كيف نعرف الإسلام؟
هذا السؤال الذي يبدوا في ظاهره بسيطا، يكتنف الإجابة عليه في أعماقه كثير من الغموض. فما سر تمزقنا و نحن نؤمن بإله واحد؟؟؟!!!. و ما سر تمزقنا و نحن نؤمن بقرآن واحد؟؟؟!!!. و ما سر تمزقنا و نحن نؤمن بنبي واحد؟؟؟!!!. و ما سر تمزقنا و نحن نؤمن جميعا بالجنة و النار و التوحيد و العدل و النبوة و المعاد كلها مجتمعة معا؟؟؟!!!. بل و نؤمن أيضا بأهل البيت و قداستهم و حبهم و ولائهم، و إن اختلفنا في خلافتهم و إمامتهم.
فإذا كانت القواعد متقاربة لهذا الحد، فلماذا كل هذا التمزق و الاختلاف و النزاع و الصراع و التفرق حول فهم دين الإسلام و تعريفه، حتى بتنا ألف فرقة و فرقة، و ألف مذهب و مذهب ...على غرار ألف ليلة و ليلة طبعا. فمن كل باب يفتح لنا ألف باب، و من كل قصة تفتح لنا ألف قصة و قصة؟؟؟!!!.
هل نحن قادرون فعلا إذا على معرفة الإسلام؟؟؟!!!. هل نحن قادرون على تعريفه؟؟؟!!!. و هل يكفي أن تكون معرفة الإنسان بـ (أصول الدين) عن دليل و برهان (كما يقولون) دون أن يقلد الفرد في ذلك أحدا، ثم يسلم رقبته للعالم المختص و يطلع منها سالم (كما يقولون أيضا)؟؟؟!!!!. هل يصح أن نتبع فيما تبقى العلماء دون وجود خطوط حمراء أو نقاط للتوقف و الانتباه، مع أن كل ذلك الذي تبقى و إن وجد في (كتاب أو سنة) سيكون خاضعا حتما للخلاف في التفسير و التأويل و الاجتهاد؟؟؟!!!.
أليس هذا الإتباع الأعمى هو ما نهينا عنه بالضبط؟؟؟!!!. ألم ننه أن نعرف (الحق بالرجال) بدل أن نعرف (الرجال بالحق)؟؟؟!!!. فهل يكفي فعلا أن نؤمن بالتوحيد و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد عن دليل و برهان، ثم نترك زمام رقابنا لأولئك الرجال (تحت حجة الاختصاص) ليقودوننا إلى أي مكان؟؟؟!!!.
إذا يفسد الدين بذلك ... أليس كذلك؟؟؟!!!. فأعظم الخلاف قد حصل في الفروع أكثر من الأصول. و فتاوى القتل و الاحتراب و التكفير أغلبها يأتي من تلك الاجتهادات في الفروع التي لا ينبغي للفرد المسلم أن يكون له رأي فيها أو انتقاد. فماذا لو أفتى لك مرجعك الديني بوجوب قتل المخالف في فرع من تلك الفروع؟؟؟!!!. ماذا لو أفتى لك (بوجوب) سرقة من لا يؤمن بدفع الخمس مثلا أو (استحبابه)؟؟؟!!!. ماذا لو أفتى لك بوجوب قطع يديه؟؟؟!!!. ماذا لو قال لك أن من يخالفك في المذهب يجب أن يضرب بالعصا إن دخل الحسينية أو المسجد لأداء صلاته المخالفة لمذهب الحق؟؟؟!!!. هل ستناقش حينها؟؟؟!!!. هل ستخالف؟؟؟!!!. و على أي أساس، وهذه ليست من أصول الدين؟؟؟!!!، و لا من مسائل التفكر و التدبر؟؟؟!!!، و أنت لست من أهل الفتوى و الاختصاص؟؟؟!!!.
إذا، هكذا و تحت تلك الذرائع (الاختصاص و النقاش في الأصول فقط) تمت السيطرة على عقول المساكين. و الحقيقة أنه لا أحد فوق النقد، فلا يجب كما علمنا الأئمة أن يعرف (الحق بالرجال) أيا كانوا، بل الحق أن يعرف (الرجال بالحق)، فيرفضوا إن خالفوا الحق كما رفض بلعم بن باعورة في القصة المشهورة، أيا كان.
لكن نفي الاختصاص بهذه البساطة يدفع للهرج و المرج في أوساط الأمة، فعندها يدخل الناس في (حيص بيص) و يتسع الخلاف و يستحكم الاختلاف و يحكم كل إنسان بقبول هذا أو رفض ذاك بناء على رغبته و هواه، فنصبح خارج المسار العلمي، و نصبح ألف فرقة أخرى و فرقة ... بل مليون فرقة جديدة أو يزيدون، فهذا هو النتاج إذا حكم الناس على العلماء بآرائهم البسيطة و أهوائهم التائهة طبعا.
فإذا لم يكن المعرِّف و الضابط و المحدد للدين واضحا و بسيطا و مفهوما و ملزما للجميع، فعندها من الطبيعي أن يحصل التمزق و الانقسام و التناحر في الدين. فالدين الذي لا يضع هذا الضابط الواضح الذي يحمي دستوره من أن (يتلاعب به الرجال) أو أن (تتمزق بسبب غيابه الجماهير) هو دين فاشل و باطل، لأنه يتمزق و يتلاشى بشكل تلقائي، حتى لو استطاع أن يبقى متماسكا أمدا طويلا في الشكل لا في المضمون. لذا نجد الله سبحانه و تعالى يحدد إذ يقول (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(1).
فالمحدد واضح و الضابط معروف و به يقوم الدين و به يقوَّم (رجال الدين)، فالفطرة الإنسانية السليمة و القيم الإنسانية النبيلة المزروعة في نفس كل إنسان و التي لا يمكن خداع المرء فيها و المعروفة للجميع هي خير ضابط. فهل يعذر المرء بعدها إن قلد غيره في تفجير الأطفال الأبرياء أو نحر النساء العجائز أو ذبح الجهلة و المساكين و المجانين ممن لا حول لهم و لا طول؟؟؟!!!. هل هناك عذر لهكذا تقليد؟؟؟!!!. أليس هؤلاء المقلدون هم من ينطبق عليهم قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا اله إلا هو سبحانه عما يشركون) (2)؟؟؟!!!. و الذين يقول الله عنهم (وقالوا ربنا إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (3). فهل ينفع الإتباع الأعمى مبررا، بعد نفي انطباق الآية التي تتحدث عن الأحبار و الرهبان على ذوي الاختصاص من علماء المسلمين؟؟؟!!!. و هل ينفع أن تترجم سادتنا و كبراءنا على أنها تعبير عن أصحاب الجاه بالمال و السلطان فقط، فيخرج (الوجهاء و المتسلطون) باسم الدين و الشرع و الإيمان (أي رجال الدين)؟؟؟!!!. أم كل أولئك في ذلك سواء؟؟؟!!!.
إنه من أوضح الواضحات أن (الرجال) يجب أن يعرفوا بالحق لا العكس، و هنا تبطل حجة و حصانة (الاختصاص)، كما و يسقط السادة و الكبراء و الأحبار و الرهبان تحت مجهر النقد الذي هو في الحقيقة فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و به يحاكم الإنسان. فبـ (الإنسانية) التي هي ثابتنا و القيمة الأصيلة يعرف الرجال و العلماء، فلا مصداقية حينها لمن يدعوا للقتل و الظلم و تكميم الأفواه و سلب الحقوق و الإكراه و التفرقة و التمييز العنصري بمبرر الخلاف في الدين و المعتقد و نبذ الآخرين لمجرد الاختلاف في الرؤى و القناعات و التوجهات و من يحجر على عقول الناس و يمنعهم من المطالعة و المعرفة و البحث عن الحق بأنفسهم، فأولئك كلهم يمكن نبذ فتاواهم و آرائهم و إلقائها في البحر، و يمكن القول لهم: 'ابحثوا عن تفسير غير هذا للدين'. فكل ذلك تنبذه الفطرة الإنسانية السليمة، و يرفضه العقل، و لا يمكن أن ينسجم مع دين صحيح. فهو لا ينبع إلا من الجهل و التخبط، و الحماقات و الأهواء و الأمزجة المتقلبة، و الظلم و التسلط... و هذا ما يجب رفضه و قهره، لا الانهيار أمامه و الاستسلام له.
فإذا رجعنا لفطرتنا حينها لتقييم مرجعياتنا الدينية فسنتقارب و نتعايش و نتحابب في الله و في الإنسانية، أما إذا بقينا نقدس سادتنا و كبراءنا و نجعلهم مقياس الحق و حراس الجنة و الفضيلة و خزنة النيران، فستمزقنا الجهالات و الأهواء شر تمزيق ... و هنا يكون العاقل خصيم نفسه كما يقولون.
لقد قال الله تعالى لنبيه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (4)، و لم يكن ذلك توبيخا للنبي و لا للناس على أي حال، بل كان توجيها ربانيا و لفتا لحقيقة إنسانية سامية و ثابتة، لا تنطبق على صاحب الرسالة فحسب، بل على (الرسالة) أيضا و على الرب الأعلى و الأقدس صاحب الدين كله كذلك. فلو كان الرسول فظا غليظ القلب لأنفض الناس من حوله و لقل الأتباع، و لو كانت الدعوة كذلك (لا إنسانية) للقيت نفس المصير، بل فوق ذلك لو كان الرب تعالى فظا غليظا ظالما لما وجد في الناس من يعبده، و لما وجد الناس مبررا لعبادته و لا رغبة فيها، إذ معظم الناس إن لم يكن كلهم يعبدون ربهم إما رغبة أو رهبة، فما العائد من عبادة الرب الظالم مهما كانت حقيقة وجوده راسخة؟؟؟!!!. من هذه الحقيقة يتبين الحق، و منها انطلق قول الأئمة (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)، ليدلل على النزعة الإنسانية الأصيلة في هذا الدين. وهذا هو ما ينبغي أن يفتح عقولنا أكثر على الحقيقة الإنسانية الأكيدة التي يجب أن نقر بوجودها في كل جزئيات الدين و تفاصيله و تعاليمه، وعلى أساسها يمكن رفض هرطقات المهرطقين و فتاوى الضالين المضلين.