كما تدين تدان

 
بينما كنت في زيارة لمدرسة ابنتي الكبرى ذات الاثنتي عشرة عاما في السنة الأولى  من المرحلة المتوسطة  , وقد كنت احرص ألا اقطع زيارتي  فمن المهم جدا من اجل إنجاح العملية الدراسية  أن تكون هنالك رابطة  بين المدرسة والأسرة لتكتمل السبل  التربوية والدراسية فكلاهما مكمل للآخر . حينما كنت متوجهة إلى غرفة المديرة من اجل أخذ الإذن منها بهذه الزيارة , وبعد ذلك أتوجه إلى غرفة المعلمات لاستفسر عن أحوال ابنتي الدراسية والسلوكية خاصة إنها مرحلة جديدة فبعد انتقالها من المرحلة الابتدائية تغير عليها كل شيء .. فالمدرسة والمدرسات وحتى التلميذات اللاتي يدرسن معها الآن لم تكن تعرف منهن إلا القليل ممن انتقلن معها إلى المدرسة الحالية  . في أثناء ذلك مزق الهدوء الصباحي صوت يشذ عن الأجواء المدرسية حيث جميع الطالبات في فصولهن والأبواب جميعها مغلقة عليهن فلا يسمع إلا صوت المدرسات يشرحن ما لديهن من مناهج , حاولت التركيز أكثر لمعرفة مصدر ذلك الصوت وبالخصوص إن بعض الفصول فتحت وخرجت المدرسات مستفسرات عن مصدر ذلك الصوت , وكلما اقتربت من غرفة المديرة ارتفع الصوت أكثر وتبينت الكلمات التي كانت تنطلق من لسان  إمرأة غاضبة تهدد وتتوعد بالشكوى على هذه المدرسة والمدرسات والإدارة وكل فرد فيها حتى البواب لم يسلم من وعيدها .

وفي الطرف الآخر وقفت مديرة المدرسة ومساعدتها تحاولان تهدأة ثورة هذه المرأة  التي لم يتبين سبب لغضبها بعد . حينها سرت رعشة غريبة في جسدي فهذا الصوت أعرفه جيدا وكان يثير الخوف والرعب في نفسي  . لم اشعر بقدمي وهي تجرني لأدخل غرفة المديرة بدون استئذان . عندها رأيت نفسي أقف أمام شرطي المرور كما كنا ندعوها في المدرسة المتوسطة أستاذة منى . وبالرغم من التغيرات التي طرأت عليها - فقد مرت عشرون عاما أو أكثر منذ افترقنا - نعم إنها هي بذاتها وكيلة مدرستنا في المرحلة المتوسطة ونفس أسلوبها في الحديث والتعامل لم يتغير , فلم تكن تعرف الذوق وحسن الخلق أبدا فلم أكن أراها إلا صارخة ومزمجرة لا يعجبها شيء أبدا , وأكثر ما كان يزعجنا فيها القوانين  المستبدة  التي تضعها وتصر عليها ومن لا يطبقها - أو حسب اعتقادها انه يخالفها - فله الويل والعقاب الشديد . ولا أنس ذلك اليوم المشؤوم الذي ارتديت فيه معطفا وردي اللون  مع ثلاثة من رفيقاتي فلقد اتفقنا أن نرتدي جميعا نفس اللون في يوم واحد لنعلن للجميع صداقتنا وتوحدنا في كل شيء حسب اعتقادنا إن اللون هو الذي سيثبت ذلك . وكان من قوانين المدرسة أن المعطف الذي يلبس في فصل الشتاء  فوق الزى المدرسي  يكون لونه اسود أو رصاصي  ومن يخالف ذلك فله العقاب الشديد . في ذلك اليوم نلنا عقابا متعجرفا ظالما حيث أخرجتنا شرطي المرور- أستاذة منى - في الطابور الصباحي أمام جميع طالبات المدرسة ومدرساتها وحتى عاملات النظافة شهدن ذلك وكالت علينا سيلا من  الشتائم ,وتعدت حدها بالتقليل من تربية أهالينا وهي الآن ستقوم بذلك عوضا عنهم . وذلك بحرماننا من الدراسة في ذلك اليوم حينها حكمت ببقائنا في ساحة المدرسة المكشوفة طوال اليوم الدراسي  وصادف أن الجو في ذلك اليوم كان شديد البرودة وبالخصوص إنها نزعت عنا معاطفنا الوردية  فمكثنا  في مهب الريح , ومن ذلك الوقت أصبت برهاب الطابور الصباحي فكنت أتعمد التأخر صباحا لكي يفوتني الطابور الصباحي . كان باستطاعة أستاذة منى أن تعطينا تنبيها كلاميا أو خطيا بان لا نكرر ذلك التصرف مرة أخرى .. فعقابها الشديد لا يتناسب أبدا مع الخطأ الذي ارتكبناه - إن كان خطأ في الواقع - فلقد تبين فيما بعد أن كثيرا من المدرسات ومديرة المدرسة لم يقبلن بردة فعلها و تصرفها القاسي معنا  ولمنها عليه بعد أن تبين لهن السبب التافه الذي بسببه نلنا هذا العقاب القاسي  .

  ويا للعجب فبالرغم من مرور فترة زمنية طويلة إلا أن القوانين والنظم المدرسية ما زالت كما هي لم تلاق التغيير الذي يجاري التغييرات  الكبيرة في مختلف مجالات الحياة المتنوعة كما هو الحال مع أستاذة منى .

مرت هذه الذكريات في مخيلتي بسرعة بينما أنا أدخل غرفة مديرة المدرسة .. وعندما نظرت إلى وجهها وحاولت أن أتبين ما تقول عرفت  أن شكواها على المدرسة بسبب عقابهم لابنتها بأن حكم عليها بنزع حذاءها واستبداله بنعال رث لا يليق بمقامها ويؤثر على أناقتها المعهودة دائما ،  واستمر ذلك طوال اليوم الدراسي بعد أن نالت نصيبها من التوبيخ الشديد  أمام طالبات المدرسة  في الطابور المدرسي لتكون عبرة لمن يعتبر . فكان رد المديرة على استنكارها إن العقاب لم يكن عبثا فبالرغم من التحذيرات الكثيرة التي وجهت إليها , والخطاب الذي أرسل إلى أسرتها إلا أنها لم تبال . كما إن المدرسة لم تلحظ تعاونا من قبل أم الطالبة بالحضور إلى المدرسة للتفاهم والبحث عن الحلول التي تساهم في تقويم شخصية ابنتها . فهي تقوم ببعض التصرفات التي لا تليق بطالبة في المرحلة المتوسطة , حيث ترتدي حذاء عالي الكعب وتضع احمر الشفاه خلال الحصص المدرسية وترتدي ما يحلو لها من الحلي والإكسسوارات , وتستهين بالمدرسات وتسيء التصرف  مع زميلاتها في الفصل , ولهذا اضطرت مديرة المدرسة إلى هذا العقاب عله يجدي معها نفعا .  نظرت إلى مديرة المدرسة  باستغراب وسؤال يدور في عقلي ويلح علي إن اطرحه عليها .. أعجزت العقول المربية عن إيجاد عقاب جديد لا يشمل  الاهانة أمام الجميع ؟ أم إن التربية المدرسية لابد أن تمر بتحقير شخصية الطالبة وإذلالها أمام زميلاتها ومدرساتها ؟؟

وزاد من دهشتي  رد أستاذة منى البعيد عن المنطق والتربية فهو كما في المثل  - عذر أقبح من فعل - فقالت والشرر يتطاير من عينيها إنها ابنتها الصغرى المدللة التي لا تنهاها عن شيء أبدا وفي اعتقادها انه لابد أن تعاملها المدرسة بنفس الأسلوب , وإلا سينزل على هذه المدرسة العقاب الشديد .. فيا له من رد ينافي العقل والمنطق .

أصبت بصدمة كبيرة ..فأين القوانين الصارمة التي كانت ( أستاذة منى ) تفرضها علينا وننال عليها العقاب القاسي .. وان كانت أمورا تافهة مثل عدم وضع شريطة بيضاء في الشعر ، أو أن يكون لون الجوراب أبيض والحذاء اسود ومن تخالف ذلك فلها الويل ثم الويل .

تمنيت أن  أصرخ في وجهها قائلة : لماذا لم تعلمي ابنتك بعض الآداب المدرسية  التي كنت تحاسبيننا عليها ؟  فهي لم تعاقب أبدا تلميذة لتقصيرها في دروسها ، ولم توجه تحذيرا لمن لم تؤد الواجب المدرسي بل كان عقابها دائما لأمور تافهة وبسيطة , فكنا نكن لها الكراهية ،  ولا نتمنى لها الخير أبدا بعكس أستاذة نورة التي استطاعت بأخلاقها وتفهمها لنا ونحن في سن حرجة أن تكسبنا جميعا . فعندما  تتجاوز الفتاة  سن العاشرة  تمر بتغير كبير في تفكيرها وتوجهها وحتى جسدها فعلامات الأنوثة تبدأ تظهر عليها , ولهذا يكون احد أهدافها المهمة – في نظرها -  أن تبين  للعالم من حولها هذا التغير وذلك عبر تصرفات يراها البعض خاطئة ومشينة ومخلة بالآداب , وهذا ما كانت تبينه لنا أستاذه نورة عبر أحاديثها لنا وتوجيهاتها في أوقات الفراغ , وكانت تستغل غياب أي مدرسة لتحل محلها إذا لم يكن لديها درس فنلتف حولها وهي تسدي لنا النصح حول المحافظة على صحتنا وطريقة تفكيرنا , وحتى أسلوب لبسنا , فتبين لنا ما يسمح لنا الشرع والأدب والعرف بارتدائه وان لا نقلد ما نراه عبر شاشة التلفاز من أزياء مخلة بالآداب ومخالفة لديننا الشريف . ولكي تكسبنا أكثر وتنال تأييدنا وحبنا لها كانت أستاذة نورة تسدي لنا النصح الكثير حول أهم نقطة تستحوذ على تفكير أي فتاة في تلك المرحلة وهي كيف تكون جميلة وتحافظ على مظهرها الجذاب . فتنصحنا باستخدام بعض الكريمات والزيوت الطبيعية  الجيدة للشعر والبشرة . وفي كثير من الأحيان تأتي ببعض الخرز والخيوط لتصنع معنا عقدا أو طقم من الإكسسوارات الجميلة التي نتزين بها في البيت وليس المدرسة ولا يزال ذلك أحد تلك العقود احتفظ به ذكرى جميلة ، أتذكرها به كلما وقعت عيني عليه . 

   كانت ( أستاذة نورة ) بالفعل مكملة لتربية المنزل فما تقصر فيه الأم أو تغفل عنه تقوم هي به بديلا عنها .. فوظيفة المدرسة ليس تعليم القراءة والكتابة فقط بل التربية قبل التعليم ، وعلم بلا أدب وأخلاق لا فائدة منه أبدا .

  وبعد أن أنهت أستاذة منى ما جاءت من أجله , وفي المقابل نالت ما تريد حيث وعدتها  المديرة  بأن هذا لن يتكرر إذا حافظت ابنتها على قوانين المدرسة ولم تتعد حدود الأدب والأخلاق مع زميلاتها ومدرساتها ,حينها توجهت للخروج من غرفة الإدارة  وعلامات الغضب ما زالت ترتسم على  ملامح وجهها .

 عندها شعرت بفرح غريب يتسرب داخل نفسي مع إني لا أحب روح التشفي و الشماتة  بالآخرين وتمنيت أن  امتلك الشجاعة وأتوجه إليها بحكمة عظيمة أؤمن بها كثيرا هي ( كما تدين تدان ) .