خطاب التسامح.. لِمَن؟
توافينا دعوات مِن هذا المنتدى،وذاك الملتقى لحضور محاضرة أو حوار لبعض المثقفين والأكاديمين، ورجال العلم حول موضوع التعايش والتسامح والتقبل للآخر، وما إلى ذلك مِن مفردات لا تخفى على المتتبع للحراك الثقافي التي تحياه ساحتنا، وتلك رؤية رشيدة تدفع نحو الوحدة الإسلامية، والألفة والتواصل بين أبناء الدين والوطن الواحد، والمصير المشترك، وإنها لغاية نبيلة لا يرفضها عقلٌ حصيف، وفطرة سليمة، والسؤال الجدير بالتأمل مَن الأولى بمثل هذه الخطابات والحوارات والندوات، التابع أم المتبوع؟، مَن يملك منبر الوعظ والإرشاد، وحق الحكم والإفتاء أم عامة الناس الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قول سمعنا وأطعنا؛ لكيلا يحكم عليهم بالتمرد والعصيان والخروج عن جادة الملة والشريعة؟!.
لم ولن يصبح عيباً ومنقصة أن يراجع رجل الدين نفسه، وينظر في قناعاته، ومبانيه التي حكم على أساسها بضلال هذه الفئة، وكفر الأخرى لعله يجد شبهة أضلَّ معها الطريق، وأخطأ بها الحكم، إلا أن يرى نفسه وريثٌ للأنبياء في عصمتهم كما انه وريثٌ لهم في علمهم!، وإن قبلنا جدلاً بذلك، فمن الوريث منهم رغم اختلافهم؟!.
لعلي إلى الآن لم أتجاوز حدي المشروع في التساؤل، ولم أبتعد عن ساحة الرحمة التي عَرفتُ بها قدر نفسي.
إننا نجد الأحوج إلى دورات تأهيلية مكثفة في فن التعايش مع الآخرين، وروح التقبل للآخر،وآليات التفكير المنطقي،الأحوج لهذا وغيره «التكفيريون» الذين لا يتورعون في الحكم على فرقة محورية، ومؤثرة في الحضارة الإسلامية على امتداد التاريخ بأنهم كفرة ضالون مبتدعون.
ليس من العيب إعادة النظر في قناعاتنا وتصوراتنا نحو الآخر، وهذا لن يهدد هويتنا، أو يهزَّ عقيدتنا، ومهما بلغ الإنسان من الشأن والعلم فلن يلام إذا ما جلس على كرسي الحوار مستفهماً الآخر ومسائله: مَن تكون؟ عرفني نفسك؟ لن أحكم عليك بناء على معرفتي القاصرة فحسب.. يقول الشاعر:
قُـلْ للـذي يدعـي بالعلـم مرتـبـةً عَرفتَ شيئاً وغابت عنكَ أشياءُ
أليس من شأن العلماء التواضع؟ أولم يكن رسول الله ، وأهل بيته الطاهرين، وصحابته الكرام من المحاورين لمن خالفهم في العقيدة والدين؟ قال تعالى مبيناً الروح الإسلامية الكبيرة في احترام الآخر: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾.
إننا لنشفق على أصحاب هذه (النزعة التكفيرية) الجائرة التي لا يقبلها دين ولا ضمير ولا عُرف؛ لما جرَّته وتجرّه على الأمة مِن ويلاتٍ يدفع ثمنها الإسلام الذي أضحى غريباً بين حملته فضلاً عن أهله ومعتنقيه!.
لماذا لا نعيد القراءة للنص الديني، والتاريخ الإسلامي المليء بالتسامح والتقبل والتواصل والتودد أم أن ذلك مطلب نُقرُّه مع الديانات الأخرى، لا بين أبناء الدين الواحد!!.
كم كانت الخطوة إيجابية وجميلة عندما تبنت الدولة عمل دورات تدريبية للقائمين على الحرم النبوي الشريف والبقيع على خلفية أحداث البقيع، وكم هي أجمل عندما تتبنى هيئة كبار العلماء مثل هذه الدورات، والحوارات لإعادة النظر في لغة الخطاب وانعكاساتها النفسية والسلوكية بين أبناء الدين والوطن الواحد، والمصير المشترك.
لن نكتشف الذات إلا بالانفتاح على الآخر، والانفتاح الحقيقي لا يكون مع الأحكام المسبقه، والنزعة السلبية.
إنَّ دور علماء الدين يتمثل في ربط الناس بالله بلغة المحبة الوادعة، وروح التسامح والتقبل للآخر ونزع التوتر،وفتح آفاق الحوار الحيادي الهادف بذا تتأصل عوامل الجذب لدى هؤلاء العلماء لمن يأتلف معهم ومَن يختلف، وتصبح الأرضية خصبة لمقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ﴿ ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك مَن هلك عن بينة ﴾، والله الهادي إلى سواء السبيل.