على النقيض تماماً ..
على أرض المعركة وقفت فرقتان .. فوقف التاريخ معها ليشهد كيف يمكن للسيوف والدماء أن تغيره بمعركة لا تتجاوز ساعة من الزمن وبضعة أسلحة وأفراد قلائل يتعاركون وسطها على قيمة ومبدأ ، وعلى لا شيء أيضاً ..!
- الفرقة الأولى
تبدو غليظة الطباع تعارك الشر وتنتصر له ، تغالط الحقيقة وتماطلها لتكسب الوقت ، وتحتال بالخديعة والمكر .. سيوفها من خشب سمج تتقافز ضرباتها في الهواء بحركات بلهاء لا تبدو أنها واثقة من انتصار، ومن حولهم طيور الشر تحلق في سماء مزكومة بغبار الغدر .. ومجموعة أجساد فارغة المحتوى يحركها إبليس بغيه وينفخ بداخلها غرور يزيدها طغيانا وكفر ... يتسورون الدخان ويعلون أحصنة من حديد ... يباعدون بينهم وبين الحق بمسافات لا تعدو بضعة أمتار .
لا أهداف لهم غير مجموعة أشلاء متعلقة بركاب الحقد ملوثة بأيام الوثنية وتأله الماديات معها ... تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، فعصبتهم ضعيفة تديرها السلطة وتحركها الأهواء ، فلا لون لوجوههم ، ولا معنى لتفاصيلهم ، ولا أشكالهم تشبه البشر ، ولا أصواتهم تقول الحق ولا عقولهم تريد أن تعرفه بعد أن عُميت قلوبهم، يبالغون في النعيق في فضاء موحش تحتله الغربان وتتكالب على أرضه الضباع .
يمدون أعينهم نحو الكرى يتتبعون تفاصيل الباطل.. ينتفضون من القتال حين يكاد أن يقترب منهم ، يتراجعون للخلف حين تفاجئهم شجاعة خصمهم ... يتعالون على الحق ويعزفون بمزامير الكذب ويتشدقون بجائزة الأمير فيتبرؤون من عقائدهم لوصولها ، هم لا يعرفون أين يسيرون ، تحركهم رياح المال والسلطة وتعبث بنفوسهم الضعيفة فتملأهم بشاعة وقبحاً فوق قبحهم ..
- الفرقة الثانية
كانت على النقيض تماماً .. قافلة ركبها يفيض هيبة ووقار ، يقودها سيد جليل القدر تنحني لنوره الجباه ، يخط الرمال بثبات خطواته .. خطواته التي أبصرها الناس من بعده فصارت آيات بينات تتلى في محافل الصدق والطهارة ..
سيوفهم محصنة بسورة الحديد ، يزيدها الإيمان قوة ومنعة ، وإرادتهم لا تعرف العجز ولا الاستسلام أو التراجع والتخاذل .
لا تلهيهم الدنيا ولا تغرهم بزيفها ، يبيعون الرح ويشترون الكرامة ، فهم موعودون بالجنة ، يزلزلون عروش البغي بوقع خطاهم ، وينتصرون للحق بإيمانهم ، ويداوون جبن الناس بصدق يقينهم ، لا تلومهم في الحق لومة لائم ولا تثنيهم عن عزيمتهم الشدائد .. وفي المعركة حيث كانوا يتواجدون تواجد حقيقي .. ضربوا صور وبطولات عرفنا من خلالها أن للباطل جولة لكن للحق ألف جولة ..
مضى وقت من النهار والحصار يشتد بهم ... فهل أصابهم الإعياء ؟!
لازالت همتهم باقية ما بقيت فيهم أنفاس تتردد ، وما دام القلب ينبض بتيقن وحب وولاء .. فهم على النقيض تماماً ، فالإيمان كان يحركهم ، والعقيدة ظلت تصنعهم يلبون نداء الجنة بإقدام حيّر أعدائهم .
هبت في المعركة ريح مغبرة منعت الرؤيا فشكلت حاجزاً بين الفرقتين ، تقاتلتا ساعة من الزمن لم تُسمع فيها غير تصافك السلاح وقعقعة الرماح وصليل السيوف ، وهمهمات وحكم وقناعات وأراجيز تثير الحماس وترفع الهمم ، وهتافات ترحب بالشهادة ، وأطفال تصرخ تنادي العطش ، وتقابلها أصوات غليظة لا تحسن غير التجعير والشتم ، تعكس روح التردد وتنبئ عن فضائح الدواخل وتبين هيكلية الطمع وسطوة الشر وتقديم العناد ...
بعد ساعة انكشف الغبار وهدأت الريح .. وكان التاريخ هناك حاضر ، سجل كل شيء ليعري الزيف ويكشف الحقائق ..
فعمّ أسفرت المعركة بعد ؟
مياه دجلة والفرات حسمت نتائج المعركة بغسلها للون الدم .. لقد انفتحت كل منافذ المياه العذبة لتسقيهم وتروي عطشهم ، لكنها جاءت متأخرة لأنها راحت تسقي الأجساد المضرجة فوق الرمال وكانت الرؤوس عنها مفصولة ..
انقضى كل شيء ، فقال التاريخ كلمته أخيراً ..
هنا كانت كربلاء وهنا كانت المعركة التي حسمت كل شيء ... وهذا يوم العاشر سأسسجله ليحكي قصة معركة تقاتلت فيها فرقتين كانتا على النقيض تماماً ....