استقبال بوجه مختلف
يستقبل الناس العام الهجري عادة بتهنئة ممتزجة بالفرح والحبور، بينما يكون استقبالنا له مختلف، لعل هذا الاستقبال يحمل طابع الحزن، لكنه حزن من نوع آخر، حزن تفرضه هوية معينة لتفاصيل تحمل معتقد نتنابت وسط أرضه باتساق منتظم لنعلو أفق الفهم، فهو يحمل تعزية ليس طابعها استجلاب الحزن واستنطاق فصوله كحزن بحد ذاته لنبدو كمن يهوى البكاء وتحطيم الذات وجلدها دون هدف، لكنه نوع من التوقف اللحظي والتقاط الأنفاس ومواصلة التأمل والتزود بالفكر والمعرفة، إنه نوع من مواصلة شعائر الحج التي سبقته بأيام قلائل، نطلع من خلاله على أشياء وأمور جديدة تخدم هويتنا.
فحتى هالة الحداد التي تلفنا حول رموز حية نستلهم منها العقائد والأهداف والأخلاق والآداب، تعتبر نوع من استكمال مناسك الحج فالناس لهم مشارب ومآرب ويختلفون في سعيهم نحو تحقيق أهدافهم فمنهم من يسعى إليها بسرعة ومنهم من يبطئ في الوصول لها، وآخرون لا ينالهم من مشوارهم غير النصب والتعب، بينما فئة رابعة تتوسط المقام لوصول الهدف، وترى أنها قطعت شوطاً وبقي عليها مزيداً من المواصلة.
لا يعد الحزن دوماً حالة كآبة مرضية واجترار للهموم ونبش للذكريات الأليمة وتعذيب النفس وإرهاقها بما لا تطيق. أحيانا هو نوع من أنواع تصفية الذهن وأخذ مقدار مناسب من الطاقة لمواصلة المشوار، فليس الحزن دوما حالة توقف عن الإنتاج أو تعطيل لمدركات الإنسان وقتل مميزاته وقمع طموحه، بقدر ما يمكنه أن يمنح المرء ثقة للمواصلة والتجديد، هو تماماً أشبه ما يكون بنقطة توقف لالتقاط الأنفاس المتسارعة، خاصة إن عكس الحزن هوية شعب أو أمة أو طائفة ومذهب وكان عنوان من عناوين تخليدها.
ما الذي يميز استقبالاتنا العامة لهذا الشهر، شهر محرم الحرام وهو أحد الأشهر الحرم، شهر العَبرة والعِبرة.. حين تتصفح وجوه الناس في بداية كل عام تطالعك حركتهم في الشوارع وتلحظ تعبيرات وجوهم المختلفة، وترى بنفسك مدى إمكانيات مساهمتهم في الإصرار على إحياء شعائر الحزن ببهجة مختلفة مهما كانت الظروف!، سيبهرك الأمر، وربما تشعر باندفاع نحوهم لعرض مساعداتك أنت الآخر فلا تريد أن تبقى كفيك خالية دوناً عنهم، ومن ثم حين تقرر التنقل بين البيوت والأحياء والأزقة، ستجد الجميع يرتدي حلة السواد ويرفع الشعارات الثورية واللافتات الدينية في كل مكان للتعبير عن تخليد حالة الحداد مع بداية كل عام، وهذا الأمر يعد ترجمة واقعية حية لأجواء سيخوضونها بخيالاتهم وبأرواحهم تحركها عقيدتهم متمنين وجودهم بها فيستحضرونها عبر صفحات التاريخ. إنها تبدو في إطارها العام استعدادات قائمة على قدم وساق تربط المواقف بالكلمات، وتعتبر تجديد لشعارات كثيرة يؤمنون بها، كما تعد تجديد روحي مختلف.
لعل الإيمان بفكرة أن الناس يمكنهم أن يوقعوا وثيقة حية لتصديق واقعهم فيترجمون هذا الواقع عملياً يبدو منطقياً، إذ ليس التعبير عن الحزن هو ارتداء السواد ولا البكاء والتظاهر بالتباكي فحسب، هذه الأمور رغم كونها مهمة من الناحية الروحانية والنفسية إلا أنها ليست مقياس لكل شيء، فلا يمكن أن تقيس الولاء ولا أن تحدد هويته أو تعطي المقدار المناسب لمستوى عمقه بمجرد مظاهر خارجية. وبعيدا عن الشعارات واللوم وانتهاك المناسبات أو حتى المغالاة فيها وتقديسها فالأمر تراث عقائدي سماوي يعكس هوية أمة من الأمم، أمة محبة وان تعثرت في تقديم محبتها كما يجب لا كما هو واقع تعيشه.
نعم، البعض يحاول والبعض يقفز وآخر لا يبالي من أين تبدأ الأمور وإلى أين ستنتهي به، فهي من وجهة نظره أيام كباقي الأيام ثم يطوى قيدها في سجلات العمر وترتحل كغيرها من أحداث وكأنها لم تكن، ولكل حرية ما يهوى وما يعتقد بشرط أن لا ينال من رأي الآخر وينتقصه، فيتهاوى الصرح العام الذي يجمع الهوية المذهبية. أما محاولة التصدر والتصحيح على اعتبار أنها ربما برأيه حقيقة فهي لم تثبت صحتها حتى الآن.
إن ممارسة الشعائر بدون الدخول في تفصيلات كثيرة وتصنيفات قد يقبلها البعض أو يرفضها آخرون تعني الحفاظ على هوية معينة تخص مذهب وعقيدة. إذ ما الذي يوضح هوياتنا كمجتمعات وشعوب عقائدية من ارتباط بالعقائد والدين من ناحية القياس على مستوى الشعوب والأمم غير الممارسة لبعض الشعائر الدينية وأخذ قسط وافر من الفكر المطروح خلالها، خاصة حين يستهدف الأمر طرح لمشاكل معينة ومعالجة موضوعية لها..
وأياً كان رأي المنتقد لها فهي على أية حال ضرورة نحتاج لها لتوضيح بعض الجوانب المغلقة، حين نمعن في قراءة القاعدة التي نرتكز عليها كجانب من هويتنا، قراءة تعد موضوعية بعيدا عن النقد والتشنج في القبول أو المبالغة في الرفض. وهذا الأمر حدا بالبعض لتبني توجهات مختلفة منها الاستهانة بوجودها وتجريد الداعين لها من الموضوعية وقد وصل الأمر عند البعض الآخر لمستوى التعميم بالجمود والتخدير للعقول، لعل الأمر لا يخلو من تعصب لفكر أو مؤازرة لتوجه معين!
على كل حال فبعيدا عن تعليق أسباب التأخر وعدم التقدم، كالعادة على مشجب جمود أفكار الخطباء وعدم تفعيل طرحهم بمشاكل المجتمع الحساسة وربطها بالقضية التي تطرح من فوق المنابر، أو بأن السبب الحقيقي هو محاولة الخروج عن المألوف وطرح الفكرة بأسلوب حداثي جديد، بعيداً عن أجواء تقليدية استهلكت وما عادت تتناسب والعصر الحاضر، إضافة إلى ضعف أو ركاكة وجدت هنا أو هناك، فيجدر بنا الوقوف على الأسباب الحقيقية التي تدفع كلا الاتجاهين للتصادم دون أن يقدم كل منهما دراسة جادة ومدخل بديل لمواجهة الفشل الذي يراه من منطلق تفكيره.
في البداية علينا الاعتراف أن هناك بعض الاختلاف بين رأي ورأي آخر. وبشكل عام فانه يوجد نوع من التشابه في الكثير من الأفكار التي يتبناها الناس في المجتمع حول ممارسة إحياء الشعائر الدينية بطريقة معينة، وبما أن الناس هم عصب القضية التي يبدو أمر التنازع على طريقة طرحها.فهم إذاً لأدرى بنوعية المشكلات التي يواجهونها. وبما أن مجتمعاتنا كذلك هي مجتمعات عاطفية ولائية يوقدها الولاء ويحركها نحو هدفها، فعلى الأقل لنتركها تعبر عن حالة النهوض والعزاء بالكيفية المناسبة لها، دون أن نتدخل في وضع قياسات معينة لمستوى التأثر من عدمه، فالمسألة نسبية لها علاقة بنوعية المتلقي وأفكاره وقناعاته ومستوى التجريد العاطفي من عدمه، فلا يعني وجود الظلام إطفاء الشموع بدلاً من إشعالها والجلوس مكتوفي اليدين نراقب الوقت لطلوع النهار، فمن يدري هل سيطلع علينا ذاك النهار أم لا، لأن إغلاق الفكر لا يخلق غير ظلام آخر لا يمكن أن تبدده مئات الشموس.
على العموم، سيبقى لهذه الأيام وقع خاص يسافر بنا نحو قصة الضوء ويلمس قلوبنا وعقولنا معاً لتحركها نحو قراءة الأهداف. فحين تستطيع القراءة يمكنك أن تتلمس مسالك دربك.. ومن يستطيع تلمس الدرب يمكنه أن يحلم بالكمال لأنه صار يملك مفاتيحه.
وإذاً، فلنستقبل الشهر الحرام بأي نوع من الاستقبال حزن بحداد على المصيبة، أو فرح بأخذ نصيبنا من طرح فكرة جديدة، أيا كان نوع الاستقبال، فليكن الهدف واحد، حزن وحداد على وقوع الظلم، وبهجة متجددة بتواصل الولاء.