيلة تسمو وتضم في جوانبها كل المفاهيم والقيم المستوحاة من الحدث التاريخي ، ولايخلق فينا حالة الانجذاب والتقهقر إلى الخلف الهدف من ورائه تحريك الجرح التاريخي فقط .
ومن زاوية ثانية توضع دائرة الانتقاد على فحوى الرسالة التي ترسلها كلمات القصائد للطرف الآخر التي يمكن أن تسيء لهم بشكل علني سواء عن طريق عفوي أو حماسي ، تنتج عنها تأثيرات نفسية تخلق لديهم حالة من البغضاء والتشنج تجاه الطائفة الشيعية ، خاصة مع غياب الفرز الواضح للمفردات اللغوية المتداولة في معظم القصائد، التي قد يقصد بها أفراد بعينهم أو عن طريق استخدام لفظ لغوي خاص يفهم بمفهوم عام .
ومن زاوية ثالثة تسلط دائرة الانتقاد لبعض القصائد التي تبين منزلة أهل البيت - بالرغم أننا نتفق أن المراد منها هو إعلاء قدر أهل البيت و يعبر عنها بكلمات وجدانية يفسرها البعض أنها غلواً مفرطاً لمكانتهم -خاصة تلك القصائد التي تمدح مكانة الإمام علي ، ويتخذها البعض دليلاً على الغلو ومبرراً لنعتهم بالشرك والبدعة ، و يغيب عن ذهن هؤلاء أن الغلو في النبي والأئمة إنما يكون بالقول أنهم شركاء لله تعالى في الألوهية أو في الخلق والرزق ، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى أو بالقول أن الأئمة أنبياء، وهذا مايؤكده عمر بن علي بن الحسين بقوله : المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا ، لنا حقٌّ بقرابتنا من جدنا رسول الله ، وحقٌّ جعله الله لنا ، فمن تركه ترك عظيماً ، أنزِلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به ، ولا تقولوا فينا ما ليس فينا . وقول الإمام الصادق لصاحبيه: اعلما أن لنا ربّاً يكلؤنا بالليل والنهار نعبده ، يا مالك ويا خالد..قولوا فيناما شئتم ، واجعلونا مخلوقين.
أما الوقفة الثانية: تختص بالرواديد والمنشدين أنفسهم بعد تنامي إعدادهم بشكل كبير على الساحة الشيعية شأنه شأن الجوانب الفكرية والحياتية الأخرى الذي ظهر في صورة الفيديو كليب ، ولعلهم الصنف الذي استحوذ على الساحة الشيعية وكذلك الإعلام السمعي والمرئي والدليل على ذلك خروج كم هائل من الإنتاجات المتلاحقة التي امتلأت بها القنوات الشيعية ، ولعل في ذلك تعويضاً لحالة الكبت التي عاشتها الطائفة بعيداً عن الساحة الإعلامية لعقود من الزمن .
لكن مايهمنا في هذه الوقفة هو حاجتنا إلى الرادود الواعي والمتفقه الذي يأخذ على عاتقه الإخلاص لمنظومته العقدية وانتمائه لهذه المدرسة ، فللأسف الشديد نجد البعض منهم اتخذ من تلك الكلمات فكراً ومنهجاً مضاداً لمحاربة الفكر المغاير وغاب عن ذهنه قيم جسدتها تلك الأحداث ، فالمأمول منهم جعل الكلمات منهجاً ومشروعاً يطلقه في الفضاء يشعر الآخرين بعظمة المفاهيم والقيم التي نادى بها أهل البيت ؛ كي تحرك عقولهم ووجدانهم فيتعرفوا على مكانة و فضل محمد وأهل بيته ، بالإضافة إلى حاجة الرواديد والمنشدين إلى توظيف أصواتهم وتوسيع دائرة ألحانهم وأطوارهم والأخذ بثقافة الإنشاد المتطورة ، حينها تشكل هذه الإنتاجات ثقافة راقية تجسد معنى الانتماء الحقيقي لهذه المدرسة .
أما الوقفة الثالثة : يرى البعض أن الإنتاجات الصوتية والمرئية خرجت من منحاها الصحيح خاصة تلك الإنتاجات التي تبثها بعض القنوات الشيعية ، فأبدت كثير من الفئات تحفظها عليها -بما فيهم بعض الرواديد لأنها من وجهة نظرهم تركز على شخصية الرادود أو المنشد وظهوره بمظهر غير مناسب واستخدام مؤثرات صوتية وجمالية غير مألوفة كالتصفيق الذي لايتناسب مع مناسبة الإنتاج وبعدها بالتالي عن الهدف المنشود .
والتحفظ الأخطر الذي يراه هؤلاء أن بعض الإنتاجات التلفزيونية ( الفيديو كليب ) تجاوزت الخط الأحمر ووقوعها في منطقة المحظور من الناحية الشرعية ، وتصنيفه ضمن إطار ملحقات وتشبيهات الغناء ، وخاصة تلك الإنتاجات التلفزيونية والصوتية التي وصلت لحالة الإطراب التي تشابه في إطارها العام صورة الأغاني، والاعتماد على الموسيقى التي هي موضع خلاف بين علماء الطائفة من الناحية الشرعية والفقهية ، لأن الحكم يأخذ بجوانب العرف الاجتماعي في حلية وحرمة مثل هذه الإنتاجات ، في حين يرى مؤيدوها أنها تشكل حالة من الإشباع العاطفي وتعميقاً لمفهوم الولاء وبديلاً عن انجرار الناس للغناء والطرب المحرم .
ومع احترامنا للمحتوى الذي تعبر عنه الأناشيد والمراثي في تعزيز روح الانتماء لمذهب أهل البيت ، لكنها رسالة إعلامية متواضعة لاتتعدى جدران البيت الشيعي ، لكن قنوات شيعية اعتمدت عليها كمادة إعلامية أساسية لمعظم برامجها ، لأنها لاتملك خامة إعلامية متميزة تعرضها لمشاهديها ، خاصة مع غياب المرشد الإعلامي والديني لإصدار حُكمٍ على هذه المواد وتقييمها ، وتناست بالمقابل أمور مهمة والعمل بقاعدة المهم والأهم ، وهم في الوقت نفسه يواجهون عالَماً يعج بالأصوات والأطروحات المناوئة لهم .
لذلك تبقى الحقيقة ماتعبر عنه إجابة هذه الأسئلة : هل صورة الأناشيد والمراثي هي الطريقة الأجدر للتعبير عن فكرنا ؟ وهل بتلك الكلمات نوصل عقيدتنا للعالم؟ ولعل الطريف في الأمر أن البعض منا لايفهم معنى تلك الكلمات ثم نطالب من العالم أن يفهمها ؟ !! . وكيف يمكن أن نرسم صورة عن هويتنا في الإعلام العالمي ، وهم في الأصل لايعرفون من نحن ومن نكون ؟ !! .
• كيف نرسم صورة للحسين في الفضاء ؟
أما البعد الثالث والأخير الذي ميز الخطاب الديني في القنوات الشيعية اعتمادها على الخطاب الحسيني كعنصر أساسي الذي نُقل إلى العالم بصورة خطابة منبرية مباشرة أو غير مباشرة ونقل مايحيط بهذه الشعيرة من مراسم عزاء و نشاطات مختلفة ، فمع احترامنا لخطباء المنبر الحسيني الذي يمثل ثقافة أصيلة لازالت المواضيع التي تطرح على هذا الصرح الإعلامي الرائد هي في الأغلب مواضيع مكررة تتناول السيرة العطرة لأهل البيت -وخصوصاً سيد الشهداء ، أو بالتطرق لمواضيع حساسة تثير ردود أفعال متباينة لدى الشارع ، أو بالتطرق لمواضيع تتعلق بالإرث التاريخي للمسلمين، الذي يُشكل طرحه وغربلته بشكل لا مسئول إثارة خطيرة تؤكد ما بدأه وتبناه الإعلام المناوئ ويأتي البعض ليؤكده على لسانه وأمام العالم قاطبة ً ، باعتقادهم أنك إذا أردت أن تبين مكانة أهل البيت لابد أن تقدح وتسقط من قدر الآخرين !! .
بالمقابل تناست تلك الأصوات همومهم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والسياسية إلا من بعض الخطابات أو الإشارات السريعة التي تمنينا أن يطول الحديث عنها .
ولكون الخطاب الديني في الطائفة الشيعية يعد محوراً خطيراً ارتفعت أصوات من علمائها تطالب برقيه وتجديده ، ولا يكتفى بعملية إلقاء وتلقي ، والسعي لخلق جو من التفاعل والتواصل بين الطرفين ، وأن يتبنى بأدبياته مفهوم التعددية الفكرية والانفتاح على الآخر وتبني هموم الأمة ، لأنه المنهج الصحيح الذي تبناه أهل البيت ؛ كي لا يتهم هذا الفكر المتميز بأنه يعيش حالة التناقض بين القيمة والثقافة التي يتغنى بها وبين الممارسة العملية على الواقع ، ويسعى من خلالها لتصحيح المغالطات والمزايدات التي تلصق بمعتقداتهم وشعائرهم .
ولكي نستطيع أن نرسم صورة للإمام الحسين في الفضاء لابد أن نوصل صوته الرسالي والتوعوي ليشمل جميع سكان العالم باختلاف ألسنتهم وألوانهم وتوجهاتهم ، و يرتقي لمستوى يؤهله ليكون عنصراً وقائياً ضد ثقافة العولمة ، ويعبر عن المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي نادى بها نبينا محمد وأهل بيته ، ونشر مفاهيم الثورة الحسينية ، فتصبح ثقافة الحسين ثقافة عالمية يتفاعل معها جميع سكان المعمورة .
حينئذ يكون الخطاب الديني في فضائياتنا واجهة الإسلام البراقة ، والبوابة الشامخة التي تجسد مفهوم الانتساب الحقيقي لجامعة الإسلام الكبرى التي روادها النبي محمد وأهل بيته .