الإمام الشيرازي... بعد في الرؤية وواقعية في الآراء

عدنان الصالحي

 

 أنجبت البشرية عموما والخط الإسلامي خصوصا الكثير من المفكرين والمصلحين والعباقرة بما يشهد التاريخ لهم من انجازات ونقلات كبيرة حققوها لبني البشر، وجميل أن يكون المفكر عارفا بوضع زمانه ملما بعناصر القوة والضعف في المنظومة التي ينتمي لها أيا كانت نوعها وشكلها وانتمائها.

ومع ذلك فإننا لم نشهد إلا القلة القليلة التي تحدثت بطرق مغايرة عن المألوف ووضعت الحلول والمعالجات لمشاكل توقعت حدوثها بعد برهة من الزمن وسبقت الآخرين في تشخيصها وتحديدها ومعالجاتها، وهو أمر يستحق الوقوف عنده والإشادة به، من هذه الأمثلة ما قدمه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي رحمه الله من وقفات وآراء تعبر عن بعد النظر والاستقراء للأمور قبل حدوثها عبر استنطاق المستقبل بدلالات وعلامات الحاضر.

فما قدمه المرجع الراحل السيد الشيرازي كان فيه التفاتات ولمسات مهمة وكبيرة على مستوى تحريك حالة الجمود التي يعيشها المسلمون خصوصا والإنسانية عموما وتحويلها الى واقع ملموس وممكن التطبيق، ليجمع في ذلك بعد الرؤية وواقعية الآراء وبث روح التفاؤل وتحويل الآمال الى واقعية مستندا في ذلك على معالجات وحلول تدور في فلك الممكن والقدرة البشرية الطبيعية.

حيث يقول سماحته في هذا الاتجاه: (...ومع ذلك ما زال هناك بصيص أمل ـ ولو إن نسبة القوة والضعف تختلف من منطقة الى أخرى ـ عن وجود قوة إسلامية في قلوب المسلمين، ومعنويات كبيرة ما زال البعض يحملها على الرغم من كل المصائب والمحن التي مرت عليه، وهذه المعنويات هي التي حفظت لنا الإسلام الى اليوم..).

بالإضافة الى ما تقدم فان الإمام الراحل قد أشار الى نقطة مهمة جدا وهي بيان الصورة الناصعة للإسلام قبال التشويه الذي يتعرض له من قبل أعداء الدين بتصويرهم الإسلام دين العنف والاستبداد، وأغدق على هذا الباب المئات من الأفكار لتكون نظرية (شورى الفقهاء) تتويجا لتلك الأفكار بمجملها، والتي ان أخذت طريقها للعمل ستجد طاقة هائلة تعمل على توحيد المسلمين عموما والشيعة خصوصا وتدرأ المخاطر عن الامة لأنها ستكون وليدة مجموعات من العقول النيرة لا تسلط لفكر او لرأي واحد مستندا في ذلك لمقولة أمير المؤمنين (عليه السلام): (خير الناس من جمع عقول الناس الى عقله) أي بالمشورة والاستشارة.

لقد اعتمد المرجع الشيرازي الراحل التركيز على أسس مهمة للانطلاق نحو ما يروم طرحه الى المجتمع تمثلت في:

الأول: التعريف الواقعي والحقيقي للإسلام وقادته، حتى لا يكون هناك غموض في مواقفهم وأهدافهم وطريقة معالجتهم للحياة، وللقوانين التي جاءوا بها عن الله سبحانه لإنقاذ البشر، حيث قال سبحانه ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.

الثاني: إيجاد تيار إسلامي عالمي من اجل (نهوض المسلمين) و( إنقاذ غير المسلمين) بالقدر المستطاع.

بهذا التحديد رسم الإمام الراحل أول خطوات الطريق وتحويل ما في بطون الكتب إلى مصداق واقعي للشروع بالعمل، ففهم الأساسيات من الضروريات كون التعامل مع الآخرين الذين يتوجسون خيفة من الفكر الإسلامي نتيجة لما أقدم عليه البعض من تشويه لصورة الإسلام، يتطلب ردا بصورة مغايرة تثير الثقة بنا كمسلمين أولا وكجزء من المنظومة البشرية ثانيا، ولعل رد تلك الشبهة يكون بإعطاء الفهم الواضح والتعريف الحقيقي للإسلام وقياداته الفعلية لا الدخيلة، ورفدها بأمثلة من الواقع الحاضر والماضي تحرك الآخر على التفاعل معنا وعدم التخوف مما يثار من هالة الترهيب بالدين الإسلامي.

 وعودا على بدء حيث إن المسلمين اليوم يعيشون حالة من التشرذم غير المسبوق بل وحالة تشظي وتهاجم فيما بينهم فان لطرح أفكار المرجع الراحل وبيانها سيكون له الدور الكبير في وضع الفائدة للجميع موضع التطبيق، هذا فيما لو آخذنا تلك الآراء وعبرنا عنها بصدقية التطبيق وبإصرار النجاح لا جعلها مساحة للشعارات ولقلقة الألسن فقط.

ومن هذه الأمور:

1- جمع الكلمة: جمع كل الأحزاب والتيارات والنشاطات الإسلامية في وحدة واحدة، لها مجلس أعلى (منظمة عالمية) تأخذ على عاتقها تنظيم المسلمين في الدولة الإسلامية.

2- الوعي: إعطاء الوعي بمختلف أشكاله وألوانه للمسلمين، بما لا يقل من ألف مليون كتاب، حتى يصبح التطلع الى الحكومة الواحدة جزءً حيوياً من فكر كل فرد مسلم، وكلما استطعنا أن نبين هذه الفكرة استطعنا أن نخطو خطوات الى الأمام.

3- مواصفات القادة: اتصاف القادة بأخلاقيات عالية توجب التفاف الناس حولهم، والقائد المتميز هو الذي يبتعد عن أدق الصغائر، ويراعي ويحترم عادات الناس وقيمهم ويشاركهم في أمورهم، كما ورد بالنسبة الى أمير المؤمنين علي عليه السلام: (كان فينا كأحدنا).

4- الاكتفاء الذاتي: عن هيمنة الدول الاستعمارية، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (احتج الى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره)، ثم ان الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة السياسية.

5- المؤتمرات: ومن أوليات إقامة الحكومة الإسلامية الواحدة، او التيار الإسلامي العالمي إقامة المؤتمرات الدورية الكبيرة، والمؤتمرات الإقليمية الصغيرة..

6- سياسة الاحتواء: السعي لجعل الأطراف المناوئة والدول المعادية تأخذ موقف حيادي في قبال الحركات الإسلامية، وذلك بالاعتماد على سياسة عدم الإثارة، او التحرك الهادئ، أو ما أشبه من الحكمة والتعقل، وهذا الامر سينعكس ايجابا على مستقبل البلاد الاسلامية عموما.

7 - تجنب الأمور الجانبية: الابتعاد عن الأمور الجانبية الفرعية غير المهمة، والتفكير بالقضايا الأساسية البعيدة المدى التي توصلنا الى الهدف والغاية المنشودة، ولا مانع لأجل ذلك من تحمل المصاعب والآلام والغصص في سبيل الغد المشرق.

8- اللاعنف: وأخيراً إتباع سياسة اللاعنف في كل تحرك، سواء كان قبل الوصول الى الحكومة الإسلامية الواحدة أم بعدها.

وخلاف ذلك فان الإمام الراحل يرى عدم الواقعية تتجلى في أمور منها:

1- إخفاء الحق: إخفاء الحق، وإظهار ما ليس بحق حقاً، فان الحق لجميع أهل الحق، لا لفئة خاصة، فإذا أرادت فئة خاصة الاستئثار بأنها حق، وما عداها باطل، كان ذلك في ضررها في الخط البعيد، وان كان العاجل لها.

2- السباب: وهذا ما يعتاده من خف وزنه، بينما الله سبحانه يقول:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) وقال علي (عليه السلام): (إني اكره لكم أن تكونوا سبابين)، أليس يمكن ان يقول الإنسان حقائق الأمر بدون سباب، وألا يكون ذلك أنفذ في القلوب، واقرب الى العقول؟.

3- التهريج: وجمع الأضغاث في قبال الحقائق، وهذا أيضاً عادة من خفت موازينه، أراد هضم حق الآخرين، فانه حيث لا تبر عنده لا بد أن ينفق من التبن، وقد قال المسيح (عليه السلام): (كل ينفق مما عنده)، والمهرج يريد النفوذ في القلوب بقدر حجم التهريج، بينما لا ينفذ حتى بقدر واقعه الضئيل ـ إن كان له واقع ـ وفي الحديث: (ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم) كما سبق.

4- الاستهزاء بالآخرين: الاستهزاء بالطرف الآخر، وهو من شيمة ضعفاء النفس، فان الاستهزاء لا يولد إلا الاستهزاء، فلكل فعل رد فعل، وإذا كان للإنسان الحقائق فلماذا يتمسك بذيل الاستهزاء، قال الله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).

5- الشعارات الفارغة: إطلاق الشعارات وقطع الوعود، فإنهما مما يضران ابلغ الضرر، فالشعار والوعد سهل لكن العمل بما تحت الشعار وبالموعود صعب، فإذا لم يعمل الإنسان بذلك، حمل كل أقواله وحركاته على السخف والهراء والباطل، إن ضغط عدم الشعار والوعد بقدر الإمكان، كبير على النفس حالاً، لكن ضغط عدم العمل بالشعار وبالمواعيد اكبر في المستقبل، وما عاقل فر من المطر الى الميزاب، ومن الرمضاء الى النار.

6 - العمل الوقتي: فان ذلك قصير المدة، له عاقبة مرة، ولذا يجب ان يكون طرح الحركة وبعدها الدولة مستندا على الواقعية، ولو استوعبت وقتاً طويلاً.

وعلى هذه المبادئ والآراء وما يضيف عليه السائرون في طريق الإصلاح، يمكن التأسيس لمرحلة جديدة ونقلة نوعية في واقعنا المعاصر والمستقبلي، ولعل سماحة المرجع الراحل في طرقه لهذه الأبواب إنما يحاول تشجيع الآخرين أيضا على إيجاد آراء أخرى خارج نطاق التفكير الضيق تكون ذات رؤى واسعة غير محددة بفئة او زمان و مكان معينين فيكون لهذا الطريق الأثر الكبير في تأسيس الفكر العلمي الواقعي لتجسيد مفاهيم النظرية الإسلامية على عموم المعمورة، مع مراعاته لخصوصية كل دين ومذهب نتعايش معه أو نقترب منه فكرا أو عملا، وكذلك تجسيد نظرية الإسلام في السلام والرقي بالإنسان الى قيمته الحقيقية المتمثلة بما حمله الله (جل وعلا) في أن جعل الأمانة في عنقه وهو ما أبت عنها الجبال الثقال:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ... .