المنبر الحسيني والدور المطلوب
إن المشيئة الإلهية اقتضت ألا يكون دور النهضة الحسينية خاصاً بحقبة زمنية معينة، وإنما أراد أن يستمر ذلك الدور العظيم على امتداد مسيرة الأمة، بل على امتداد الحياة الإنسانية.
إبان النهضة الحسينية، كانت الأمة تحدق بها التحديات السياسية والثقافية والاجتماعية، والأمة في حينها كانت تعيش السبات والغفلة عن كل ذلك، إلى أن جاءت الحركة الرسالية لأبي عبد الله الحسين لتكون صاعقاً يوقظ هذه الأمة من سباتها وغفلتها. فالإمام الحسين بثورته الإلهية قدح شرارة التغيير في روح الأمة، حتى تتعاظم هذه الشرارة تدريجياً فتبعث للأمة هويتها وشخصيتها الرسالية. وقد أراد الله لهذه النهضة الإلهية أن تكون زاد الأمة في مسيرتها، وهي تتحرك وتصارع التحديات الرسالية والسياسية.
- خطورة دور المنبر الحسيني
ولكن يا ترى: كيف تتعاظم الشرارة التي قدحها أبو عبد الله الحسين في روح الأمة؟ وكيف تساهم النهضة الحسينية بشكل جذري في بلورة شخصية الأمة وفقاً لقيم الرسالة؟
في الحقيقة هنا يأتي دور المنبر الحسيني، فالنهضة الحسينية إنما تتعاظم أدوارها من خلال الوسائل التي تحمل رسالتها إلى الأمة. إن النور لا بد له من مصباح يتعلق به حتى يضيء الحياة، وكلما كان المصباح أفضل كلما كانت إضاءة النور أشد. وهكذا نهضة الإمام الحسين هي نور يضيء للأمة طريقها وهي تواجه التحديات، ولكن هذا النور بحاجة إلى مصباح! الوسائل التي تحمل رسالة الإمام الحسين إلى الأمة- والتي من ضمنها المنبر- هي بمثابة المصباح الذي من خلاله ينتقل نور الحسين إلى الأمة. ولا شك أنه إذا كان هذا المصباح سيئاً فإن نور النهضة الحسينية لن يصل إلى الأمة بالشكل المطلوب، أما إذا كان المصباح متقدماً فإن نور النهضة الحسينية ستغمر الأمة في وعيها وإرادتها وشخصيتها.
- مواصفات الخطاب الحسيني المطلوب في عاشوراء
ولهذا من يتحمل مسؤولية الخطاب الديني في عاشوراء هو يحمل على عاتقه مسؤولية خطيرة وعظيمة، لأنه هو الذي ينقل رسالة الإمام الحسين إلى المجتمع والأمة.
المسؤوليات الخطيرة والعظيمة غالباً ما تكون محل جدل وكلام بين الناس، وذلك من أجل التجديد والتطوير، والمنبر الحسيني لم يشذ عن هذه القاعدة، حيث أن خطورة دور المنبر وأهميته تقتضي أن يكون محلاً لمحاولات التطوير والنقد البناء. والإنصاف أنه متى ما كان النقد بناءً فهذه حالة صحية، لأن هذا يدل على أن المجتمع لا يعيش سباتاً وإنما هو يراقب المسيرة ويحاول أن يشارك في إنجاحها. بالأمس القريب كان نقد المنبر الحسيني وضرورة تطويره حديثاً للنخبة الثقافية يتداولونه في غرفهم الخاصة، فلم يكن حديثاً وهماً اجتماعياً عاماً، أما اليوم فشريحة اجتماعية كبيرة صارت تتحدث عن ضرورة تطوير المنبر الحسيني وتناقش الأسباب التي أدت به إلى ما هو عليه الآن. وهنا لا نتحدث عن النقد السلبي، وإنما نتحدث عن النقد البناء، فلا ريب أن النقد البناء للخطابات الدينية في عاشوراء يعدُ أمراً غاية في الأهمية من أجل الصعود بالخطابات الدينية إلى المستوى المأمول.
فيا ترى ما هي مواصفات الخطاب الحسيني المطلوب في عاشوراء؟
أولاً: أن يتحمل المنبر أدواره الحقيقية
فيما يرتبط بأدوار المنبر، لا شك أن المنبر الحسيني والخطاب الديني عامة يتمكن من أن يتحمل أدوار متعددة، حيث أنه قد يجد المنبر في هذه الذكرى الفرصة سانحة إلى علاج بعض المشاكل الاجتماعية أو التعرض إلى بعض القضايا العقائدية والثقافية، وهذا الكلام لا إشكال فيه، إلا أن الدور الأساسي هو أن يكون المنبر الحسيني امتداداً لأهداف الثورة الحسينية. الإمام الحسين حينما فجر ثورته وحركته المقدسة كان يعلم بأنه لن يتمكن من إزاحة تلك الطغمة الفاسدة من الحكم، إلا أنه كان هناك واقع فاسد يتطلب التغيير، والإمام كان يستهدف تغيير واقع الأمة، حيث كان الفساد يهيمن على جميع المجالات، على المستوى الروحي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ويمكننا أن نجمل مشاكل الأمة آنذاك في مشكلتين أساسيتين:
المشكلة الأولى: أن الأمة لم تكن تحمل ثقافة رسالية ناهضة تدعوها إلى تحمل مسؤوليتها في مواجهة هذه التحديات، وإنما كانت تهيمن عليها ثقافة تبريرية انهزامية خانعة تدعوها إلى التقاعس والتكاسل عن تحمل مسؤوليتها.
المشكلة الثانية: أن الأمة كانت فاقدة للروح، حيث أن تحمل المسؤولية في مواجهة التحديات والصراعات من أجل الإصلاح بحاجة إلى روح، والأمة حينما تكون فاقدة للروح، تكون فاقدة للإرادة مسلوبة الشخصية، لا قدرة لها على الفعل والدفاع عن قيمها وحقوقها وكرامتها.
ولهذا جاءت النهضة الحسينية لتمد الأمة بثقافة القيم الرسالية؛ كما أنها جاءت لتغير لتبلور في داخل الأمة روح المسؤولية. فالنهضة الحسينية جاءت لتبلور في داخل الأمة روح التغيير الجذري والإصلاح الشامل، وحتى تتمكن الأمة من التغيير لا بد أن تصطبغ الأمة بمبادئ كربلاء. ويا ترى أين هو واقع الأمة وأين هي قيم النهضة الحسينية! أين ما تعيشه الأمة من ذل عن كرامة الإمام الحسين ! أين ما نعيشه من تقاعس وتخاذل عن مسؤولية الإمام الحسين أين ما تعيشه الأمة من انزواء وابتعاد عن تضحية الإمام الحسين ! فما تعيشه الأمة من تخلف واستعباد ليس إلا لغياب قيم النهضة الحسينية عن شخصيتها ومسيرتها، بل إن أمراض الأمة التي دعت الإمام الحسين إلى أن يقوم بنهضته الإلهية لا تزال هي أمراض الأمة اليوم.
ولهذا فإن الدور الأساس المطلوب من المنبر والمطلوب من الخطاب الديني في عاشوراء، أن تكون امتداداً لأهداف نهضة الإمام الحسين وهي لا تكون كذلك إلا من خلال بلورة الثقافة الحسينية التي تنهض بالمجتمع والأمة. وحينما تدخل علينا ذكرى عاشوراء وتخرج والمجتمع بعدُ لم يرقى في ثقافته برؤى الثقافة الحسينية ولم يقتبس ومضاً من روح عاشوراء، فهذا يعني أن المنبر لم يعد امتداداً لأهداف النهضة الحسينية، وأن هنالك خللٌ لا بد من علاجه.
ثانياً: المعاصرة وملامسة هموم الأمة
حيث أن مسيرة الأمة نحو الإصلاح والتغيير تكتنفها كثير من التحديات الثقافية والاجتماعية والسياسية. والأمة بحاجة إلى تتنور ببصائر القيم الحسينية.
حيث أن الساحة الثقافية فيها كثير من الأفكار والثقافات التي تطرح كمحاولات لمعالجة مشاكل الأمة أو كرد فعل لمعوقات الإصلاح القائمة، ونحن بحاجة إلى نعرض هذه الأفكار والثقافات ونحاكمها بميزان القيم الحسينية. حينما نأتي إلى مجتمعاتنا والاتجاهات السائدة فيها، نجد أنها اتجاه التغيير الجذري ليست على موقف واحد، وإنما توجد عدة اتجاهات.
أولاً: فهناك ثقافة الانزواء والتراجع التي ولدتها سنين القهر والكبت والتخلف؛ وهذه الثقافة تمثل قناعة لدى الكثيرين، ولا شك أنها تنعكس على الموقف العملي إزاء الاتجاهات الإصلاحية.
ثانياً: وهنالك ثقافات أخرى تدعي أنها تستند على الواقعية في معالجة المشاكل القائمة، وهذه الثقافة أيضاً تمثل قناعة لدى فئة من النخب الثقافية.
ولا شك أن قيم النهضة الحسينية هي الميزان لكل هذه الأفكار والثقافات والمواقف، وفي عاشوراء لا بد أن نحاكم كل الثقافات التي توجه سلوك الأمة.
وهكذا الأمة في بنائها الاجتماعي فيها كثير من السلبيات والنواقص، وهي لا تتمكن من تحمل مسؤوليتها نحو التغيير بهذا البناء الاجتماعي المُهلل. وهكذا الساحة السياسية فيها كثير من التحديات التي تواجه مسيرة الأمة، والحراك السياسي بحاجة إلى أن يتنور ببصائر القيم الحسينية.
إن قيم النهضة الحسينية هي بمثابة الشمس، التي تشرق في كل يوم على يوم جديد، وهي في كل يوم تشرق على واقع الأمة وما فيه من تحديات، لتنير للأمة واقعها ومسيرتها.. والخطاب الديني في عاشوراء حتى يقدم شيئاً للأهداف الحسينية لا بد أن يكون معاصراً للتحديات الملحة التي تواجه مسيرة الأمة.
ثالثاً: العمق والجدية في الطرح
ثم إن أحد الصفات المطلوبة في الخطابات الدينية هو العمق والجدية في الطرح والمعالجة. فمجتمعاتنا على المستوى الثقافي تعيش حالة من الصعود، فما كان مناسباً بالأمس لم يعد مناسباً اليوم، وكلما كان تنامت الحالة الثقافية في مجتمعاتنا كلما تعمقت الحاجة إلى تعميق الخطاب الديني في عاشوراء. ومن الملاحظات التي يسجلها كثير من المتابعين على خطباء المنبر، أنها تفتقر إلى العمق في طرح المشاكل ومعالجتها. فالمعالجات التي تطرح على المنبر في الأعم الأغلب تتسم بالبساطة في الطرح والمعالجة، ولا ريب أن الذي يعالج الإشكاليات ويرقى بالمجتمع ثقافياً هو المقاربات الثقافية المعمقة، وليس الخطاب البسيط المُسطح.
- من يتحمل مسؤولية الحالة التي وصل إليها المنبر؟
هنا لا بد أن نقف وقفة صريحة في تقييم الواقع ومن أجل وضع النقاط على الحروف. الكثيرون حينما يأتون لنقد المنبر الحسيني وكيفية تطويره يلقون باللائمة على الخطباء فقط وفقط، وهذا الكلام ليس بصحيح. فكما أن خطباء المنبر الحسيني يتحملون جزءاً من المسؤولية، كذلك المجتمع يتحمل جزءاً من المسؤولية.
فمهمة خطباء المنبر اليوم ليست مهمة سهلة أبداً، وإنما هي صعبة خصوصا وأنها غدت مهمة مزدوجة من شقين؛ العبرة والعِبرة. والخطيئة الأساسية من عموم الناس والمتدينين أنهم يطلبوا من الخطباء أن يكونوا في القمة في العبرة قبل العِبرة، ولا شك أن هذا خطأ كبير! لأن هذه النزعة التي تسيطر على شريحة كبيرة من المجتمع سوف ترهق الخطيب وتستنزف كثيراً من جهوده وطاقاته في هذا البعد، مضافاً إلى أن هذه النزعة تضيق الدائرة على المؤسسة الدينية، وحينها سوف تخسر الساحة الطاقات الفكرية والثقافية المبدعة التي تتمكن من الاستجابة لمتطلبات الساحة، وما يحتاجه الواقع من معالجات ثقافية وغير ذلك.
كما أنه ينبغي على الخطباء ألا يسعوا إلى تكريس هذه الحالة، وعدم الانسياق وراء ضغوط المجتمع. فأن تختزل نهضة الإمام الحسين بما لها من أبعاد رسالية وحضارية عظمى، أن تختزل فقط في الدمعة، فهذه جريمة كبرى بحق النهضة الحسينية.
ينقل أحدهم عن أحد المجالس في إحدى الدول المجاورة، بأنه بعد أن ينتهي أحد الخطباء، يرتقي المنبر أحد العلماء- وهذا العالم معروف في الساحة العلمية باجتهاده وأطروحاته العلمية المعمقة والمتميزة- إلا أن من يجلس للاستماع إليه لا يتجاوز أصابع اليدين في أحسن الأحوال. فلا شك أن هذه النزعة تضيق الخناق على كثير من العلماء والمفكرين وتحرم الساحة من عطائهم.
ولهذا لا بد لنا أن نعيد النظر في هذه النزعة الموجودة عندنا، أو أن نطرح في الواقع صيغ جديدة تحافظ على التوازن المطلوب بين العبرة والعبرة. ولذا إن رسالة الإمام الحسين هي رسالة عظيمة، وهذا ما يُحمّل المنبر الحسيني مسؤولية كبيرة وخطيرة، والمسؤولية الأساسية التي ينبغي أن يتحملها المنبر في عاشوراء أن يكون امتداداً لأهداف النهضة الحسينية، فحينما تدخل على الأمة ذكرى عاشوراء الحسين لا بد لها أن ترقى في ثقافتها وإرادتها وشخصيتها، وهذا لا يكون إلا من خلال بلورة قيم النهضة الحسينية في روح الأمة.