مهزلة الغزو الفكري

شبكة مزن الثقافية

          بين الفينة والأخرى تتجدد التحذيرات من ما يسمى بالغزو الفكري، في إشارة إلى أن العالم الإسلامي والأمة العربية بصفة خاصة تعاني من غزو فكري عنيف يشنه الغرب عليها، في محاولة منه لإضعاف الهوية العربية والإسلامية الأصيلة لدى شباب هذه الأمة، هذا طبعاً كما يقوله المحذرون.

          وبغض النظر عن ما إذا كان هذا الكلام دقيق أو لا، فلا بد لأي إنسان يعيش على هذا الكوكب من التواصل مع الآخرين، إذ أنه لا يستطيع العيش بمفرده في عزلة تامة عنهم، لذا جاءت المقولة الاجتماعية الشهيرة "أن الإنسان مدني بالطبع" فهو لابد أن يتواصل مع الآخرين، ومن الطبيعي أن يؤثر ويتأثر بهم سلباً أو إيجاباً، ولا يختلف الأمر كثيراً إذا كان هذا التواصل بين أفراد عنه إذا كان بين جماعات أو أمم وشعوب.

          ولقد ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات ، الآية 13. إذ أن الآية المباركة تبين بأن الهدف الإلهي من جعل الشعوب والقبائل هو للتعارف والاختلاط والتعايش، ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا الأمر التأثير والتأثر المتبادل.

          لذلك نرى أن الفكرة التي جاء بها المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون حول صدام الحضارات لا تخلو من صحة، لأن الحضارات من الطبيعي أن تتصادم وتتصارع فيما بينها، ومع أن البعض يرفض هذه التسمية ويحاول التخفيف من حدتها ويستبدلها بعبارة حوار الحضارات، إلا أنني لا أميل إلى ذلك، لأن هذه العبارة لا تكشف ولا تعبر عن الواقع الفعلي كالعبارة الأولى،  ففي الواقع يتجلى لنا بكل وضوح حالة تصادم الحضارات البشرية وصراعها مع بعضها، وذلك في نواحي كثيرة ومتعددة، سواءً كانت سياسية واقتصادية أو علمية أو ثقافية وفكرية، وليس بالضرورة أن يكون هذا الصراع مباشر أو معروف أو حتى مقصود، إذ أن مجرد الاختلاف والتأثير والتأثر بين حضارة وأخرى ينتج عنه صراعاً وصداماً وهذه هي الطبيعة بشرية.

          من هنا يأتي هذا التساؤل: هل هناك غزو فكري مقصود موجه للعالم العربي والإسلامي أم أن هذه نتيجة طبيعية لتأثره بالحضارة الغربية ؟

  • هنا عدة نقاط :

الأولى : من الطبيعي أن يتأثر العالم العربي والإسلامي بالغرب حتى ولو لم يكن هناك غزو فكري مقصود، لأنه يعتمد بشكل كبير جداً على نتاج الحضارة الغربية، سواءً كان ذلك في الميادين العلمية والمعرفية أو في الميادين الاقتصادية والتجارية أو في الميادين الأخرى . 

الثانية : إن الكثير من الشعوب العربية والإسلامية تمتلك نفوس مهزوزة ومهزومة من الداخل، لذا نراها تحاول تبرير ضعفها ووهنها وفشلها بشتى الطرق والوسائل، ومن ذلك نسب هذه العيوب إلى الآخرين وتصويرهم على أنهم سبب كل ما نعانيه من مشاكل وفتن، في مشهد يوحي بأن الآخرين قد امتلكوا مفاتيح القدر التي أضعناها. 

الثالثة :  إذا كان هناك غزو فكري غربي فلا بد أن يشمل جميع الشعوب والأمم الضعيفة التي يتمكن منها ويستفيد من تأثيره عليها، كما أنه بالتأكيد لا يمكنه أن يشل القدرة على النهضة والتطور بالشكل الذي نتصوره، وإلا كيف استطاعت اليابان رغم هزيمتها في الحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم؟ وكيف تمكنت بالرغم من هزيمتها من غزو الأسواق الأمريكية والعالمية ؟ ! وكيف استطاعت إندونيسيا وهي بلد ضعيف أن تصل إلى النهضة التي وصلت لها الآن خلال فترة زمنية قياسية؟ 

          إنني أعتقد بأن قضية الغزو الفكري مبالغ فيها كثيراً، وأن إيماننا وتصديقنا بها أكبر بكثير مما تمثله على أرض الواقع، كما أنها تعبر بشكل أو بآخر عن حالة أنفسنا المهزوزة، وهي أيضاً محاولة للتبرير عن ضعفنا ووهنا أكثر من كونها محاولة لتشخيص الواقع أو التحذير منه.

          إن البعض أصبح لديه هواجس من الغزو الفكري؛ فكل شيء سلبي ينسبه لهذا الغزو، وكأن الدنيا كلها لا شغل لها ولا شاغل إلا أن تحيك المؤامرات ضدنا، حيث أصبحنا نعلق ونعزو كل فشل وكل مشكلة كبيرة أو صغيرة  للخارج، وكأن مشاكلنا لا تأتي من الداخل أبداً.

          ولقد بالغ البعض في تصويره لقضية الغزو الفكري؛ لدرجة خيل له بأن كل أمر نجده في مجتمعاتنا يخالف عاداتنا ومبادئنا وقيمنا العربية والإسلامية يرجع إلى غزو فكري مقصود ومتعمد، ومن ذلك ما قيل عن تأثير بعض القنوات الفضائية غير المحافظة، إذ أن البعض نجده يقول بأنها من نتاج الغزو الفكري الغربي، وهو ينسى أو يتناسى أن الكثير منها قنوات عربية برؤوس أموال عربية وبإدارات محسوبة على العرب والمسلمين، فهل أصبحنا يا ترى نغزو أنفسنا بأنفسنا؟ !!

          مهما يكن، فإن مشكلاتنا في الكثير من الأحيان أننا لا نسمي الأشياء تسمياتها الصحيحة، فنقول غزو فكري وهو أحياناً فشل داخلي و وهن فكري، ونقول نكبة العرب بدلاً من هزيمة العرب، ونقول صابرون بدلاً من خائفون وعاجزون، وهكذا نتهرب من التسميات الحقيقية لكي نتهرب من مسؤولياتنا وواجباتنا تجاهها.

          عموماً، إذا كان الغزو الفكري موجود؛ فإنه بالتأكيد ليس بمقدار إيماننا به، لأن أغلبه كما أعتقد أمر طبيعي ناتج عن تأثر المجتمعات ببعضها البعض، فما دمنا نعيش في هذا العالم، فلابد لنا من التأثر به والتأثير فيه، وإن كان تأثيرنا ضعيف جداً فإن هذا يرجع إلى كوننا مجتمعات ضعيفة وهزيلة وليس أكثر.