د.عبد العزيز قاسم، أبت الأقدار إلا أن تجمعنا
كنت يوم الثلاثاء «ليلة الأربعاء» 12 صفر على موعد مع ندوة حوارية في منتدى الثلاثاء بديوانية الأستاذ/ جعفر الشايب 'أبو هادي'، و كان اللقاء مع الضيف العزيز الباحث والكاتب والإعلامي الدكتور عبد العزيز بن محمد قاسم «مشرف ملحق 'الدين والحياة' بصحيفة عكاظ»، الذي لا أنسى له فضل نشر مقالتي المسماة 'أستاذنا عبد العزيز قاسم... لكي لا تتكسر مجاديف الإصلاح'، و التي نشرت تحت عنوان (لكي لا تتكسر مجاديف الإصلاح.. ولكي نصل إلى الهدف)*، وكان اللقاء المطروح تحت عنوان «قراءة في مسيرة التقارب المذهبي».
كان الضيف عزيزا، و الموضوع يصب في بؤرة الاهتمام. فكان من الطبيعي بالتالي أن تتوق نفسي لحضور هذا اللقاء القيم و المهم. لكنني وجدت نفسي قبيل دقائق من اللقاء المرتقب في صراع مع الذات بين اهتماماتي و هواجسي الاجتماعية و الثقافية من جهة، و بين واجباتي الأسرية و شؤوني الخاصة من جهة أخرى. في الأخير قررت على مضض أن أكبح جماح رغبتي في الحضور، و أن أقنع نفسي أن ظروفي لا تسمح لي بحضور هذا اللقاء، لأنني محتاج لتحقيق توازن أراه ضروريا بين الذات و الأسرة من جهة و المجتمع و الثقافة من الجهة الأخرى. لذا قررت أن لا أذهب. قررت هذا طبعا على مضض، و تمنيت حينها أن تكون هناك فرص أخرى في مقبل الأيام للقاء ما.
كنت أعلم في قرارة نفسي أن فوات فرصة من هذا النوع هو بالنسبة لي تجرع غصة، لكن لابد للإنسان الذي تستهلكه انشغالاته الحياتية من أجل أن يعيش أن يكون قنوعا بعقلانية، و أن يتآكل عطاؤه و دوره اضطرارا تحت عجلة الحياة الشاقة التي تأبى على من هم مثلي أن يكون لهم نصيب وافر في الحراك الاجتماعي و العطاء الفكري و الثقافي، لأنهم مضطرون لاستهلاك من نوع رخيص لذواتهم، خلاصته الجري من أجل البقاء في الحياة و الاستمرار و لو بقليل من مردود العطاء. هكذا كان قراري و هكذا كانت قناعاتي، ألست أنا من كنت مقتنعا، و كنت أقول لأحد الأصحاب: أن بناء الذات هو الأولوية التي يجب أن تسبق خدمة المجتمع، و بدونها نخسر كل شيء، و تنهار خدمة المجتمع أيضا؟؟؟!!!.
لقد انتهت قصتي التي ربما شغلتكم بحكايتيها دون داعي يذكر. لكن العجائب في هذه الحياة كثيرة، وهي التي استدعت هذا السياق و هذا السرد. كما أن لي فيما سردت مآرب أخرى. لقد كان من العجائب التي لم أتوقعها أن أتلقى في اليوم التالي لمنتدى الثلاثاء دعوة عزيزة من الشيخ الفاضل محمد الصفار للقاء سيعقد في مجلس سماحة أخيه الشيخ الفاضل حسن بن موسى الصفار، الذي أكن له أيضا كثيرا من الود و الاحترام. و كانت الدعوة على شرف الأستاذ الفاضل الدكتور عبد العزيز قاسم الذي انتظرت اللقاء به طويلا، و كنت كما أخبرتكم مشغولا كثيرا في الليلة الماضية بهاجس اللقاء الذي فات بسبب الأقدار و الظروف. لكن أبت الأقدار إلا أن تعكس اتجاهاتها لتجمعنا معا في جلسة غير متوقعة في مجلس الصفار، عند نعم الضيف، و نعم المضيف أيضا.
لقد ذهبت إلى اللقاء محملا بهم جديد كنت أسائل نفسي حوله خلال هذا الأسبوع. و كنت في الليلة الماضية أتمنى أن أحمله معي لمنتدى الثلاثاء أيضا. كان ذلك الهم عبارة عن فكرة مقالة ظلت تراودني طوال أسبوع تحت عنوان 'الكرة في ملعبكم إخواننا السنة'. طبعا أعلم أن القضية بيننا و بين إخواننا السنة ليست قضية مباراة كرة قدم، لكن ظلت فكرة ما تلح في ذهني في ظل حراك التقارب بين الشيعة و السنة على أكثر من صعيد ... فمن لقاءات تجمع المثقفين و علماء الدين، إلى كتابات ثقافية و مناسبات اجتماعية يختلط فيها الدم الشيعي بدم أخوه الآخر السني، إلى لقاءات و حوارات التقارب و فتاوى و آراء حفظ الدم و صيانة الأنفس و الأموال و الأعراض هنا أو هناك، إلى الجهد و الدور الحكومي في تقريب وجهات النظر و رأب الصدع بين مختلف الأطراف ... لكن ظل هناك من وجهة نظري القاصرة (ربما) شيء ما مهم من الدور المفقود و القصور. إنه قصور على ما أعتقد واضح و ملموس، بل إنه غياب حقيقي تام أو شبه تام - في مسألة تحريك التقارب - ، لدور كبار العلماء في المدرسة السلفية -التي هي أشد الأطراف السنية من حيث إبراز حدة الخلاف مع أبناء المذهب الشيعي- التي تستحق في نظري لهذا أن نلقي عليها شيء من اللوم.
إذا نحن بحاجة لهؤلاء العلماء السنة في المدرسة السلفية أن يتحركوا - و لو بتأثير أو دور من الواعين -، و أن يكون لهم دور، و أن يكون لهم رأي واضح و صريح - دون شروط مسبقة -، في مسألة التقارب، و في تحريم الدم الشيعي، و في حفظ المال و العرض. و أن يتحملوا في سبيل ذلك ما تحمله علماء من الشيعة من أمثال آية الله السيد السيستاني، و آية الله السيد فضل الله، و الشيخ الصفار ... و آخرون، و لو وصل ذلك حد الشتم، من معارضيهم من أبناء جلدتهم المخالفين لهم.
المهم هنا أنني ذهبت لمجلس الصفار في ضيق من الوقت بعد انصرافي من العمل، بعد تهيئة نفسي للقاء طبعا. فجئت متأخرا بسبب الظروف و بعد مقر العمل. حضرت وقد شارف اللقاء على الانتهاء للأسف، إلا أنني أدركت شيء يسيرا من اللقاء الذي سبق الغداء أقلا، كان فيه خير كثير.
في تلك اللحظات و الدقائق القليلة التي جمعتني بنخبة من علماء الدين و المثقفين المعروفين من أبناء المنطقة و التي بدأت باستقبال حار يشكر عليه الأستاذ الدكتور عبد العزيز و الشيخ الصفار، علمت أيضا أنني كما كنت أنتظر و أتوق للقاء الدكتور القاسم من قبل في ندوة الثلاثاء، كان هو أيضا منتظرا لهكذا لقاء كما أخبرت، و قد تفضل مشكورا بالسؤال عني، و الاهتمام بشخصي البسيط، و هذا من فضله و جود أخلاقه طبعا.
المهم هنا أنني وجدت نفسي في ذلك اللقاء متفقا مع مداخلات الدكتور عبد العزيز قاسم 100 في المائة، بل أكثر من ذلك و يزيد. بل وجدتني ألمس في كل تعقيب أو مداخلة يطرحها أو رد، نوعا من الوعي الراقي الذي كنت أبحث عنه، كنت شاكا في الحقيقة في وجوده ذات مرة بهذه القوة، بسبب قراءتي لمقال له داخل نفسي بسببه شيء من الاستفهام و الشك، لكنني وجدت الوعي الحقيقي حاضرا بقوة هذه المرة. بل فاجأني حضور كل ذلك الوعي الذي غالبا ما لا أجده في آخرين، بل أتوقعه فلا أجده في كثير من الأشخاص. و على العموم وجدته في الحقيقة يطرح كل ما يتفق مع أفكاري و يجول في خاطري حول الموضوع و بدقة و صلت حد التطابق، في تلك اللحظات القصيرة طبعا.
و هنا قد يقال 'بل غلبك هواك في القاسم و الصفار'، أو 'لا تستعجل فقراءة الأشخاص تحتاج إلى الوقت لا إلى الارتجال و الاستعجال'. و هنا أقول 'بل يكفيني حرارة اللقاء بين دم شيعي و آخر سني في هذا اللقاء. فلا تشغلونا بما تعيشونه من انقسام، (كفانا الله شره). بل و أزيدكم من الشعر بيتا، لقد ذاب الجليد بيني و بين السنة يا إخواني الأعزة من زمان. و على العموم: (أبت الأقدار إلا أن تجمعنا)، و سنلتقي إنشاء الله بإخواننا السنة يوما ما و إن أبى الجاهلون، و سنجتمع بتقديره تعالى مهما أفسد المفتنون'.
و على العموم، في الأخير أريد أن أقول للجميع: 'إن عدد الطرق إلى بناء اللحمة بين السنة و الشيعة هو من وجهة نظري بعدد نجوم السماء، و مفاتيح التقارب التي يجب تحريكها، متعددة: منها عصا السياسة بلا شك - المؤدبة طبعا -، و منها اللقاءات الثقافية و الاجتماعية و الارتباطات المصلحية، و منها نقاشات و حوارات التقارب، و منها دور كبار القوم (وهم العلماء) الذين يفتون في هذا الصدد في الجانبين، و منها الحوارات الوطنية، و منها الكتابات و المقالات الإصلاحية، و منها تجريم سب الصحابة، و منها تجريم فتاوى القتل و التكفير ... الخ. و إن تهميش أي دور منها جميعا يعني قصور في الرؤية و تهميش جزء من الحقيقة. لكنني أحب أن أؤكد أمام جميع المخلصين سنة و شيعة بوضوح أيضا، بوضع إصبع على حقيقة أؤمن بها و اعتقدها مهمة يجب تحريكها، أختصرها بالقول: أينكم يا سادة يا كبار العلماء في المدرسة السلفية السنية المحلية من: (خارطة التقارب بين المسلمين الشيعة و السنة)، و (أين فتاواكم في حفظ الدم و صيانة عرض و مال المسلم أيا كان)، و (أينكم من صناعة السلم بين أطياف المجتمع و شد تلاحمه)، (أين مشا ريعكم هنا)، و التي يمكن أن تمهد جميعا للقاء مصالحة و وفاق بين السنة و الشيعة، بل تصنع تقدم الوطن و رقيه و انسجامه؟؟؟!!!'.