شيء من ثقافة المناعة لا سياسة المنع!

 هذه العبارة من عبارات الدكتور سلمان العودة، جاءت في سياق دفاعه عن مشروعية السينما كوسيلة إعلامية مثلها مثل التلفزيون. وفي تقديري أن هذه العبارة تحمل وصفاً مختصراً لمشكلتنا في التعامل مع الجديد، وليس السينما فحسب.

(الممانعة) هي نقطة البداية، و(القبول) هو محطة النهاية، والتاريخ يزخر بالكثير من الأمثلة التي تؤكد هذه المقولة. لاحظ -مثلاً- الذين يعترضون على الكتب المعروضة في معرض الكتاب هذه الأيام، تجد أن فكرة (المنع) هي التي تدور عليها مطالب القوم، بينما أن التحصين و(المناعة) لا يعيرونها أي اهتمام، لأنها الوسيلة الأصعب، وفي الوقت ذاته (الأقوى) في مواجهة القادم الغريب.

ؤلاء النوعية من البشر هم أكثر الناس شعوراً بالضعف، والوهن، وعدم القدرة على مواجهة الفكر بالفكر، والرأي بالرأي، والحجة بالحجة، وإن تظاهروا بالقوة ورباطة الجاش. الذي يرى نفسه ضعيف المقاومة، هشاً، يعتقد أن الآخرين ستنهار دفاعاتهم أمام إغراء الفكر الجديد، وبدلاً من مواجهة القادم الجديد بالتحصين والمناعة، يدعو إلى حجبه، وإعاقة انتشاره. ربما قد تنجح في المنع نظ! رياً، ويستجاب لضغوطك في بادئ الأمر، غير أن الحياة المعاصرة، والتكنولوجيا على وجه التحديد، حطمت- علمياً- كل القيود، وأسقطت كل الأسوار، واختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين؛ فالإنترنت أصبح يقدم لك المعلومة أياً كان مصدرها دون أدنى حد من الرقابة، والفضائيات ساهمت في نقل الخارج بقضه وقضيضه ليغزوك في عقر دارك، وجعلته أمام ناظريك، ليصبح ذلك (المسكين) الذي يرفع عقيرته مطالباً بالمنع، وممارسة الوصاية على عقول الناس، كما كان الأمر في السابق، هو أبعد ما يكون عن الواقع والعصر. فالكتاب، أو الفكر، الذي تعتقد أنه سيدمر ثقافتك، ويهز قناعاتك، سيجد ألف طريقة وطريقة للتسلل إلى بيتك، وإلى أبنائك وبناتك، لتصبح في المحصلة مثل ذلك الذي يحافظ على باب بيته الأمامي، ويحرسه بعينه (المتيقظة)، بينما باب بيته (الخلفي) مشرع على مصراعيه ليل نهار، وما أكثر مثل هؤلاء بالمناسبة.

وأنا مؤمن إيماناً راسخاً أن مواجهة هذا التحدي الذي يمطر علينا من الفضاء ونعجز أن نصد غزوه، ليس أمامنا للتعامل معه إلا التحصين الفكري والثقافي ما أمكن، وفي الوقت ذاته ندرأ ما هو أخطر بقبول ما هو أقل خطراً، وهنا تحديداً بيت القصيد! .

نحن - أيها السادة- في أمسّ الحاجة إلى التعامل مع التحديا! ت الثقاف ية بموضوعية وواقعية. أن نغالط، أو نكابر، أو نعتقد أن بمقدورنا أن نعيد (الأسوار) إلى ما كانت عليه في الماضي، فنحن بذلك أشبه ما نكون بذلك الحالم الذي يصر على أن بمقدوره إعادة عجلة الحاضر إلى الوراء.

ومرة أخرى، لا يمكن التعامل مع التحديات الثقافية والإعلامية التي جاء بها عصر العولمة إلا من خلال (تحصين) المجتمع، والارتقاء بقدراته المناعية الذاتية، أما المنع فهي سياسة الفاشلين الضعفاء ذوي الثقافة التي ترتعد مفاصلها خوفا عند المواجهة.
إلى اللقاء.