ابن الرومي شاهدا على عصر الإمام العسكري (ع)
عند مراجعة السيرة المكتوبة عن أئمتنا المتأخرين نلاحظ أن ما وصلنا عنهم شيء يسير، وذلك بسبب الظروف السياسية التي أحاطت بحياتهم، ومنعتهم من الاحتكاك اليومي المباشر مع الناس، وحرمت الناس من الاستفادة المثلى من بركات وجودهم وفيض عطائهم .
وهناك جانب آخر يتعلق بكتاب السيرة من مؤرخين وباحثين، حيث لا نلاحظ فيما كتب من سيرة الأئمة عليهم السلام خصوصا المتأخرين الاستفادة من قراءة عصر الإمام بكل تفاصيله حتى نستطيع أن نفهم ظروف الإنتاج الفكري والثقافي والعملي الذي وصلنا عن الإمام، وبالتالي نستطيع أن نقرأه بصورة أكثر قربا من الواقع، فقراءة التيارات الدينية والمذهبية والثقافية والمناخات السياسية والاجتماعية المعاصرة لعصر الإمام وما أنتجته في مختلف الحقول العلمية والأدبية والفقهية والكلامية والفلسفية، أو ثورات دينية واجتماعية أو انقلابات وحروب واضطرابات، كل ذلك سيساهم في اقترابنا من فهم التراث الذي بأيدينا عن الإمام، بل وفهم حياة الإمام نفسه فهما أكثر دقة.
فالإمام العسكري الذي عاش في الفترة من سنة 232 هـ حتى سنة 260 هـ، إذا أردنا أن نفهم حياته جيدا علينا أن نقرأ مجمل الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة، فعلى المستوى السياسي كان العصر العباسي الثاني عصر الأتراك بامتياز، عصر ( بُغا الكبير وبُغا الصغير وأتامش ) يعينون ويخلعون، والحكام لاهون في الملذات سادرون، مما ضعف مركز الدولة فاستقلت بعض الأطراف منشئة دويلات شبه مستقلة، وعلى المستوى الاجتماعي قامت ثورات كثورة الزنج في البصرة وحركة ابن الصوفي العلوي في صعيد مصر وثورة علي بن زيد في الكوفة، كما كان هناك العديد من الحركات السياسية والمذهبية، وظهر التفاوت الطبقي بشكل صارخ بين أقلية مترفة وأغلبية معدمة.
أما على المستوى الثقافي فكان هناك حراك كبير فهو عصر الجاحظ صاحب البيان والتبيين وأبي العباس المبرد صاحب كتاب الكامل في اللغة والأدب وابن السكيت صاحب كتاب إصلاح المنطق، والبخاري ومسلم أبرز أئمة الحديث عند أهل السنة، وابن قتيبة الدينوري صاحب ( عيون الأخبار ) وكتاب ( الشعر والشعراء )، ومحمد بن جرير الطبري المؤرخ المشهور، واليعقوبي المؤرخ والجغرافي صاحب تاريخ اليعقوبي وكتاب ( البلدان ) والبلاذري صاحب كتاب فتوح البلدان وكتاب ( أنساب الأشراف ) ، وأبي حنيفة الدينوري صاحب كتاب الأخبار الطوال وابن طيفور صاحب كتاب بلاغات النساء وغيرهم كثير، وفي الفلسفة يعقوب بن إسحق الكندي الفيلسوف الذي تغني شهرته عن تعريفه.
أما على صعيد الشعر فقد عاصر الإمام العسكري العديد من الشعراء من أبرزهم البحتري وابن المعتز وابن الرومي الذي يعد شاعر الإمام .
لقد ساهم ابن الرومي بقصائده الرائعة في كشف الكثير من الأحداث والأوضاع في عصره، وسنشير هنا إلى قصيدتين تتحدثان عن حدثين هامين كان ابن الرومي شاهدا عليهما.
الحدث الأول: هو ثورة الزنج عام 255 هـ في البصرة والتي استمرت حتى سنة 270 هـ، وقد تفاعل مع أحداثها المؤسفة ابن الرومي، وكتب فيها قصيدة طويلة نقتطف شيئا منها:
ذادَ عن مُقْلِتي لذيذَ المنامِ شُغلها عنهُ بالدموعِ السجامِ
أيُّ نومِ من بعد ما حل بالبصْـ ـرَةِ من تلكمُ الهناتِ العظام
أيُّ نومٍ من بعد ما انتهك الزّنْـ جُ جهاراً محارمَ الإسلام
إنَّ هذا من الأمورِ لأمْرٌ كاد أن لا يقومَ في الأوهام
لرأينا مُسْتَيْقظين أموراً حسبُنا أن تكونَ رُؤيا منام
أقدم الخائنُ اللعينُ عليها وعلى الله أيَّما إقدام
وتسمَّى بغير حقٍّ إماماً لا هدى اللَّهُ سعيَه من إمام
لهفَ نفسي عليكِ أيَّتُها البصـ ـرةُ لهفاً كمثل لفحِ الضِّرام
ومنها أيضا:
كم أخٍ قد رأى أخاهُ صريعاً ترِبَ الخَدِّ بينَ صَرْعى كرامِ
كم أبٍ قد رأى عزيزَ بنيه وهْوَ يُعلَى بصارمٍ صمصام
كم مُفدّىً في أهلهِ أسْلمُوه حين لم يحْمِه هنالك حامي
كم رضيع هناكَ قد فطموه بشبا السيف قبل حينِ الفطام
كم فتاةٍ بخاتِم الله بِكرٍ فضحوها جَهْراً بغير اكتتام
الحدث الثاني: مقتل يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين، وكنيته أبو الحسين، وقد قتل أيام الخليفة العباسي المستعين، فرثاه ابن الرومي برائعته الجيمية المشهورة التي نقتطف منها:
أمامك فانظر أيَّ نهجيك تَنْهجُ طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ
ألا أيُّهذا الناس طال ضريرُكُم بآل رسول الله فاخشوا أو ارْتجوا
أكُلَّ أَوانٍ للنبي محمدٍ قتيلٌ زكيٌ بالدماء مُضرَّجُ
تبيعون فيه الدينَ شرَّ أئِمَّةٍ فلله دينُ الله قد كاد يَمْرَجُ
ومنها أيضا:
أبعدَ المكنَّى بالحسين شهيدكم تُضيء مصابيحُ السماء فَتُسْرَجُ
لنا وعلينا لا عليه ولا له تُسَحْسِحُ أسرابُ الدموع وتَنْشِجُ
هكذا كان ابن الرومي شاهدا على عصر الإمام العسكري ومسجلا لأحداث خطيرة فيه.
ومن المناسب أن نذكر ما كتبه السيد محسن الأمين ( قدس سره ) عن ابن الرومي تحت عنوان: (المؤرخون يظلمون ابن الرومي)، حيث قال بعد كلام مفصل:
ويا لعنة التاريخ لشاعر أو مفكر أبعدته طبيعته أو ظروفه عن قصور الملوك وحاشيات الملوك، كما أبعدت ابن الرومي إذ أبت عليه أن يتصرف مع الملوك تصرف ذوي الملق والزلفى إليهم، فأبغضوه وأهانوه وأنكروا شأنه، فإذا هو محروم مزري محقور، وإذا المؤرخون يعرفون من سيرة بعض المغنين أضعاف ما يعرفون من سيرة شاعر عظيم كابن الرومي (1)
نقول تعليقا على كلام السيد الأمين: ما أشبه الليلة بالبارحة.