المرجع المدرسي : عاشوراء.. مصباح صلاح ومسيرة إصلاح
بيان سماحة المرجع المُدرّسي"دام ظله" بمناسبة محرم الحرام
بسم الله الرحمن الرحمن، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد خلقه محمد وآله الطاهرين.
السلام على الحسين، وعلى جده وأبيه، وأمه وأخيه، والأئمة من ذريته المعصومين، صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.
السلام على الحسين وعلى المستشهدين بين يديه.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى من سار على دربك اللاّحب.
أيها الإخوة المؤمنون.. يا من تلتهب نفوسكم اليوم بتجدُّد ذكرى السِّبط الشَّهيد، وكلُّكم آمل في أن تلتحقوا بركب أبي الأحرار وسيد الشهداء، وأن تنجوا بسفينة النجاة من مصائب الدنيا وأهوال الآخرة.
- أيها الإخوة:
عاشوراء مشكاة نور تزداد على الزمان تألقًا، كما الشمس إذا طلعت ينتشر ضياؤها كل حين بإذن ربها. إنها كانت حادثة فأصبحت تيارًا مباركًا، وكانت بطولة نادرة فأصبحت مُلهمة العالم بكل بطولة نادرة. كانت ظاهرة أليمة فأصبحت قضية تتجدد عند كلِّ مظلوم ومُستضعف.
أصبحت كربلاء الشهادة راية ترفرف على كل طائفة تطالب بحقها، ووسامًا على صدر كل إنسان يبحث عن قيمة سامية ويتحدى الموت بطلب الشهادة في سبيل الله.
عاشوراء اليوم أمل واعد، لكل العصور، وكربلاء اليوم راية منشورة على كل أفق.
- إخواني المؤمنين:
لماذا هذا التوسع المستمر؟ أَلِأَنَّ الله سبحانه شاء أن يرفع شأن الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنه جاهد من أجل رفع كلمة الله؟.
أم لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإمام عليًّا (عليه السلام)، والصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وأئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام)؛ أرادوا عبر أحاديثهم المضيئة أن يبقى الإمام مصباحاً يضيء مع إشراقة الشمس في كلِّ صباح، وسراجاً ينير مع طلعة القمر في كلِّ ليل داجٍ.
أم لأن شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) عقدوا العزم على أن ينتصروا له ويأخذوا بثأره وهو ثار الله، وكل واحد منهم ينتظر إمامه الغائب عجل الله فرجه ليكون من أنصاره فيأخذ بثأر السِّبط الشَّهيد.
أم لأن الإمام الحسين وملحمة عاشوراء وكربلاء الشهادة، أصبحت متفاعلة مع قيم الحق والعدل والحرية؛ فهو (عليه السلام)، رمز كل بطولة، وقضيته راية كل مسيرة، ونهضته عنوان مشاعل الفداء والتضحية.
أقول: إذا أراد الله سبحانه شيئاً هيَّأ له أسبابه. وقد تعلَّقت مشيئته بأن يجعل من سيد الشُّهداء عَلَماً مُضيئاً، ورايةَ حقٍّ منشورةً مع الزمن وفي كل أفق. وتلك الأسباب الأخرى هي عوامل ظاهرة لتلك الإرادة العُليا.
- عاشوراء؛ شموخ الإنسان الكريم
أيها الإخوة:
ونحن السائرين على دربه والمستضيئين بنوره علينا أن نستفيد من تلك المنارة الرفيعة ضوءاً يُنير كل زاوية من حياتنا، ونستفيد من تلك السفينة الوسيعة السريعة، حتى لا يغرق أيُّ شخص منا في لُجج الشَّهوات، ولا تبتلعه أمواج الفتن المضلة.
أيُّ عذرٍ لإنسان يملك شمساً مضيئة كالسِّبط الشَّهيد أن يبقى في ظلامٍ دامس؟! وأيُّ تبريرٍ لمن يملك سفينة نجاة كهذه السفينة أن تلفَّه أمواج البحار الهائجة؟!
لا عاصم عن أوامر الله إلا بمن أمر الله بالتمسك به والانتماء إليه
- أيها الإخوة:
تعالوا نتوكَّل، وبكلِّ عزمات القلب، على الله، ونتَّخذ من مصباح السِّبط ومن سفينته وسيلةً لحلِّ مشاكلنا، والتَّغلُّب على أوضاعنا، سياسيَّةً كانت أو اقتصاديَّةً أو اجتماعيَّةً.
تعالوا ننتفض على ذواتنا، ونجبر ضعف إرادتنا بالتوكُّل على ربِّنا، وبالاستلهام من واقعة الطَّفِّ الحافلة بالبطولات.
إن الذين يرسبون تحت قاع الشَّهوات، ويعيشون في أوحال اللذات العاجلة، ولا يعرفون قيمة للمَكْرُمات، ولا لذة للتضحية من أجل الحق، إنَّهم في سكرة الدُّنيا، وغيابات فتنتها، إنَّهم كالأنعام.. بل هم أضل سبيلاً.
- قيم النهضة الحسينية أساس المدنية
أيها الإخوة:
إن الإمام الحسين (عليه السلام) راية وحدة لنا، تعالوا -ونحن نعيش ذكراه العطرة- نتجاوز ذواتنا والحواجز التي تفصلنا عن بعضنا، نتواصل مع بعضنا، ونُنَمِّ عزيمتنا، ونُعِزَّ إلى عزتنا، ونعمل معاً في سبيل حلَّ مشاكلنا.
كلا لم يُكتب علينا أن نعيش أبداً في ذلِّ التفرُّق والتمزُّق، ولا في ظلِّ الاستعباد والكبت، ولا في أغلال الفقر والتخلف أو الجهل والتعصُّب. تعالوا نشطب، وبقلم الهمة القعساء، على هذا الواقع المرير، ونتحدَّ بعزم البطولة الحسينية، وبصولة الأريحية العباسية، وبصبر الاستقامة الزينبية.
إنَّ السلوك الذي لا ينتهي إلى الوحدة، وإن الأخلاق التي لا تسلُك بنا طريق التعاون، وإنَّ الخطاب الذي لا يشجع على التكافل والتكامل؛ إنها جميعاً مخالفة لروح الشريعة وقيم الحضارة.
أَوَلم يقل ربنا سبحانه (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ،(1).
وقال:(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)، (2).
وقال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ،(3).
إن على خطباء المنبر الحسيني الكرام أن يحذروا الناس من مواقع التفرق ويدعوهم إلى تجاوزها بإذن الله سبحانه. وأن يأمروهم بالاهتمام بالعتبات التي تجمع كلمتهم وتحت راية السِّبط عليه السلام.
إن هذه العتبات الحسينية والمساجد والحسينيات، والمواقع التي تشكل فيها، هي أفضل إطار لتوحيد الكلمة، وجمع الشمل، وحل الخلافات الجانبية، والتشاور في أمور الدين والدنيا، ثم التعاون على البر والتقوى؛ لنكون بإذن الله صفًّا متراصًّا كأنه بنيان مرصوص.
- عاشوراء حقيقة الدين وغاياته
أيها الإخوة:
إن إبليس يُدلِّس علينا، ويُبرِّر ضعفنا، وينفث في قلوبنا اليأس، وإن من تدليسه تفريغ تعاليم الدين من محتواها، وإن نهضة السِّبط الشَّهيد أعادت إلى المسلمين روح الدين ومعانيه وقيمه وأهدافه، وعلَّمتنا مقاصده.
إن صلاة ابن سعد في كربلاء ما كانت إلا مُكاءً وتَصْدِية، وإنها لا تُقرِّب أحداً إلى الله، وعلينا أن نتجنبها ونقيم صلاة الإمام الحسين (عليه السلام) في محراب الشهادة؛ حيث جمع حفنة من تربة كربلاء ووضع عليها جبهته المفضوخة بالحجارة، وأخذ يُسبِّح الله ويتضرَّع إليه، ومع كلِّ نَفَسٍ منه كانت جراحاته الكثيرة تتنفَّس بالدم. هذه هي الصلاة.. أفلا نتعلم من السبط الشهيد؟.
وإن النُّسُك الذي يكتفي صاحبه بذبح البهائم في منى الأضاحي ليس وحده يُقرِّبنا إلى الله، وإنما ذلك النُّسُك الذي يجعلنا مستعدين للتضحية بما نملك من غالٍ ورخيص من أجل الحق، إنه هو النُّسُك، وهكذا علمنا السبط الشهيد. أفلا نتعلَّم منه لنصبح أعزَّاء نعيش فوق جبين الشمس، لا نخشى عدوًا ولا نهاب ظالمًا.
- إحياء عاشوراء وتعزيز حقائق الدين
إن روح النهضة الحسينية هي من روح القرآن الكريم، ومَنْ تشبَّع بحب السِّبط الشَّهيد، وتفاعل حقًّا مع نهضته، ورقَّ قلبُه، وجرى دمعُه عليه، واستشاط غضبه ضد ظالميه؛ لابد أن يتبصَّر روح القرآن، لأن القرآن لم ينزل من أجل تبرير تقاعس الكسالى، وتعذير ضَعَفَةِ النفوس، وإنما جاء لاستثارة العقل، وإنهاض العزم، وتطهير القلب.
وهكذا يجب على خطبائنا الكرام أن يُوجِّهوا الناس إلى روح الكتاب، ويأمروهم بتعهّده، وتأمل دروسه وعبره، والتدبر في آياته؛ ليكون القرآن مصباح حياتهم، ونبراس سيرتهم، وضوء ضمائرهم.
في ليلة عاشوراء، التي كانت عظيمة على آل الرسول حيث أزفت ساعة الشهادة، واقتربت عاصفة البلاء؛ إنه (عليه السلام) استمهل أعداءه سواد تلك الليلة لكي يتلوا المزيد من آيات الكتاب.
فأين نحن أيها الموالون من ذلك الكتاب؟ لماذا هجره بعضنا وبعضنا الآخر يتَّخذ من الثقافات الدَّخيلة رؤاه، ويهمش دور كتاب الله العزيز؟!.
علينا ألّا ننسى وصية إمامنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قُبيل رحيله من الدنيا: «الله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم»،(4).
- أيها الإخوة الموالون:
إن الإمام الحسين (عليه السلام) وريث الأنبياء جميعاً، ونهضته إحياء لكلِّ رسالات الله التي اكتملت بالإسلام. وكذلك فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: «حسين مني وأنا من حسين»،(5).
ويوم عاشوراء هو التحدي الأكبر بين الرسالة وبين الشيطان، وهكذا كان علينا أن نُكرِّس قواعد الدِّين في مثل هذه الأيام، ونؤكد على الصلاة والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
علينا أن نضع آلية اجتماعية للعودة إلى الدين ومبانيه ووصاياه، وألّا تمر علينا الذكرى لنعود إليها في كل عام بمثل ما كنا عليه في سابقه.
علينا أن نجعل من بيوتنا وأسرنا بيوت الذكر التي كانت مشكاة نور الوحي كما بيت الرسول وأهل بيته والتي قال عنها الرب:) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) ،(6).
على الآباء أن يتعاهدوا أبناءهم وزوجاتهم بالدراسة الدينية المُركَّزة، التي تتحدَّى الثقافات الدَّخيلة، وتتغلَّب على إغراءات الحياة الحديثة، وتُصلَّب الأبناء ضد مشاكل الحياة.
على العلماء أن يُحوَّلوا المساجد إلى مراكز للتوجيه الحقيقي، ويُعمِّقوا فيها الدِّراسة الدَّينية العميقة.
وعلى الأغنياء أن يُؤسِّسوا المشاريع الدِّينية التَّربويَّة مثل رياض القرآن، ومدارس أكاديمية دينية، وجامعات علميَّة ذات صبغة إسلاميَّة، وفضائيات ذات نهج تربوي متين.
وعلى المثقفين أن يتشكلوا في هيئات ليفكروا في كيفية صدِّ الشُّبهات الوافدة، ووساوس الشيطان، ولتنمية روح الدين.
وهكذا على كل فرد أن يتخذ موقعه في الدفاع عن قيم الدين، وتطوير مناهجه الحياتية، ومواجهة الفتن المضلة.
- في ركب الحسين نحو عالم الاقتدار والكرامة
أيها الإخوة:
بلادنا وشعوبنا تعيش أزمات توطَّنت فينا وكأنها لا تقبل الزوال، وعلينا ألَّا نيأس في مواجهتها، كالفقر والجهل والكبت والدجل وما إليها، مما جاءت الشرائع الإلهية لإزالتها، وكانت نهضة السِّبط الشَّهيد (عليه السلام) ضدها. واليوم علينا أن نستفيد من تلك النهضة لمواجهتها.
وأول ما نحتاجه لذلك أن نعي أن الإسلام دين الحياة الدنيا كما هو دين الحياة الآخرة، كما قال الله سبحانه:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ،(7).
وكل فرد منا يجب أن يستفيد من الدِّين وقوته وعزمه للانطلاق في الحياة الدنيا كما الحياة الآخرة. أنت أيها الموالي مدعو لتكون أكثر تطوراً في حياتك، أكثر غنى وحرية وكرامة.
وإذا تركَّزت نيَّة النهضة عند كل واحد منا لابد أن نُطوِّرها إلى عمل جمعي ضمن مؤسسات حضارية حديثة، كالشركات التجارية، والجمعيات الاجتماعية، وهيئات للدفاع عن الحقوق المهدورة، وللعمل من أجل بناء مستقبل أفضل.
أيها الإخوة:
إن واقعة الطَّفِ تمس حياتنا في الصميم؛ وكل واحد منا تتصل بها شخصياً فالإمام الحسين (عليه السلام)، ذلك المصباح الأبهى والأسنى لكل هدى، وتلك السفينة الوسيعة السريعة للنجاة، إنه أمل كل مذنب يبحث عن الشفاعة، وكل مكروب ينتظر الفرج، وكل مستضعف يريد الخلاص، وكل ذي حق مظلوم يبحث عن راية حق ينضوي تحتها للدفاع عن حقه، وأيّ واحد منا لا تَصْدُق عليه واحدةٌ أو أكثر من هذه الحقائق.
فتعالوا نبذل كلَّ جهدٍ ممكنٍ في هذا العام وفي كل عام لكي نُقيم شعائر عاشوراء أكثر فأكثر، ونستفيد منها لواقعنا الديني والحياتي أكثر فأكثر، تعالوا ننصب على كل قارعة عَلَماً حسينيًّا، وفي كلِّ حيٍّ مأتماً كربلائيًّا، وننشر في كلِّ أفق عالمي راية عاشورائيَّة، ونهتف عالياً مع كلِّ شارقٍ وغاربٍ: "يا لثارات الحسين، يا لثارات الحسين". والحمد لله رب العالمين.