خلاصة:الاستبداد ظاهرة طبيعية، والعلاج هو (التغيير الواعي)*
إن تناول الاستبداد باعتباره ظاهرة طبيعية قد يوحي للبعض بالقبول والرضى والخضوع الضمني لهذه الظاهرة السلبية، لكنني أردت من خلال هذا الطرح أن يكون مدخلا لإعادة تشخيص وتحليل والتأكيد على طبيعة هذه الظاهرة، في مجتمع قد يرى في الظاهرة استثناءً مغايرا لما يجب أن يكون عليه واقعه الإنساني أو واقعه الإسلامي بالخصوص، دون إيمان بضرورة توفير كامل الشروط وخلق كامل المقدمات الضرورية للتغيير. ولأن الأمراض التي لا تشخص على حقيقتها يستعصي علاجها فتستفحل أو يقع الإنسان معها في دوامة من التناقضات، لذا وجب الولوج لهذا الموضوع من هذا الباب بالتحديد.
لذا يمكننا القول في مقام الاستشهاد على طبيعة الظاهرة أن قول المتنبي في بيته الشهير:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
ليس مقولة إشكالية تستوجب منا كثيرا من النقاش والبحث، فالنصوص الدينية والثقافية والأدلة العقلية قبل كل شيء تتكاثف في هذا الخندق لتفرز لنا دلالة واضحة تؤكد أن الإنسان من حيث الطبيعة كان دائما وأبدا (ظلوما جهولا) وبكل ثقة يمكننا القول (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، لذا كان من السهل أن نجد نصوصا كثيرة ثقافية ودينية وتاريخية منثورة هنا وهناك نستشهد بها تؤكد تلك الحقيقة، فالاستبداد والظلم طبائع بشرية لا يصح أبدا التعامل معها على أنها استثناء يخرجنا كمسلمين عن سياق الواقع.
وكشاهد هنا يمكننا أن نجد سماحة الشيخ فوزي آل سيف في كتابه (رؤى في قضايا الاستبداد والحرية) ينحى نفس هذا المنحى المؤكد لطبيعة الاستبداد حين قال أن الاستبداد لا ينحصر في النظم السياسية لأنه "في كل شخص يوجد مشروع استبداد... في كل شخص مشروع طغيان وتفرد"، ثم ضرب لذلك عدة أمثلة.
فهذه النصوص يمكننا خندقتها جميعا في جبهة واحدة لبيان حقيقة كثير من الأفكار الدينية والسياسية الخاطئة التي لا تلتفت لحقيقة أن الاستبداد خصوصا في العصر الحديث ليس ظاهرة فردية ينتجها أفراد أو تتجسد في المستبدين بعينهم، بل هي في الحقيقة جسد كامل متعدد الأعضاء، فالأمة بكاملها تشارك في صناعة الاستبداد على قاعدة (كما تكونوا يول عليكم).
وهنا يمكننا أن ننطلق من نفس هذه الفكرة لتوجيه النقد لتلك الأفكار الدينية التي تختزل أي عمل كالعمل الموسيقي مثلا في شخصية واحدة مغفلة عمل الفريق وأثر مشاركة الجمهور ودور المصانع التي صنعت الآلات وقيمة الإعلانات وتأثير الثقافة وأنماط التفكير السائد في المجتمع ... الخ، فالاستبداد التاريخي في الأمة لا يجوز أن ينظر إليه باعتباره صنيعة أفراد معدودين تجاوزوا الأمة ومبادئها، كما لا يصح اعتبار (الإمامة) مثلا التي هي جعل إلهي بوابة الحل الديمقراطي الكامل القادر على إلغاء كافة المصالح وتهميش كل الصراعات الموجودة في واقع الأمة، بضغطة زر واحده - وهي المغالطة التي وقع فيها الشيخ آل سيف في كتابه -، في الوقت الذي يبقى فيه الرق متخندقا حتى في بيوت المعصومين ، معلنا الاستسلام القسري والحتمي لظروف و شروط الواقع.
إن الواجب علينا كمسلمين أن لا نتوقع من الإسلام أن يكون طلسما سحريا نقيده في معصم مشاكلنا فتحل في الحين واللحظة، لأن الإسلام ليس هو تلك العصى السحرية التي قد تتخيلها أحلام الجماهير ولا القدرة السحرية التي تطاردها مثاليات المصلحين الدينيين، فالإسلام هداية وإرشاد عام ويبقى المجال الطبيعي مفتوحا للتفكير والسعي والاجتهاد وحراك الإنسان نحو الهداية والأهداف السامية.
إن خلوصنا للنتيجة السابقة ينبغي أن يدفعنا للبحث في طبيعة الاستبداد من منطلقات أرضية بشرية، فالأسباب والدوافع والنتائج والحلول الأرضية البشرية التي تعرفها كل العقول البشرية - والتي ذكر آل سيف كثيرا منها -، قابلة للدراسة البشرية وخاضعة للمنطق الطبيعي ... سواء كانت الأمة أمة مسلمة أم لا، لذا هنا ينبغي أن نقصي أو نقلص تطفلنا وتلصصنا المفرط كمسلمين على الغيبيات.
لقد أدرك الشيخ عبد الرحمن الكواكبي بما عرف عنه من تألق وتميز في التفكير طبيعة الاستبداد البشرية هذه، رغم ما يمكن أن يؤخذ على بعض جوانب فكره الديني من أخطاء وضيق أفق. لذا نجده يرى أن الحكومات العادلة إذا أمنت المسؤولية والمؤاخذة، فإنها تسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه، ولذا فهو يرى ضرورة أن تقيد الرعية وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها، وينتهي الكواكبي إلى أن الحكومة أيا كان نوعها لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة، وأن الأمم المتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد التخلص من الاستبداد.
ولاشك أن الشيخ آل سيف الذي نحن هنا في سياق بحثه القيم في كتابه (رؤى في قضايا الاستبداد والحرية)، لا يخالف رؤية الكواكبي تلك في الكلام السابق الذي ذهب إليه، خصوصا بعد أن نعرف أنه قام بتخصيص قرابة نصف كتابه لدراسة موضوع حرية التعبير وضوابطها وإشكالات ذلك في الفكر الإسلامي خصوصا ساعيا لفتح مساحة أكبر للحرية الفكرية تقهر الاستبداد والديكتاتورية ولو بقدر مخصوص.
ورغم الانفتاح الذي ذهب إليه آل سيف إلا إننا عندما نسلط بعض ضوء النقد على إشكالات وردت في الكتاب لا نريد انتقاص هذا البحث القيم الذي قدم للجمهور ضمن خصوصيته ليعزز ثقافة الجماهير المناهضة للاستبداد، بل نؤكد هنا وقوفنا مع الشيخ في القيام بهذا الدور الكبير، إلا أن إشكالات المعالجة وطبيعة المأزق الحرج المكرس للاستبداد في بعض صوره الثقافية لا أقلا الذي وقع فيه ولازال يقع فيه الخطاب الإسلامي العام يدفعنا ويستوجب منا وقفات في هذا الاتجاه.
لذا فإننا لو تجاوزنا في هذه العجالة سرد جزء يسير من كثير من صور الاستبداد السياسي الذي مورس عبر التاريخ في كل بقاع العالم وفي كل الأمم المؤكد أن الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم كانت ولازالت تسير في مقطورة عالمية يدفع بعضها بعضا باتجاه نهاية واحدة تقريبا - وهو الأمر الذي أغفله الكاتب آل سيف في الكتاب-، فحينها لن تقف رحالنا إلا على أنقاض الخراب الذي ورثناه بسبب استبداد ديني وآخر سياسي أو (هجين ديني سياسي يتكون منهما معا) إن صح التعبير، تذرع بكل شيء فأفسد كل شيء وتمكن من سلب الأمة كل خيارات المقاومة وكل قراراتها في كل المجالات السياسية وغير السياسة.
وعند هذه النقطة كان لابد أن تكون لنا وقفات مع الشيخ فوزي آل سيف في كتابه نؤكد من خلالها تغاضيه ومجاملته في الكتاب بشكل غير مبرر للخطاب الديني الشيعي المدعم في بعض صوره للاستبداد وتركيزه في المقابل على خطاب المدارس الإسلامية الأخرى، ثم تغاضيه أيضا عن ضبابية الخطاب الإسلامي العام وتناقضاته في خضم الآراء المتعددة والمتضاربة المطروحة في الساحة وبالخصوص هنا في موضوعي حرية التعبير وحكم المرتد في الكيان الإسلامي، بل وقوفه فوق ذلك في نفس الخندق المؤيد لتقييد الحرية بضوابط دينية ضبابية لا ندري بأي نكهة مذهبية ستكون ولا بطعم أي فترة زمانية ولا كيف ستطبق في ظل الإيمان بحرية بناء الإنسان للمعتقد وتكوين القناعات الخاصة في قضايا مثل قضايا أصول الدين، ولا ندري كيف سنتعامل في ظلها مع تنوع النسيج الاجتماعي والتقلبات الاجتماعية و الثقافية والعقدية الطبيعية التي قد تحدث في أي مجتمع دون أن يخلق ذلك القمع والظلم والاستبداد.
وهنا في الختام من الطبيعي أن يقتنع مثلي أن نتائج الشيخ في كتابه الذي نحن في سياق الحديث عنه كانت إشكالية غارقة في الضبابية بحيث لم تكن مقنعة ولا عملية بالشكل الدقيق، وهذا يدفعني للبحث عن طرح آخر يكون أكثر واقعية وإقناعا وهو ما أراه قد تمثل في طرح الدكتور توفيق السيف الذي رأى أن التعبير عن الرأي حرية مطلقة لا مكان فيها للضابط ولا مكان فيها للمنع والاحتكار، على قاعدة تفسير ما طرحه الدكتور على أنه دعوة لانطلاق الإسلام وقيمه انطلاقة تعيدنا للمراحل الأولى من سيرة الإسلام حين خرج للنور من وسط الجمهور فلم يفرض عبر العنف بسيف سلطان أو عصى ديكتاتور، فالإسلام الذي يمكن بحق أن يحيي الأمة ويحجم الاستبداد بأفضل الصور الممكنة في أرض الواقع، يجب أن يأتي بطريقة ديمقراطية أي من خلال صناديق الاقتراع التي لا يصح أن تلغى أبدا بل لابد أن يكون زمام السلطة الضابطة باستمرار بيد الشعب والجمهور، وبالتالي نكون أمام حرية تقيد بالحرية فقط أي أن الضابط الأصيل فيها هو الاقتراع والانتخاب والفرز الدائم والمستمر لقوانين وقيم المجتمع الذي لا يصح أبدا التعاطي معه باعتباره صخرا ليس به حراك و أنه خالي من التبدلات والتحولات الفكرية والثقافية والعقدية التي لا يصح أبدا التعامل معها بالجبر والإكراه إلا في الأنظمة الديكتاتورية والقمعية فحسب، وهذا بالتأكيد ما يرفضه الإسلام.