د. خالد الحليبي والاستاذة عالية فريد يشخصان قضايا الشباب:

الأستاذة الفاضلة عالية فريد

 د. خالد الحليبي والاستاذة عالية فريد يشخصان قضايا الشباب:
تحديات الشباب ..جمود الثوابت وعدوانية المتغيرات

إذا صحّت تلك القاعدة المنطقية التي تقول إن (ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء), فإن شريحة الشباب في بلادنا تعيش مرحلة تغييرات دقيقة وحساسة في سياق ما يجري، محلياً وإقليمياً ودولياً، تبعاً لما تفرضه هذه التغييرات والتغيرات من تحدّيات حضارية شديدة الأهمية.
شريحة الشباب هي الفئة الأعرض في التعداد السكاني في البلاد، وهو ما يعني أنها الأكثر تأثراً بأي مستوى من المنعطفات مهما بلغ هذا مستوى أي منعطف من الضآلة. وعليه؛ فإن التحديات الحقيقية ستكون في مواجهة متجددة، وتتطلب الكثير والكثير من المبادرات الحيوية التي تؤمّن مستقبل الوطن، بما يلائم بين ثوابته واحتياجات البناء الحضاري. وقد كشف مشروع الحوار الوطني، الذي تبنته القيادة السعودية، بعضاً من هذه التحديات، واستعرض جوانب من إشكاليات التنمية البشرية التي يمثل الشباب عمادها وعتادها. وهو ما دعانا في (اليوم) إلى التواصل مع واقع الشباب من خلال رؤيتين لشخصيتين مثقفتين من هذا المجتمع.. إنهما الدكتور خالد الحليبي والأستاذة عالية فريد.. اللذين طرحا وجهتي نظرهما فيما يمس الشباب وتحديات المرحلة الوطنية الراهنة..

الثوابت.. مفهوماً وتطبيقاً 
 بدأنا بالتساؤل الجوهري حول مفهوم "الثوابت" التي يكثر فيها الحديث في كل مكان هذه الأيام، إلى الحدّ الذي أصبحت تكراراً لكثير من مقولات سابقة، ونريد أن نسأل، أولاً، ما (الثوابت) التي تلائمنا؟ وما علاقة هذه الثوابت بالمتغيرات الراهنة؟ وإلى أية أرضية يستند جيل الشباب في فهم حقيقة الثوابت..؟
- د. خالد الحليبي:
إننا في لحظات مريبة من عمر الزمن، جعلت بعض الأقلام تجترىء على ما لم تكن تجترىء عليه من قبل، وأرعبت أقلاما أخرى فسكنت حتى جف حبرها، فقبرت غير مأسوف عليها. وبقيت أقلام واعية، تعيش تحت الشمس، ولا تقبل أن تتلفع بالغبار الذي يهال عليها من سفيف الرياح الهائجة، بل تحمل من الإيمان بدينها ما يبهر الأبصار، ومن الحب لأمتها ووطنها الغالي ما يعمر قلوبها، ومن الإبداع والتجدد ما يجعلها قادرة على صناعة النجاح أنى جرت، وفي أي زمن سعت، هذه الأقلام هي التي تعرف الثوابت كما هي دون تزيّد أو تميّع، ويمكنني أن أحاول تعريف الثوابت، بأنها تلك القضايا الكلية والتفصيلية التي جاءت بها شريعتنا السمحة والتي لا تقبل النقض ولا التبديل ولا التغيير كالإيمان والتشريع والاحتكام، والتي تبنى على قواعد منها : أن لها المرجعية الكلية، فلا تحاكم لغيرها في أي شأن من شؤون الحياة، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤءمِنٍ وَلا مُؤءمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمءراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الءخِيَرَةُ مِنء أَمءرِهِمء وَمَن يَعءصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدء ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً﴾ *سورة الأحزاب 33/36*، وأن نؤمن بأن لها كمالا مطلقا لا نقص معه، ولا شيء يشذ عنه، ولا أمر يخرج من دائرته، يقول الله تعالى : ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾، ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ﴾.
تلك ثوابت كلية، وليس المجال مجال تفصيل، وللثوابت أحكام وقداسة لا يجوز تعريضها لأي تغيير، وإنما التغيير ينال ما يسع الخلاف فيه من تفصيلات فقهية يسوغ فيها اجتهاد الأئمة والعلماء، على أن يدلل كل مجتهد على ما يقول.
أما علاقة هذه الثوابت بالمتغيرات الراهنة فإن ثوابتنا ينبغي أن تحكم كل التغيرات الراهنة، حتى يبقى لنا كياننا، وتتمخض لنا شخصيتنا، وينجو لنا تميزنا من محاولات التذويب التي تكتنفه من كل مكان، على أن هذا لا يعني عدم الانفتاح على العالم، والاستفادة من مستجدات العصر، ولك أن ترى الأمم التي تحترم نفسها كيف هبت في وجه العولمة الأمريكية ؛ لتحمي نفسها من أمركة شعوبها ؛ إلى درجة أن رفضت محطة بريطانية بث برنامج أطفال شبيه بـ(افتح يا سمسم) المشهور، ولعل ما اتخذته فرنسا من الإجراءات غير بعيد عن الأذهان، مع أن هذه الدول جميعها ذات هوية دينية واحدة، ومرجعية تاريخية واحدة. بينما نجد من يهرول من كتابنا خلف كل ما هو أجنبي.. فقط لأنه أجنبي، بغية التطور، متناسين كل محاولات الإبادة الفكرية والجسدية التي يمارسها الأجنبي في بلاد الإسلام باسم الديمقراطية والحرية.
ومع أهمية الفقرات السابقة، فإن الفقرة الأهم في سؤالك هي : إلى أية أرضية يستند جيل الشباب في فهم حقيقة الثوابت ؟ فالشباب في بلادنا تتوزعهم عدة اتجاهات، فهناك من لا يحمل هم الثوابت ولا المتغيرات ؛ إذ يعيش حالة من اللامبالاة المرضية (بفتح الميم والراء)، وهناك من يستند ـ في فهمه للثوابت ـ إلى ظلاميين، ليست لهم مرجعية علمية وتأصيلية معتدلة النظرة، بل لهم مرجعية تشددية، ذات منهج متطرف، رمت كل العلماء بتهم تتفاوت من العمالة إلى المداهنة إلى الجبن إلى قلة فهم الواقع إلى الخوف على الرزق، حتى تقطع على هؤلاء الأتباع كل رؤية معتدلة، وكل خط مستقيم يوصلهم إلى العلماء العاملين الواعين، فينفردوا هم بتعبئة أذهانهم بما يشاءون، وهناك شباب عرفوا الحق من أهله، فالتفوا حول علماء الشريعة، يفهمون كتاب ربهم وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من خلال الحوار معهم، دون أن يلغوا عقولهم، ولا يغلقوا أبواب الخصوصية في الفهم أمام عقولهم الطامحة المتطلعة، وضعوا أيديهم في أيدي ولاة أمورهم، فما خرجوا عن دائرتهم قيد أنملة، بل حفظوا لهم حقوقهم، وساروا بتوجيهاتهم، والجميع تحت حكم الله الواحد الأحد، أولئك هم مستقبل الوطن الواعد، وغد الأمة المنتظر.
ولكني أخشى على الشباب الذين غبشت صورة دينهم في عقولهم بسبب ما تعرضوا له من تأثيرات سلبية كثيرة من خلال الانفتاح الإعلامي الرهيب، أو من خلال الدراسة في الخارج، أو من خلال الاطلاع على الفكر المنحرف في أية مطبوعة، فهؤلاء اهتزت الثوابت في نفوسهم، وحاولوا من خلال الفهم ( الأدونيسي ـ الثابت والمتحول ) أن ينكروا وجود الثوابت أصلا، فكل شيء في ميزانهم قابل للتغيير، والتبديل دون استثناء، فلا مقدس في قواميسهم أبدا.

- الأستاذة عالية فريد:

صحيح أن مفهوم (الثوابت) قابل للاختلاف ويمكن تطويعه بين مجتمع ومجتمع، وربما بين فرد وآخر، ولكنّ لحمتنا الوطنية تفرض علينا، خاصة في هذه المرحلة، أن نعود إلى ما يجمع فئات المجتمع في ثوابت واضحة للجميع. من المؤكد أن مجتمعنا السعودي مجتمع متعددٌ نظراً لتعدد أقاليمه، واختلاف كلّ إقليم عن آخر في بعض التفصيلات، ولكن من الناحية الإجمالية هناك التقاء على ثوابت الدين واللسان والمصير ضمن وطن واحد. وهذه هي الثوابت التي تلائمنا، وهي ما يجب أن نواجه به المتغيرات الراهنة والمستقبلية.

إشكالية الانفتاح 
  أمام فهم الثوابت هناك إشكالية مقابلة اسمها (الانفتاح), وهو مفهوم خطير إذا ما التفتنا إلى واقع ما يجري في عالم اليوم. فما نشاهده في العالم يتعارض ـ أحياناً بشدة ـ مع ما نعتبره ثوابتنا. فأين يقف الجيل الشاب من متطلبات الانفتاح على العالم بكل ما يعنيه من تعدد قد يؤثر سلباً في أوضاع التفكير الاجتماعي لهذا الجيل؟

- د. خالد الحليبي:
الانفتاح سمة العصر، وهو من طبيعة عقيدتنا، فديننا لا يقبل الجمود، ولا التقوقع، وكلما امتدت آفاقنا إلى مكتسبات البشرية كنا أكثر جدارة بخلافة الأرض وعمارتها التي وردت في كتاب الله مع آدم عليه السلام، وذم الانفتاح على إطلاقه دليلا على قصور الفهم، ولكن الانفتاح قرين الحرية، والحرية على إطلاقها لا تقول بها كل شرائع الإنسانية، ومثلها الانفتاح، لا يمكن قمعه ولا يحسن ذلك، ولكن لابد من ضبطه بمهارة فائقة، تتضافر في ذلك التربية والتعليم والبيئة والبرامج الإعلامية، حتى لا نقطع شبابنا عن عالمه ودنياه وعصره، وفي الوقت نفسه حتى لا نضيع أكبر ثروة في الأمة، وهم الشباب، فقد نصبت لهم الشباك في كل مكان يهوونه، حتى في البعثات العلمية المحضة، وفي البرامج الترفيهية التي ظاهرها بريء أي من خلال الانفتاح غير المضبوط أمكن للمتربصين بنا تسريب جملة من شبابنا خارج دائرة الولاء لدينهم أو لأوطانهم.

- الأستاذة عالية فريد:

حين يعني الانفتاح قبول كل ما يتغير في العالم اعتباطاً فهنا تكمن الخطورة على كل فرد من أفراد المجتمع، وليس على فئة الشباب فحسب. والأخطر منه أن يشهد العالم تغيرات وتطورات ونقلات حضارية ونحن واقفون في موقعنا. وجيل الشباب هو أكثر فئة تتساءل وتتأثر بما يجري خارج الحدود وتتلقاه عبر وسائل الاتصال الحديثة. وهذا هو ميدان التحدي. وميدان التحدي يفرض علينا الاتجاه نحو القاعدة الاجتماعية لتعزيز ثقتها في قيمها الدينية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه نكون على صلة بمتطلبات الحاضر والمستقبل. وأريد أن أقول: من المهمّ أن نبني الشخصية الشبابية لتكون على مستوى احتياجاتها.

أسس بناء 
  الشباب هم امتداد الآباء والأجداد.. والآباء والأجداد هم صانعو القيم والقواعد الاجتماعية.. والشباب، بدورهم، سيصنعون قيماً وقواعد لأبنائهم.. السؤال: ما أسس البناء التي نبغي على الشباب وعيها من أجل بناء المستقبل..؟

- د. خالد الحليبي:
من أبرز الأسس التي نتمنى من شبابنا أن يعيها التالي :
أولا : تسليمه بثوابته التي بينتها في مطلع اللقاء، والإيمان بها، والدفاع عنها.
ثانيا : دراسة الماضي المجيد الذي عزت فيه أمته، ثم دراسة التحول الذي حدث.. لماذا حدث ؟ وكيف تكون العودة المبدعة، التي لا تعني التراجع، ولكنها تعني تثبيت الأقدام والتبصر بالطريق، ثم الانطلاقة على هدى وعلم وتربية، لبناء مستقبل لائق بعصر التطور والإبداع الذي نعيشه.
ثالثا : تكوين الشخصية المتكاملة، ذات السلوك الرفيع، والمهارة في اختصاص معين يخدم من خلاله وطنه وأمته.
رابعا : الولاء لله تعالى ولدينه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم لوطنه وولاة أمره، حتى يحس الشاب بالانتماء المتوازن، الذي يملأ عليه جوانب نفسه، فلا يبقى مكان فارغ يمكن أن يكون فرصة للآخرين أن يملأوه بما يعكر صفوه، ويغير طعمه ولونه وريحه.
خامسا : أن تكون أهدافهم في حياتهم واضحة تمام الوضوح، لا غبش في الرؤية، ولا تقاطع بين الرغبات الخاصة والمصالح العامة للوطن والأمة، بل تكامل وتضافر.

- الأستاذة عالية فريد:
اتركوا للشباب فرصة صناعة قيمهم الملائمة لاحتياجاتهم، ولكن بعد أن يعوا قيم الآباء والأجداد. أيقظوا فيهم همة البحث والتنقيب والتجربة بعد بناء وعيهم. ساعدوهم على الخروج من المأزق الراهن، لتحقيق التوازن بين الثابت والمتغير في تفكيرهم، ومساعدتهم على إعادة المفاهيم المتوارثة، دينياً واجتماعياً، بعيداً عن الأحكام المسبقة التي تؤسس التشنج والتطرف. الشباب في حاجة إلى ثقافة ناهضة بقيم حية وحيوية وواعية، فلا تلغي التراث أو تتهاون به. وحسب اعتقادك هناك حاجة ماسة إلى حاسة سابعة تميّز بين غث الثقافات وسمينها، حتى نعرف على أية أرض صلبة نقف ويقفون معنا.

الشباب.. مصدر للخوف..! 
  أحياناً يبرز الخوف على الشباب من الشباب أنفسهم.. وكثير من مفردات هذا العصر تشير إلى مخاوف جدية.. في نظركم ما مصادر هذا الخوف.؟؟

- د. خالد الحليبي:
لا بد أن أقرر حقيقة تربوية، تشير إلى أن نفسيات الشباب ينبغي ألا تبنى على الخوف والتقهقر، والتردد، والقلق، فكل هذه مدمرات نفسية يخشى منها بلا شك لأن تؤدي إلى هدم النفسية المقدمة الباذلة المنافسة المسابقة، وهنا ندعو الآباء والمعلمين أن يتجنبوا توريث المخوفات العتيقة، التي جعلت كثيرا من الجيل القريب من جيل الشباب جيلا ينقصه كثير من الجرأة، ويتسم بالانغلاق، وقلة الإبداع ؛ لكثرة ما عاش في وسط ( خواف )، وهناك مخاوف صادرة منا نحن المربين على نشئنا الناهض وشبابنا المتوقد، من أن تستغل رغباته واندفاعاته الفطرية في تحقيق مآرب أخرى، سواء أكانت ذات علاقة بالعمالة للأعداء، أم لتنفيذ مخططات الإرهاب، أم لمجرد تكسير مجاديف القوة الشبابية في أجنحتهم، مثل نشر المخدرات والتفسخ الجنسي والاستهتار بالقيم، والانكباب على دعارة التلفاز والإنترنت، حتى تستهلك طاقته فيما لا ينفع.

- الأستاذة عالية فريد:
هناك خوف من الشباب على الشباب أنفسهم، وهناك خوف من المؤثرات الخارجية اللامسؤولة على الشباب، وفي مقدمتها التعصب. وهناك خوف من رفقاء السوء وأعداء النجاح والمنحرفين سلوكياً. والخوف هنا طبيعي فالواقع يشهد بانجراف أعداد ليست قليلة نحو المخدرات والانحرافات السلوكية التي تتهدد المجتمع. ومن حقنا اليوم أن نخاف على الشاب من نفسه، ولكن ليس من حقنا أن نجعل من خوفنا وسيلة لجعلنا أوصياءَ متحكمين في كل تفصيلات حياته واحتياجاته. وإذا كنا حقاً حريصين على أبنائنا فلنسأل أنفسنا: ماذا صنعنا لهم؟ وماذا بذرنا فيهم من قيم؟ وماذا نسينا منها؟ والقاعدة تقول: كن كما تحب أن يكون ابنك..!

ماضٍ.. و مستقبل
في كل جيل تتكرر تلك المقولة التي تفيد بأن (شباب الأمس أفضل من شباب اليوم)، سحباً على مقولة مشابهة تفضّل الماضي على الحاضر في القيم والأخلاقيات.. في نظرتكم التحليلية؛ لماذا يعود الناس إلى (أفعل التفضيل) هذه؟ وهل يعني ذلك ـ ولو نظرياً ـ أن شباب اليوم سيكونون أفضل من شباب الغد؟

د. خالد الحليبي:
أولا أنا لا أرى أن شباب الأمس أفضل من شباب اليوم، بل شباب اليوم أفضل من شباب الأمس القريب بلا شك، ودليلي هو ارتفاع منسوب التأهيل النفسي والعلمي والعملي لجيل اليوم، وارتفاع تطلعات كثير من أفراده، على أنه في كل جيل يوجد من يعثر فيه، ومن يقع، ومن يرتفع فيكون في سمائه نجما لا يضاهى.
وأتوقع أن شباب الغد سيكونون بإذن الله أفضل من شباب اليوم ؛ لكثرة الإمكانات المتاحة أمامهم، ذلك إذا سرنا بطريقة صحيحة في حمايتهم من مخططات التدمير، ووجهناهم بعناية وتقدير لملكاتهم وشخصياتهم، ثم وجهناهم ليكونوا في الطريق الذي يتميزون فيه، لا الذي نريدهم نحن فيه، فكل ميسر لما خلق له، وأظن أن كثيرا من البرامج تقام الآن وستقام بإذن الله ؛ لنصل إلى هذا الهدف الأسمى.

- الأستاذة عالية فريد: 

يعود الناس إلى الماضي ويتحسرون عليه لأن ما بقي من الماضي هو ذلك الضوء الصغير الذي تنفذ منه العاطفة إلى الوجدان. ويتناسون الظروف المؤثرة. إنهم يكررون ما يقوله شاعر عربي:
ربّ يومٍ بكيت منه فلمّا

صرتَ في غيره بكيتَ عليه
الماضي جميل، والحاضر مضجر، والمستقبل مجهول. إنها قاعدة يتذكرون، من خلالها، شاب الأمس الذي كان يغضّ طرفه حين يمرّ في الطريق بنساء قريته، ويقيسونه بشاب اليوم الذي يسهر الليالي بين مواقع الإنترنت المرفوضة. وهذا ـ في نظري ـ قياس ظالم ومعمّم أيضاً؛ لأن النظرة إلى الماضي اقتصرت على نموذج إيجابي، في حين لم ترَ النظرة إلى الحاضر إلا نموذجاً سلبياً. وبعد ثلاثين عاماً سينظر الناس إلى شاب اليوم على أنه يتجنب المحظور أخلاقياً ويقيسونه بشاب من الزمن القادم في حالة أسوأ. وهذا يعني أن جيل الغد سيكون أسوأ من جيل اليوم..!!

معادلة التعليم
تُوجه الانتقادات إلى التعليم والمناهج الدراسية، بالحق وبالباطل. وبعض الانتقادات يرى التعليم متهماً بالتركيز على الجانب النظري.. وبعضها يتجاوز ذلك إلى اتهام التعليم بالوقوع في التعليم (الروحي) على حساب الحضاري.. ما ـ في نظركم ـ المعادلة المناسبة لجعل التعليم فاعلاً حضارياً وروحياً..؟

د. خالد الحليبي:
كل من يستقريء التاريخ سيجد أن العلوم الإنسانية لا التجريبية هي أساس النهضات، حتى الثورة الصناعية كان أساسها نظريا، وفلسفاتها إنسانية بحتة، ولكنها اتكأت على الصناعة، إذن فإن الالتفات إلى الاختصاصات العلمية البحتة، على حساب الروحانية أو الأدبيات هو جهل بحقيقة نهضة الشعوب، وفي العصر الحديث يحتل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ منزلة عظمى في الدول الكبرى، وها قد عادت أمريكا إلى تصحيح الوضع السلوكي المتدهور بين طلبتها في جميع المراحل عن طريق تجديد العهد بالمقررات التشريعية الدينية التي استبعدتها فترة من الزمن ؛ لترجع أقوى مما كانت عليه ؛ لمواجهة الانحلال الخلقي الذي وصلت إليه، فيما تندفع أقلام اليوم لهجاء أي تعليم ديني أو إنساني، وهو من طبيعة المتعجلين الذين يركبون الموجات دون تأمل أو مراجعة أو توسط، أو حتى تفكير في مستقبل الوطن الذي يعرفون خصوصيته فيتجاهلونها عمدا، لتحقيق مآرب شخصية، مبناها على الهوى والرغبة الحادة.

- الأستاذة عالية فريد:

أولاً لا توجد حضارة ناضجة دون روح أصيلة تنعكس فيها قيم المجتمع المتحضر. الحضارة ليست ناطحات سحاب وأسلحة متطورة وتقنية تلغي المسافات بين البشر. واهتمام التعليم بالجانب الروحي أمرٌ إيجابيٌّ وليس سلبياً، ولا توجد مشكلة حين يهتمّ المربون بقيم المجتمع الدينية التي تربيهم على مباديء سليمة. ولكن ينبغي أن يراعي التعليم، أيضاً، قيم التسامح وقبول الآخر واحترام الاختلاف. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن انتقاد المناهج مورس من قبل الباحثين والتربويين ومن قبل المجتمع نفسه، وفي حالات كثيرة كان النقد وجيهاً وواقعياً ومنسجماً من متطلبات واحتياجات حقيقية. وبحساب النتائج؛ فإن التعليم تسبب في إشكاليات اقتصادية واجتماعية، على سبيل المثال قدم خريجين لا يجدون لشهاداتهم مكاناً في سوق العمل، في الوقت الذي ضاعف الحاجة إلى كثير من التخصصات. ولو اعتبرنا ميدان الطب نموذجاً؛ فإننا سنرى أن بلادنا في حاجة ملحّة ومستمرة إلى الكوادر الوطنية في حين يخرج التعليم العالي أقل من 3 بالمائة من الخريجين سنوياً. ولو تابعتَ جامعاتنا فإنك لن تجد أستاذاً واحداً في تخصص الحاسب الآلي ضمن هيئة التدريس. وهنا يجب علينا أن نلتفت إلى ضرورة أن يعيد التعليم في بلادنا النظر إلى المتطلبات المستقبلية التي تهمّ أجيال الشباب الحالية والقادمة.

طاقات منسية
كشفت أشكال التواصل الحديثة (كالإنترنت مثلاً) عن طاقات وقدرات ومواهب لم تكن لتنكشف لو لم يتوافر هذا النوع من التواصل. في حين تبدو المؤسسات الشبابية بعيدة عن واقع ما يحتضنه الشباب من طاقات كامنة.. في رأيكم ما مستوى تقصير هذه المؤسسات؟ وما المطلوب منها لإحداث تحسينات تجاه واقع الشباب؟

د. خالد الحليبي

 أية مؤسسة حديثة تعنى بأمر الشباب مطلوب منها على وجه السرعة أن تنفض عنها غبار الكسل والرضا من الغنيمة بالإياب والتكرار الممل، وتعاود الكرة لتجديد كل أساليبها، وإلا فلن يصغي الشباب إليها، بل سيتحول عنها إلى من سيشوه فكره، ويمسخ معتقده. إذن إذا أردنا أن نحتفظ بشبابنا يجب علينا أن نوفر له البرامج التي تشبع نهمه للتطور، دون أن نسيء إلى تربيته، أو نسمح له بأن يجرب الانحراف عن طريق برامجنا نحن، وهنا تكمن إشكالية التعامل مع الشباب، وصعوبة وضع البرامج لهم.
ثم متى سيبقى شبابنا بعيدا عن الأيدي التي تستثمر مواهبه، وتدفع إبداعه إلى الإنجاز، بدلا من أن تبقى المؤسسات الشبابية مجرد ملاعب لتسليته وتزجية وقته الأنضر في حياته، لماذا لا تنشأ محاضن تربوية مختصة في توجيه الشباب إلى الإبداع فيما يحسن، بدلا من التعامل مع الأكوام، حيث يزدحم أكثر من أربعين طالبا في فصل واحد، وأكثر من مئة في قاعة جامعية واحدة.. كيف سيظهر الإبداع في جو كهذا ؟

- الأستاذة عالية فريد: 

في كل زمان ومكان تتساقط مواهب وطاقات وتبرز مواهب وطاقات. فإذا قلتَ: إن البقاء للأصلح فذلك صحيح. وإن قلت: البقاء للأقوى فذلك صحيح أيضاً. والانترنت لم تكشف فقط عن المواهب، بل أيضاً أعطتء قوة للموهوبين لم تكن موجودة، وهي قوة النشر، ولكنها ـ بالمقابل ـ خلطت الأصلح بالأسوأ. ولا أريد أن أقول كشفت، أيضاً، عن تقصير المؤسسات، فالتعبير الصحيح هو أن الإنترنت نبّهت المؤسسات إلى تحدٍّ لم تكن تراه. والمطلوب منها أن تحدث تحسينات ـ بل تغييرات جذرية ـ في سياسة احتواء الطاقات الشبابية كماً ونوعاً، ليس على مستوى الرياضة فحسب، بل على مستوى الثقافة والمعلوماتية والتقنية، ناهيك عن الأنشطة الاجتماعية المختلفة.

تناقضات حادة 
  الأحداث التي شهدتها البلاد في السنوات القليلة الأخيرة؛ لفتت النظر إلى ظهور تناقضات حادة في واقع الشباب؛ فمن جهة هناك الغارقون في اللامبالاة، ومن جهة أخرى هناك الواقعون في شرك أفكار مدمّرة. في نظرتكم الخاصة.. أين يكمن الخلل؟

- د. خالد الحليبي:
يكمن الخلل في التربية ونوع العلاقة الممتدة بالشباب، فالطفل يلقى عناية فائقة من الأهل والمدرسة، وتعاملا لا بأس به في كثير من الأحيان وليس دائما بالطبع، وما أن يبلغ مبلغ الشباب حتى يفطم من كل صلة، ويلقى في الشارع ليتغذى كما شاء ممن شاء، فقسم يغرقون في اللامبالاة، وآخر يتأثر بالأفكار المدمرة ؛ تبعا لمن يلقاهم أو يلقونه في أجواء قد تكون سافرة وقد تكون تحت الأرض.

- الأستاذة عالية فريد: 
 كم هو موجع هذا السؤال.. نعم موجع حين ترى شاباً مستهتراً بكل قيمة دينية أو اجتماعية. وموجع حين ترى شاباً آخر ينخرط في مجموعة ضالة فيلحق الضرر بمقدرات الوطن والمجتمع. وليس من السهل تحديد موضع الخلل في جهة أو مؤسسة. ولكن يجب علينا أن نعترف بأننا مطالبون بالبحث عن مواضع الخلل بجدية أكثر، للخروج من النفق الضيق المظلم الذي نمرّ به. من حق مستقبلنا الوطني علينا أن نضاعف جهودنا، مربّين ومعلمّين ومسؤولين، في رعاية النشء والشباب وتهيئتهم تهيئة سليمة ومسالمة لمواصلة البناء.

الشباب.. والمسؤولية..!
إذا افترضنا أن مؤسسة الأسرة تتحمل جزءاً من التقصير، إلى جانب تحمّل مؤسسات التنمية جانباً آخر.. فما الذي يتحمّله الشباب أنفسهم في تقصير.. بمعنى: ما الذي يتعين على الشباب النهوض بمسؤوليته إزاء حاضرهم ومستقبلهم..؟

د. خالد الحليبي:
نعم.. ينبغي أن يتحمل الشاب مسؤولية مستقبله، بالجدية في الأخذ بزمام المبادرة في جميع ما يوكل إليه، بدءا بدراسته، فقد تعبنا من هذه النتائج الهرمة، والتي لا تجد في كل مئة اسم منها واحدا يصل إلى درجة الامتياز في صفوف الذكور بالطبع، بينما البنات يتفوقن كثيرا ويتحملن التزاماتهن بجدارة، وهذا الفشل في سوق العمل، بسبب الميوعة، ورفض أنواع من العمل بحجج تدل على نعومة لا تليق بالرجال، لا بد من تأهيل الذات لخوض الحياة الخشنة، وكفى الشباب تعذرا بالواقع، وإلقاء للتبعات على الآخرين، فمن قعد لن يجد من ينوب عنه في مهامه، ومن نهض وجد واقتحم سيجد كثيرين يدعمونه ويدفعونه للعمل والنجاح بإذن الله.

- الأستاذة عالية فريد: 
 حتى نحمّل الشباب أي مستوى من المسؤولية يجب علينا أن نبحث في مسؤوليتنا. الشباب هم ـ في الواقع ـ نتاجنا نحن، وامتدادنا البشري، بما نحمل من سمات وصفات وأفكار وقيم سلبية أو إيجابية. فإذا كان الأمر كذلك؛ فإن علينا أن نعيد التساؤل الذي ذكرته سابقاً: هل نمارس البناء التربوي السليم الذي يُنتج جيلاً صالحاً في أخلاقياته وسلوكياته وأفكاره وقيمه؟ أم أننا مجرد أمهات وآباء عاجزين عن بذر قيم الخير والتسامح. كيف نطالب الشباب بأن يكون نماذج صالحة في حين لم نحقق لأنفسنا أن نكون نماذج صالحة؟ والمعنى علينا أن نتطلق من أنفسنا حين نبحث عن مسؤولية الشباب.

الحوار الوطني
قبل أسابيع كان الحوار الوطني معنياً بقضايا الشباب.. وفي فعاليات الحوار برزت الكثير من الإشارات إلى واقع الشباب.. في رأيكم ما الذي أخفق الحوار الوطني في العناية به؟ أو لم يعطهِ أولوية مستحقة..؟ وما قراءتكم لهذه الفعالية على نحو عام؟؟

د. خالد الحليبي:
دعني مما أخفق فيه، فالتجربة جديدة، ومن حقها أن تأخذ مداها لنستطيع أن نقف أمامها منتقدين، وفي نظري أننا يجب أن نشيد بها، فالتجربة غنية بالإيجابيات، يكفيها أنها استمعت إلى الشباب مباشرة، وجمعت بين شيوخ الوطن وفتيانه في إضمامة واحدة، ووضعت كثيرا من القضايا التي يتحرج منها كثيرون على مائدة الحوار بكل أريحية، أنت تعلم كم يشتاق الشباب إلى من يفهمهم، فقد تعبوا من الأستذة الممارسة عليهم في المنزل والمدرسة والنادي والمركز والشارع، ملوا.. وجاءت الفرصة لكي يتحدثوا هم ونحن نستمع. أيا كانت النتائج، وأيا كانت التطبيقات بعد ذلك.. لو لم نجن إلا ثمرة واحدة هي أننا بدأنا نتحاور لكفانا.

- الأستاذة عالية فريد:
ولماذا لا نسأل عما نجح الحوار الوطني في العناية به.؟ لقد فتح الحوار الوطني أبواباً لا نوافذ. وأعطى التحاور مدى بلغ الأقصى من الحرية والتفاعل والتشاور والنقاش، وانتهى إلى توصيات بناءة. وفي رأيي هناك جانبٌ مهم بقي على المجتمع ممارسته مع جيل الشباب واحتياجاتهم، إلى جانب ما على المؤسسات الحكومية أن تفعّله للتعاطي مع أوضاع الشباب. ولهذا فإن التحدي الحقيقي نحو التغيير القادم، في مسألة الشباب، موجودٌ حقيقة في الأوساط الاجتماعية، التي تبدو ـ حتى الآن ـ بطيئة في استيعاب كثير من التغييرات.